الانتخابات تمنح الفائزين شرعية التمثيل، لكنها لا تضمن بالضرورة توفرهم على النضج السياسي اللازم لحسن تدبير الشأن العام، فكثير من المسؤولين المحليين يصلون إلى مواقع القرار تحت مظلة الأحزاب، لكنهم يفتقرون إلى رؤية استراتيجية، ويديرون الأمور بعقلية فردية أو فئوية، في حين يبرز آخرون يمتلكون الوعي السياسي الكافي لخدمة المجتمع، حتى دون أن يكونوا منتمين إلى حزب سياسي. فما هو النضج السياسي؟ وكيف يؤثر على تدبير الشأن العام؟ ما هي السياسة ومن هو السياسي؟ السياسة، كما يعرفها الفيلسوف أرسطو، هي "فن حكم المجتمعات وإدارة شؤونها بما يحقق الخير العام"، أما عالم الاجتماع ماكس فيبر، فيرى أن السياسة هي "السعي للسلطة، سواء كغاية بحد ذاتها أو كوسيلة لتحقيق أهداف أخرى". من هذا المنطلق، فالسياسي هو الشخص الذي يمتلك القدرة على فهم التوازنات المجتمعية، وتحليل القضايا العامة، واتخاذ قرارات تتجاوز المصلحة الشخصية نحو تحقيق الصالح العام. لكن هذا التعريف لا ينطبق على جميع من يمارسون السياسة، إذ أن كثيرًا من المنتخبين يدخلون المعترك السياسي بحثًا عن النفوذ أو الامتيازات، دون امتلاك رؤية واضحة لمتطلبات الحكم الرشيد. وهنا يبرز مفهوم النضج السياسي كعنصر أساسي في تحديد جودة الأداء السياسي، بغض النظر عن الانتماء الحزبي. النضج السياسي.. وعي قبل الانتماء يرى المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي أن "السياسة ليست مجرد ممارسة للسلطة، بل هي أداة لبناء الوعي الجماعي". وهذا ما يميز السياسي الناضج عن غيره؛ فهو يدرك أن النجاح لا يقاس فقط بعدد الأصوات التي يحصل عليها، بل بمدى قدرته على تحويل الأفكار إلى مشاريع تعود بالنفع على المجتمع. النضج السياسي لا يُكتسب بين ليلة وضحاها، بل هو حصيلة تراكمات معرفية وتجارب عملية، تتطلب وعيًا مستمرًا، واحتكاكًا بالواقع، واستيعابًا لمبادئ الديمقراطية والتدبير الرشيد. فمن يمتلك هذا النضج ينظر إلى السياسة كفن لخدمة المجتمع، وليس كأداة لتحقيق مكاسب ضيقة. بين الانتخابات والواقع.. الفجوة المستمرة يلاحظ العديد من المحللين أن الانتخابات، رغم كونها آلية ديمقراطية، لا تضمن بالضرورة وصول النخب الأكثر كفاءة إلى مواقع القرار، فالعملية الانتخابية كثيرًا ما تُختزل في التنافس حول الشعارات واستمالة الناخبين بوعود آنية، بدل التركيز على المشاريع الواقعية التي تخدم التنمية. في كتابه "صعود وسقوط القوى العظمى"، يشير المؤرخ بول كينيدي إلى أن "التحدي الحقيقي للدول لا يكمن في انتخاب القادة، بل في قدرتهم على إدارة شؤون الدولة بفعالية بعد وصولهم إلى السلطة". وهذا ما يجعل النضج السياسي ضرورة لضمان تدبير ناجح يحقق الاستقرار والتقدم. المجتمع الواعي يصنع سياسيين ناضجين الوعي السياسي لا يقتصر على السياسيين فقط، بل يشمل المجتمع ككل، لأن مجتمعات واعية تفرز نخبًا سياسية ناضجة. وكما يقول المفكر نعوم تشومسكي، فإن "السياسة ليست فقط ما يفعله السياسيون، بل هي أيضًا ما يسمح لهم المواطنون بفعله". لذلك، فبناء وعي سياسي جماعي مسؤولية مشتركة بين المواطنين، والإعلام، والنخب المثقفة. نحو تدبير سياسي أكثر نضجًا النضج السياسي ليس ترفًا، بل هو أساس لضمان تدبير رشيد يحقق التنمية بدل أن يكون مجرد امتداد لمعادلات انتخابية عابرة. فالمسؤولية السياسية تقتضي امتلاك رؤية واضحة، واتخاذ قرارات متوازنة، والابتعاد عن الشعبوية التي تركز على كسب التأييد أكثر من تحقيق المنجزات. إن بناء مجتمع سياسي ناضج يتطلب إصلاحًا ثقافيًا وتعليميًا عميقًا، يعزز قيم المسؤولية والشفافية، ويجعل من السياسة أداة لخدمة المواطن، وليس ساحة للصراعات الشخصية أو الحزبية.