هي قصص آباء وأمهات قرروا بمحض إرادتهم التنازل عن طفل من أطفالهم لأحد أقاربهم لكي يقوم بالتكفل به، لكن سرعان ما عرف الندم الطريق إلى نفوسهم، بعد أن تجرعوا مرارة العذاب وهم يرون فلذات أكبادهم ينشؤون في كنف أسر أخرى. يعرف الحزن طريقه إلى قلبها في كل مناسبة وفي أي عيد يمر عليها وابنها ليس في حضنها، فتواسي نفسها بالتأمل في صوره، في انتظار أن يأتي الإبن لزيارتها، ويقضي معها أياما قليلة لا تكون كافية لإطفاء لهيب شوقها قبل أن يعود إلى منزل شقيقها الذي تولى مع زوجته مهمة رعايته منذ أن كان رضيعا لا يتجاوز عمره البضعة أشهر. تحاول كسب محبة ابنها وافقت فاطمة الزوجة والأم ذات الثامنة والثلاثين عاما على منح أصغر أطفالها لشقيقها، الذي شاء له القدر أن يحرم من نعمة الإنجاب، في محاولة لتخليصه من الشعور بالحرمان والنقص. الظروف الصعبة التي تعيشها أسرتها المقيمة بإحدى القرى، حيث تنعدم أبسط شروط العيش، كانت من بين الأسباب التي جعلت فاطمة تقدم على تلك التضحية، فهي كانت تدرك جيدا أن طفلها سوف يحظى في كنف أسرته الجديدة بأفضل معاملة وبالاهتمام المطلوب، كما أن إقامة الأخ في منزل فاخر بالمدينة بالإضافة إلى وضعه المادي الجيد، سيضمنان لابنها الحصول على كل الأمور التي سيعجز والده عن توفيرها له بالأموال القليلة التي يجنيها من خلال عمله كمزارع بسيط. حرص الأخ في السنوات الأولى على اصطحاب الإبن لزيارة فاطمة بشكل منتظم، لكن سرعان ما ستقل تلك الزيارات بمجرد أن يصل الطفل إلى سن التمدرس، لتقتصر على أيام العطل. خلال تلك الزيارات، كانت فاطمة تغتاظ كلما سمعت طفلها ينادي زوجة شقيقها بكلمة «ماما»، في الوقت الذي يصر فيه على مناداتها ب«خالتي»، بالرغم من كونه يعلم بأنها والدته الحقيقية التي حملته في رحمها تسعة أشهر، ورأت نظرة الحب والعطف في عيني ابنها اتجاه والدته الكافلة. الإبن الذي اعتاد حياة الرفاهية في المدينة، كان يبدي تذمره واستياءه من نمط حياة البادية، كلما قدم لزيارة والديه وأشقائه، بحيث لا تظهر السعادة على محياه إلا عندما يهم بالمغادرة في اتجاه البيت الذي نشأ فيه. اعتقدت فاطمة بأن الزمن سيكون كفيلا بجعلها تتأقلم مع ذلك الوضع، لكن أملها سيخيب مع مرور الأيام، وبعد أن تشعر باتساع الهوة بينها وبين طفلها، ليتسلل الندم إلى نفسها، والخوف من أن تفقد فلذة كبدها إلى الأبد. بالرغم من ندمها على منحها طفلها لشقيقها حتى يقوم بالتكفل به، فضلت فاطمة إبقاء آلامها حبيسة ضلوعها، وعدم المطالبة باسترجاع ابنها، خوفا من أن ينعكس الأمر سلبا على نفسيته ومستقبله، ولأنها أدركت أيضا بأنها ستصطدم برفض شقيقها وزوجته اللذين أصبحا متعلقين به، لتحاول بدلا من الدخول في تلك المتاهات كسب محبة ابنها، آملة أن ينبع من قلبه في يوم من الأيام قرار عودته إلى أحضانها. ساءت علاقته بقريبته لا تختلف كثيرا الظروف والأسباب التي دفعت عبد الله إلى التخلي عن ابنته حين كان عمرها آنذاك لا يتعدى الثلاث سنوات، لإحدى قريباته التي تقطن بنفس الحي، لكي تؤنس وحدتها بعد أن تخلى زوجها عنها وتركها لمصيرها المجهول بسبب عدم قدرتها على الإنجاب. عبد الله ذو الخامسة والأربعين عاما، كان يلاحظ حجم التقارب بين ابنته وقريبته التي نجحت في التودد إلى الطفلة الصغيرة من خلال الهدايا واللعب التي كانت تقدمها لها بمناسبة أو من دون مناسبة، إلى درجة جعلت الإبنة تفضل المبيت معها في منزلها. اقتصر الأمر في البداية على أيام قليلة تقضيها الابنة مع القريبة لتعود إلى بيت أسرتها، حيث ظلت تعيش بشكل دائم، لكن القريبة سرعان ما سوف ترجح الكفة لصالحها لأنها أجادت العزف على الوتر الحساس لدى الابنة، لتجعل من منزلها مسكنا دائما لها، وتطلب من عبد الله أن تكفل الطفلة الصغيرة. أمام إصرار ابنته على الاستقرار في منزل قريبته، ووعود الأخيرة له بأنها ستصون الأمانة، وتغذق الحنان والرعاية على طفلته، لم يجد عبد الله مبررا للرفض، كما هو الشأن بالنسبة لزوجته التي لم تبد اعتراضها على الفكرة، خاصة أن القريبة ستتولى الإنفاق عليها بسخاء بفضل الأرباح الطائلة التي تجنيها من محل الخياطة الخاص بها، وتخفف عنه بذلك من أعباء الحياة ومصاريف الأبناء المتزايدة، كما أن منزلها يبعد بأمتار قليلة عن بيت الأسرة ما سيجعلهما قادرين على زيارتها متى يشاؤون. تغيرت معاملة القريبة تجاه أسرة عبد الله مع مرور السنوات، بحيث لم تعد تستسيغ زياراتهم المتكررة للطفلة، معتبرة إياها محاولات لإبعاد من اتخذتها ابنة لها عن حضنها، بل ونجحت في إقناع الطفلة بعدم الذهاب لزيارة والديها واللعب مع أشقائها في الشارع كما كان يحدث في السابق. حاول الوالدان تدارك الخطإ الذي ارتكباه، وإقناع ابنتهما بالعودة للعيش في منزل الأسرة لكن دون جدوى، فلقد أصبح والداها وأشقاؤها بالنسبة إليها بمثابة غرباء بسبب السنوات التي قضتها مع والدتها بالكفالة التي تسعى بكل الوسائل إلى إلغاء رابطة الدم التي تجمع الطفلة بأسرتها. نفد صبر عبد الله من تصرفات قريبته، ليقرر مطالبتها بالتخلي عن الطفلة والسماح لها بالعيش مجددا في كنف أسرتها، وهو الأمر الذي رفضته الأم الكافلة بشدة، لينفتح باب المشاكل والخلافات بين عبد الله وقريبته التي كانت تقوم على أساس الود والمحبة