كانت الجامعة المغربية في عقود الستينيات والسبعينيات وحتى قبلهما فضاء للنقاش الطلابي الديموقراطي الذي يعكس الحركية العامة للمجتمع، فكانت الحركة الطلابية منجما ومختبرا لإنتاج النخب السياسية المغربية المتشبعة بالفكر العلمي التقدمي الذي يتحول فيقوي الأحزاب السياسية والشارع المغربي، لذلك لا غرو أن نجد الحركة الطلابية المغربية بفصائلها الديموقراطية التقدمية كانت في قلب جميع الحركات الاجتماعية والسياسية التي عرفها المغرب المعاصر، فأعطت بذلك تضحيات كبرى من معتقلين ومنفيين وحتى شهداء، وكان النقاش الطلابي الفصائلي في قمة الديموقراطية مستحضرا الاختلاف في تدبير المقاربات الإيديولوجية المختلفة فتعايشت الفصائل الطلابية وكانت مصالح الطلبة فوق كل اعتبار، لكن مع تراجع المد اليساري في العالم خصوصا بداية التسعينيات وبروز فصائل قوى الإسلام السياسي برز معها العنف والإقصاء وأصبحت الجامعات المغربية مكانا لتصفية الحسابات السياسية بين الفصائل الطلابية ومست أحد أعمدة ومكتسبات النضال الطلابي المغربي، وهي الاستقلالية السياسية والتنظيمية للحركة الطلابية عن الفعل السياسي خارج أسوار الجامعة. العنف والإقصاء ورفض الآخر أعطيت له في أحيان كثيرة مسوغات فكرية وإيديولوجية لتبريره، فهناك من يتحدث عن ضرورة إعمال ما يسمونه في الأدبيات اليسارية العنف الثوري ضد كل القوى الرجعية التي يقصدون بها بالطبع القوى الإسلامية، وهنا مرجعهم الأساسي كتاب حول العنف الثوري لفريديرك إنجلز وآخر الدولة والثورة لفلاديمير إيتش لينين، وهناك من الجهة الأخرى من يبرر العنف بمنطق ديني بدعوى الجهاد ضد الأفكار الكافرة وأصحابها المرتدين فيستندون إلى أفكار بعض منظري الجماعات الإسلامية قبل أن يقوم معظمهم بمراجعات فكرية، فكان مريدو الطرفين في صراع مرير ودموي في أحيان كثيرة، صراع حول شرعية تمثيل الإطار الطلابي الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، فتمسك البعض بالفصائل التاريخية وأقصوا الآخرين الطارئين على الحرم الجامعي، فيما تمسك الوافدون الجدد بانتمائهم للإطار . ولكن في خضم هذا الصراع الإيديولوجي البعيد بالطبع عن انشغالات الطلبة ومصالحهم المباشرة، كان النقاش الفكري قائما وكانت التجاذبات الإيديولوجية حافزا للقراءة والتكوين الطلابي، رغم وجود ممارسات العنف والإقصاء والتي خلفت ضحايا ومآس وغيرها من الكوارث التي لا ترقى بالعلم ولا بالمعرفة التي من المفروض والمنطقي أن تكون الجامعة قد أنشئت من أحملهما. كما كانت الجامعة مكانا لتصريف المواقف السياسية اليسارية ضد النظام السياسي، حيث رفع شعار لدى الطلبة اليساريين مفاده لكل معركة جماهيرية في الجامعة صداها في الشارع والعكس صحيح، فأصبحت الجامعة ترمومترا لمعرفة درجة الاحتقان السياسي بين النظام السياسي المغربي ومعارضيه اليساريين في الشارع ، لذلك نجد أن معظم الانتفاضات الكبرى التي عرفها المغرب كانت بتأطير مباشر من الطلبة والتلاميذ، سواء في الثمانينيات أو بداية التسعينيات، لكن مع المصالحات والتوافقات السياسية التي عرفها المغرب انعكس ذلك على الجامعة مباشرة وفقدت بعض الفصائل الطلابية التابعة للأحزاب بريقها، خصوصا وأن أحزابها شاركت في حكومة توافقية بشروط غير مقبولة ديموقراطية حسب الفكر والمطمح الطلابي بطبيعة الحال، وهناك كانت الحركة الطلابية تنعي كبار مكوناتها التاريخية لتفسح المجال للخطابات الشعاراتية الجذابة التي لبست لبوس المعارضة الجديدة. ففقد اليسار المغربي معقله الطلابي مفسحا