كثيرة هي الأفكار والمواقف التي بحكم وقوة ترسخها وتجذرها في العقول، أصبحت موجهة للشخصية ومحددة لمدى ومجال الرؤية الاجتماعية والسياسية لدى الأفراد. وقد تتحول إلى إيديولوجيا متحكمة تسود عامة الناس في المجتمع، ويكون ضامن استمرارية سيادتها هم من نطلق عليهم عادة نخبة هذا المجتمع، من رجال الفكر والسياسة والدين. والذين بسببهم يسود الجمود إن هم ركنوا إلى زوايا نظراتهم ونظرياتهم ورؤاهم الثابتة التي تشكل سند مواقفهم المبدئية من القضايا والأوضاع رغم التحولات التي تحدث على كل الأصعدة الاجتماعية والفكرية وحتى المناخية العامة. وما يلحق نفسيات أفراد المجتمع من ملل يغذيه في كل يوم بل في كل ساعة ما يعيشونه من حالات الجمود والركود وعدم تبدل أحوالهم أو ظهور ما يمكن اعتباره بصيص الأمل في حياة بدون تفكير مضني ومزمن في كيفية تدبير زمن اقتصاد العيش بكرامة دون اللجوء إلى رسم الخطط المغامرة المؤدية إلى تعريض الذات إلى ما يتعارض مع مقتضيات القانون ويتنافى مع الأخلاق العامة. إن ازدياد وتفاقم ظواهر الجريمة وكل أشكال النصب والاحتيال واعتناق كل مذاهب قضاء الحاجة بالدوس على حقوق الآخرين والضرب بعرض الحائط على ما يصون كرامتهم ويحمي حقهم في العيش في أمان وطمأنينة إلا دليلا على فقد المواطنين مكرهين لكل القيم التي تعلي من شأن عزة النفس وتدفع إلى ركوب أحصنة الأنانية الفردية الجامحة. هو ما تراه العين كل يوم وتسمعه الأذن في أماكن العمل والأسواق، والطرقات والأحياء، والمساكن المجاورة وفي ساحات اللعب وقاعات الانتظار. الجميع يرمق الجميع بنظرات الحيطة والحذر، والتوجس أضحى حالة نفسية طاغية على المشهد المجتمعي العام. وأوضاع الغالبية العظمى من المواطنين في أحوالهم المعيشية الحرجة تقود إلى الاعتقاد بأننا مازلنا بعيدين كل البعد عن مجتمع الاستقرار والرفاه، وأننا لم نخرج بعد من دوامة حياة الخوف والحيرة والقلق والاضطراب. لقد أصبح الزمن المغربي مخيفا حقا وباعثا على القلق اليومي، ولم يعد الناس يفكرون إلا في كيف يحلون مشاكل الدورة السنوية بكل مستلزماتها ومناسباتها ومتطلباتها من أكل وملبس ودواء وأثاث وأداء لفواتير الماء والكهرباء وأداء شهري مواظب لأقساط القروض ومستلزمات دراسة الأبناء وتوفير الحد الأدنى من النقود لمواجهة ما يباغت به الزمن المواطن لا قدر الله من مصائب وكوارث. لا يعيش المواطنون في أمان واستقرار، ما دامت الغالبية العظمى تعاني من مشكل السكن. ولا يعيش المواطنون في أمان واستقرار، ما دامت الغالبية العظمى ليس لها سند يعضد أزرها حين يأتي المرض وحين ينهي الأبناء دراستهم فلا يجدون الشغل، ولا يجدون ما يصرفون به على أنفسهم دون أن يظلوا عالة على آبائهم وأسرهم. يعيش العامل البسيط في المعمل خوفا مزمنا من التوقف عن عمله وهو يعرف بأن ليس هناك قانون يحميه من الضياع، ويعيش الفلاح الصغير فوق أرضه خوفا مزمنا من أن لا تجود السماء بمطر يضمن له محصولا زراعيا يجنبه الضياع، ويعيش الموظف الغارق في ديونه من شركات القروض خوفا مزمنا لأن راتبه يوشك على الانقضاء ولم يعد بمقدوره الاستمرار في العيش فيبدأ هاجس البحث عن مصادر وموارد جديدة من أجل استكمال مسيرة الحياة، وقد يفكر في لحظة انهيار عصبي في وضع حد لهذه الحياة. ويعيش التلميذ والطالب في حالة خوف من المستقبل وهو يرى مآل من سبقوه من الحاصلين على الشواهد. يعيش التجار الصغار أيضا حالة مزمنة من الخوف لأنهم يعرفون أن تقلبات الأحوال الاقتصادية وعدم استقرارها وعدم توفرهم على ضمانات تؤمن لهم رأس