شكل نجاح «الثورات العربية» في تونس ومصر مجالا خصبا للباحثين والمحللين للوقوف على أسباب وتداعيات هذا الحدث التاريخي بامتياز. وقد ركزت معظم التحاليل على طبيعة الحكم الاستبدادية والسلطوية كعامل أساسي وحاسم لتفسير ثورة الشعوب العربية وانتفاضتها ضد حكام فقدوا الشرعية بعد أن احتكروا السلطة بالكامل وزوروا الانتخابات لصالحهم ونشروا الفساد وضربوا عرض الحائط بقيم النزاهة والشفافية والديمقراطية كما استأسدت في عهدهم قوى الأمن وتعاظم نفوذها لدرجة أصبح يطال مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير أن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية لا تقل أهمية في اعتقادنا في تفسير اندلاع الثورات العربية : فالنموذج النيوليبرالي المبني على ثلاثية (تحرير الاقتصاد، الخوصصة، التثبيت والتقشف)، إن هو مكن من تحقيق معدلات نمو اقتصادي مهمة (6 إلى 7 ٪ في مصر وتونس)، فإنه لم يفض إلى توزيع عادل لهذه الخيرات على مختلف طبقات الشعب، كما أن هذا النمو اتسم بتفاوتات مجالية كبيرة (حالة تونس على الخصوص)كما أبان هذا النموذج على هشاشته إبان اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في سنة 2008 ، حيث تراجعت معدلات النمو والاستثمارات الأجنبية وتقلص التصدير إلى الأسواق الخارجية وانخفضت عائدات السياحة وتحويلات العمال المهاجرين، وقد زاد هذا المعطى الجديد من تفاقم الأوضاع الاجتماعية التي أدت إلى ثورة الشعوب العربية، حيث ارتفعت نسبة البطالة والفقر وتعددت مظاهر التهميش والإقصاء الاجتماعي وترهلت الطبقات الوسطى وتراجعت وظيفتها الاجتماعية. إن العوامل الداخلية التي أشرنا إليها لم يكن لها أن تنتج ربيع الديمقراطية العربي لولا تضافر عوامل خارجية تحتل فيها العلاقات مع أوروبا مكانة بازرة، فلم يكن للاستبداد أن يتجبر في البلاد العربية لولا تزكية ومباركة الاتحاد الأوروبي الذي اعتبر بأن هذا النوع من الأنظمة السياسية هو الكفيل بحماية مصالحه وضمان الاستقرار في جنوب وشرق المتوسط ومنع تعاظم نفوذ التيار الإسلاموي، تغاضت أوروبا عن التنديد بكل التجاوزات في مجال الديمقراطية وحرية التعبير، ولم تعر اهتماما لانتهاكات حقوق الإنسان، والحال أن كل هذه الممارسات تتناقض والقيم التي تعتبرها من مرتكزات سياستها الخارجية في المقابل، لم تتوان الشراكة الأورو متوسطية تحت مختلف مسمياتها (مسلسل برشلونة، السياسة الأوروبية للجوار، الاتحاد من أجل المتوسط) في دعم وتشجيع البلدان العربية على تبني النموذج الاقتصادي النيوليبرالي عبر آليات التبادل الحر والمساعدة المالية المقدمة لتسهيل الانتقال إلى اقتصاد السوق وتحفيز القطاع الخاص، خاصة الشركات الأوروبية المتعددة الجنسية، والتصدير. يتضح مما سبق بأن مسؤولية الاتحاد الأوروبي في تأزيم الأوضاع التي أدت إلى قيام الثورات العربية قائمة، وهذا ما جعل رد فعله يتسم بالارتباك والدهشة في أول الأمر، بل لقد وصل التوجس وعدم فهم ما يجري إلى درجة أن فرنسا عرضت خدماتها وخبرتها في قمع المتظاهرين على النظام البوليسي لبن علي! غير أن الاتحاد الأوروبي، وأمام نجاح الثورتين المصرية والتونسية، اضطر إلى التأقلم مع الظروف الجيو -سياسية الجديدة، فأعلن عن مساندته لانتفاضة الشعوب العربية، بل انخرط بشكل لافت في الحملة العسكرية ضد كتائب العقيد القذافي دون اعتبار لمخاطر الانزلاق والزيغ عن الأهداف الأولية المرسومة لها من طرف الأممالمتحدة (قتل المدنيين الأبرياء، تدمير المنشآت الاقتصادية والصناعية...) وفي إطار مزيد من التفاعل مع هذه المتغيرات، عبر الاتحاد الأوروبي قبل بضعة أيام عن رغبته في إعادة النظر في علاقاته مع البلدان المجاورة بإعطاء مساحة أكبر لدعم الإصلاحات الديمقراطية فيها. وهكذا قررت اللجنة الأوروبية اعتماد مشروطية المساعدات المالية بربطها بالتقدم المحرز في مجال احترام دولة القانون من طرف الدول الشريكة، كما سيتم تحويل جزء من هذه المساعدات لصالح مؤسسات المجتمع المدني مع إمكانية خلق «صندوق أوروبي للديمقراطية»، لدعم المنظمات غير الحكومية وأحزاب المعارضة وكذا النقابات، في نفس الآن، عبرت اللجنة عن رغبتها في إبرام اتفاقيات للتبادل الحر شاملة ومعمقة مع الدول الشريكة الراغبة في ذلك، بالإضافة إلى هذا، من المنتظر أن تتم الزيادة في الاعتمادات المالية الخصخصة للبلدان العربية من طرف البنك الأوروبي للاستثمار وتوسيع مجال تدخل البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية ليشمل المنطقة العربية. إن هذا السخاء المالي المفاجئ سيتعاظم بعد إعلان مجموعة الثماني استعدادها لتخصيص ما يناهز 40 مليار أورو لدعم ومواكبة الانتقال الديومقراطي في البلدان العربية ، فأي تقييم أولي يمكن القيام به للمبادرات الأوروبية ؟ في اعتقادنا ، تستدعي المقاربة، المعلن عنها من طرف الاتحاد الأوروبي الملاحظات التالية، أولا، إذا كانت المساعدات المالية العاجلة ستساهم لا محالة في تخفيف الآثار السلبية المؤقتة للثورات العربية على الاقتصاد ، فإن الحجم الضخم المعلن عنها لا يتعدى مستوى التوقعات ، بل والتمنيات خاصة وأن جزءا منه سيتخصص في شكل استثمارات أجنبية مباشرة قد تأتي أو لا تأتي. ثانيا، إن جزء مهما من هذه المساعدات سيمر عبر المؤسسات المالية المتعددة الأطراف (البنك الدولي، البنك الأوروبي للاستثمار، البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية) ، مما يعني بأن الدول الممنوحة ستضطر إلى الالتزام بالمشروطية الاقتصادية التي تتمثل في لبرلة الاقتصاد واحترام قواعد «الحكامة الجيدة» والخصخصة، والحال أن هذه الوصفات تعتبر من أهم العوامل التي أدت إلى الاحتقان الاجتماعي، وبالتالي إلى اندلاع «الثورات العربية». ثالثا، إن إلحاح اللجنة الأوروبية على إبرام «اتفاقيات تبادل حر شامل ومعمق» يستتبع بأن يتم تركيز المساعدات المالية المقدمة على إقامة البنيات التحتية (الموانئ والطرق) لضمان الانسياب الأمثل للمنتوجات والبضائع. والحال أن إعطاء الأولوية للاستثمار في البنيات التحتية لا يضمن تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة الضرورية للدفع بعجلة النمو الاقتصادي وخلق فرص شغل جديدة، إذ غالبا ما تشترط هذه الأخيرة توفر يد عاملة مؤهلة ودينامية اقتصادية ملحوظة، إضافة إلى وجود نسيج صناعي محلي فعال عصري رابعا، ليس مؤكدا بأن تقدم هذه المساعدات المالية، في حال صعود التيار الإسلاموي إلى الحكم كما هو متوقع في بلد كمصر مثلا، فقد سبق الاتحاد الأوربي أن قطع كل علاقاته مع قطاع غزة عقب فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة. خامسا وأخيرا، إن الإصرار على الاستمرار في تطبيق سياسة متشددة في مجال الهجرة القادمة من الدول العربية جنوب وشرق المتوسط وتنامي مظاهر التمييز والتعصب، تجاه المهاجرين وصعود اليمين المتطرف في الاستطلاعات في عدد من الدول الأوروبية، كلها عوامل لاتشجع على إرساء علاقات جديدة بين ضفتي المتوسط قوامها الاحترام المتبادل والتعاون والتآزر وحرية تنقل الأشخاص. نستنتج مما سبق بأن الاتحاد الأوروبي غير عازم على إحداث قطيعة مع مقاربته التقليدية للعلاقات مع العالم العربي المبنية على تغليب مصالحه الجيوستراتيجية والاقتصادية، وأن السخاء والإغداق المالي الموعود لن يؤديا في نهاية المطاف إلا إلى إعادة إنتاج الاستقطاب والتبادل غير المتكافئ بين ضفتي المتوسط. بهذا المعنى، تبدو المبادرات الأوروأمريكية الأخيرة وكأنها محاولة للالتفاف على «الثورات العربية» ومنعها من أن تتجذر لصالح قوى التغيير الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والحرية. إن المساعدات المالية الموعودة لن تعزز المسار الديمقراطي الذي تبنته «الثورات العربية» إلا إذا وضعت رهن إشارة مؤسسات منتخبة ديمقراطيا من طرف الشعب من أجل تمويل استراتيجيات وسياسات تنموية مستقلة تهدف إلى تحقيق الأمن الغذائي والتصنيع من أجل تلبية الحاجيات الأساسية للمواطن (ة) وخلق فرص شغل لائقة. وهذا يقتضي بدوره رد الاعتبار للدور الريادي والاستراتيجي للدولة في المجال الاقتصادي وتشجيع السوق الداخلية والتركيز على الدفع بالقطاع الخاص المنتج ومحاربة الريع والكسب غير المشروع. وستكون ظروف تبني هذه المقاربة الجديدة للعلاقات الأورو- عربية، متوفرة إذا ما نجحت الحركات الاجتماعية في أوروبا، في إعادة بناء هذه الأخيرة، أي أوروبا، على قواعد اجتماعية وإنسانية، بعيدا عن منطق السوق والربح والاحتكار المتحكمين حاليا في البناء الأوروبي، ولعله من حسن الطالع أن يسترشد الشباب الأوروبي – الإسباني على الخصوص عبر حركة «الساخطون» «LOS INDIGNOS» بتجربة رفقائهم العرب بميدان التحرير لرفض نظام سياسي لا يعكس مطامحهم وحاجياتهم في الشغل اللائق والحرية والعدالة الاجتماعية.