المجال للإسلاميين بأنواعهم التوحيد والإصلاح والعدل والإحسان. وربما سيعيد التاريخ نفسه، وسيفقد تيار التوحيد والإصلاح بريقه وشعبيته بفقدان العدالة والتنمية السند الشعبي مع تراكم الأخطاء السياسية وضعف المردوية أمام كبر المطامح والأمنيات، وستفسح المجال للإسلاميين المتطرفين واليسار الراديكالي ولمظاهر العبث والفوضى والعنف التي ستجد لامحالة فصيلا لها إن لم تكن قد مهدت لنواته الآن. منذ بداية الألفية الجديدة اندحر النضال الطلابي الفصائلي واندحرت معه كل ما تمثله الجامعة من فضاء للعلم والمعرفة وانمحت صورة الجامعة التي تخرج الأطر الفكرية والسياسية المشبعة بقيم الحداثة والديموقراطية، وأصبحت الجامعة مكانا للعنف المناطقي وللممارسات اللاأخلاقية، وأصبحت النضالات الطلابية بعيدة كل البعد عن روح الفكر والعلم، وأصبحت الجامعة المغربية امتدادا للشارع بكل سلبياته، فاندحر المستوى المعرفي والتكوين العلمي للطلبة وأصبحت الجامعة لا تخرج سوى العاطلين الذين لا أفق سياسي ولا عملي لديهم، وتسابق الطلبة في استعمال الأسلحة البيضاء من سكاكين وخناجر لمجابهة الطلبة الآخرين، وتحولت الجامعة إلى تكتلات طلابية مناطقية لكل منطقة طلبتها، وفقد الحس الطلابي الجمعي رونقه وتميعت الحياة الطلابية. تجاوز العنف في الجامعة يقتضي عدة تدابير منها ماهو آني، كتجريم العنف وملاحقة مرتكبيه، ومنها ماهو استراتيجي ويعتمد أساسا على مراجعة مكان التربية على الديموقراطية والاختلاف في المنظومة التربوية والتعليمية المغربية، فضعف الحركة التلاميذية وانعدام فضاءات الحرية والنقاش الديموقراطي داخل المؤسسات الثانوية، والتقييدات الكبيرة المفروضة على ارتياد دور الشباب، زيادة على ضعف التأطير السياسي الحزبي والجمعوي للشباب المقبل على الجامعة، يجعل الجامعة غير مهيأة لوحدها لتلقي صدمات اللاتكوين واللاتأطير السائدة لدى الطلبة. كما أن وسائل الإعلام مطالبة بتسليط الضوء على ظاهرة العنف الطلابي والتنديد بمرتكبيه، وذلك لكي لا يبقى الشأن الطلابي معزولا عن الشأن المجتمعي العام. فالحركة الطلابية والجامعة اتجها نحو العنف والإقصاء عندما اتخذت الأحزاب السياسية قرار البعد عن الجامعة ولم يعد القرار الحزبي مرتهنا بالنخب المكونة والمتعلمة، كما أن تدخل القوى الأمنية وتشجيعها للفصائل الإسلامية في فترة من الفترات التاريخية المعروفة في المغرب من أجل لجم المد اليساري. وبذلك تغاضى الأمن عن جرائم الإسلاميين مما شجع رد الفعل، كذلك نفس الشيء يتكرر عندما يشجع الأمن الاتجاهات والتصنيفات الإثنية والمناطقية ضدا على الوحدة الطلابية والنقاش الطلابي الديموقراطي. كل القوى الحية للمجتمع المغربي من أحزاب ونقابات وجمعيات مدنية مطالبة اليوم بفتح حوار وطني حول العنف في الجامعة المغربية، ومحاولة التفكير في تأطير الطلبة وتنظيمهم، سواء في إطارات نقابية تعددية وديموقراطية أو بتأسيس إطارات للحوار الفصائلي مع إشراك الجميع، على أن يتم احترام الميثاق الطلابي الذي يجب أن يصاغ ويكون ملزما ويكون الحوار السلمي التعددي الديموقراطي أحد أعمدته وشروطه الرئيسية، كما أن التفكير في حل أزمة الحوار في الجامعة المغربية لا يجب أن ينسينا مسؤولية الدولة في إصلاح المنظومة الجامعية وعدم الاكتفاء بإجراءات تقنية أو تدابير مؤقتة الهدف منها التفكير كل التفكير في تدبير الخصاص والاكتظاظ وعدم الارتكاز على حقوق الطلبة ومحتويات المواد المدرسية وغياب أوقات التكوين والتأطير الضرورين لخلق ثقافة طلابية جديدة.