في إحدى زوايا الطابق الثالث من مبنى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء يوجد مكتب الرئاسة الأولى للمحكمة، وكأن الراحل التراب، فضل الانزواء بعيدا عن الزخم، حتى يجد حرية كبيرة في تفحص عشرات الملفات وآلاف الوثائق الخاصة بتسيير المحكمة، مادام الرجل «يفضل العمل في صمت، بعيدا عن البهرجة والأضواء»، حسب شهادة مصدر قضائي. رجل متوسط القامة، مهيب الطلعة، له مشية قصيرة الخطى، ظريف محبب. صورة حفرت عميقا في ذاكرة موظفي المحكمة، بدءا من رجال الأمن الخاص وعناصر الشرطة، ومرورا بالمحامين والقضاة. كانت كلماته الهامسة بالكاد تنبثق من شفتيه، حينما يرد التحية على الكل بدون استثناء. صباح السبت الماضي، طرقت الأحزان مجددا باب استئنافية البيضاء، وذلك بعد أقل من أسبوع على وفاة القاضي عبدالحق شاهين. هذه المرة رسالة «الأستاذ مصطفى التراب في ذمة الله»، كانت الكفيلة بحمل خبر نعيه. عديد الذين خبروا القاضي الراحل، لم يجدوا أمام النبأ الحزين، سوى التسليم ب «سبق القضاء والقدر». الراحل فارق الحياة صباح السبت الماضي، داخل جناح الإنعاش الطبي بالمستشفى العسكري بالرباط، وذلك أياما بعد إعلان تعيينه رئيس غرفة بمحكمة النقض، طبقا لقرارات الدورة الأخيرة للمجلس الأعلى للقضاء، وكذلك تنصيبه في إطار مقترحات التعيين في مناصب عليا، حسب المجلس الحكومي في 5 شتنبر الحالي، مديرا عاما جديدا للمعهد العالي للقضاء. تعيين ربطه مقربون من الراحل، باعتباره باحثا وصاحب مساهمات فكرية رصينة ودراسات ثرية في مجال القضاء الإداري. وحسب مصدر مطلع، فقد تم نقل الفقيد، يوم الإثنين 2 شتنبر الجاري إلى المستشفى العسكري بعد تدهور حالته الصحية، بسبب مضاعفات ميكروب أصاب جهازه التنفسي، ناتج عن جهاز التكييف. عادت حالته الصحية إلى الاستقرار، لكنه دخل في غيبوبة مستمرة، إلى أن أسلم الروح، ساعات بعد حفل تنصيب خلفه الحسن الكاسم. القاضية رشيدة أحفوظ، رئيسة الجمعية المغربية للقضاة، كانت على رأس وفد من القضاة، قام بزيارة تفقدية لزميلهم الراحل، عبرت في اتصال هاتفي مع الجريدة، عن حزن وأسف الجمعية المغربية للقضاة، عن فقدان مسؤول قضائي بقيمة الأستاذ التراب، الذي حرص لعقود على سير حسن العدالة، «كان بابه مفتوحا أمام الجميع، بمن فيهم المتقاضون، الذين كان يحرص على تتبع ملفاتهم وشكاياتهم، ولم يسبق له التدخل في ملف»، تقول القاضية أحفوظ، بنبرة حزينة، مضيفة «القضاة بكوا عليه خلال جنازته بحرقة، لكونه كان قريبا منهم بالنصح والتوجيه. كان يرسل لهم مذكرات يحثهم فيها على البت في ملفات المتقاضين في أقرب الآجال. كان رحمه الله يطبق العدالة بحذافيرها. الأستاذ التراب كان رمزا لاستقلال القضاء»، تختم رئيسة الجمعية المغربية للقضاة. الراحل مصطفى التراب، كان متخصصا في القضاء الإداري، وعُرف بهدوئه الشديد وكفاءته المهنية واهتمامه الكبير بالبحث والعمل الأكاديمي، وتقلد عدة مناصب مهمة في بداية مشواره المهني بمجموعة من الدوائر القضائية، لاسيما العاصمة الرباط، حيث عين للقيام بمهام رئيس المحكمة الابتدائية الإدارية، ثم شغل منصب الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بنفس المدينة، قبل أن يتم ترقيته إلى الدرجة الاستثنائية، ويٌكلف بمهام الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بالدائرة القضائية الدارالبيضاء. محمد كريم كفال