مالهم الذي هو ضامن استمرار حياتهم المستقرة. وحدهم ذوو الرساميل الضخمة والحسابات والأرصدة البنكية الكبيرة هم الذين يعيشون على «جنب الراحة» مطمئنين آمنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لأنهم لا يعرضون رساميلهم لرواج اقتصادي أو تجاري منعش للاقتصاد ومشغل لليد العاملة، ترويج مالي من شأنه أن يستجيب سلبا لأزمة مالية محلية أو عالمية تضربه فتكسر عظمه ولن يتقوى بعدها. الرأسماليون في المغرب لا يهمهم أن يروا بلدهم ينهض وأبناءه يخرجون من دوامة الخوف المزمن والحرج وعدم الاستقرار، فهم يكفيهم أن يروا أنفسهم وأبناءهم وذويهم غير فاقدين للحياة الناعمة المترفة في جنات الدنيا وفي كل بقاع العالم المخصصة لذوي المال والنفوذ والشهوات التي لا حدود لها. هذه هي الصورة الاجتماعية العامة للأوضاع في بلدنا، وهي للأسف الشديد لم تتغير إلا قليلا جدا جدا، ولست من المتشائمين أو الحاقدين أو الجاحدين، ولكني من الشاهدين. فمن يغير الصورة إلى أحسن؟ وإن تغييرها لممكن إذا ما تمت استعادة حياة الضمير ليتوقف النزيف وتستقر الأحوال النفسية والاجتماعية، وبعدها يبدأ بناء مشاريع النهضة الشاملة، اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا في الصناعة والفلاحة والتجارة والإدارة والتربية والتعليم. لا يجب أن نضيع مزيدا من الوقت في التفكير والنقاش حول السبيل الديمقراطي، فلقد أبانت الأحداث الأخيرة التي عاشها العالم العربي الإسلامي أن الرهان على مدخل ديمقراطية الصناديق في مجتمع فاقدة أغلبيته للأهلية الفكرية والسياسية هو رهان خاسر، ولن تصلح أحوال البلاد والعباد نخبة فوضتها أغلبية تعاني من الأمية والجهل وضيق اليد، إنما الذي يؤهلها كفاءات وطنية من رجال ونساء يُرَاهَن على وطنيتهم وتكوينهم العلمي الرصين والحديث وضمائرهم الحية. لقد انتهى مسار العمل من أجل إصلاح منظومة القضاء إلى حقيقة وهي ما تم التعبير عنه في الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى الرابعة عشرة لعيد العرش، حين أكد الملك أن إصلاح القضاء لن يتحقق إلا من خلال إعمال ضمير القاضي. إن الضمير وحده يكفل ويضمن الإنجاز الوطني المنشود في مجال التنمية البشرية بالتحديد ثم تليها التنمية الاقتصادية والواقع أنهما يسيران جنبا إلى جنب. وعود على بدء فإن هذا الإصلاح المنشود على صعيدي التنمية البشرية والاقتصادية يستلزم إعادة النظر في كثير من أفكارنا ورؤانا وتصوراتنا ومواقفنا التي طبعت عقول وشخصيات نخبتنا الفكرية والسياسية، إعادة النظر في الخطاب الذي عليه أن ينتقل من خطاب يساير ميولات ديكتاتورية الأغلبية العددية المغلوبة على أمرها والمقهورة والجاهلة، والتي لا تدرك سبيل الإصلاح الحقيقي إلى خطاب يستنهض الضمائر والقوى الوطنية الحداثية الحية والغيورة حقا على بلدها وأهله. فلم يعد هناك مجال للانتظار أو جبر خاطر كل ذي عقيدة ولو كانت مبنية على هوى النفس الأنانية، والتي لا تنظر إلى الواقع كما هو وإلى ما يمكن أن يؤول إليه وأيضا يطرح سؤال بأي جرأة يمكن تغيير هذا الواقع؟ جرأة تنطلق من رؤية مستقبلية تشرع في تجسيد نفسها على أرض الواقع بتحطيم كل الأصنام التي طالما كانت هي سبب جهل الغالبية التي ستقضي على هذا الجهل لتتهيأ لها سبل الاختيار الصحيح والسليم، لنخبة لا تعيد أخطاء الماضي ولتشجيع القيادة على اتخاذ قرارات الحسم النهائي مع كل ما من شأنه أن يعيق الوصول إلى مجتمع الرفاه الذي يعيش فيه المواطنون حياتهم على إملاءات الضمير الوطني الإنساني الحي وليس على شيء آخر.