قبل أن أبدأ تحقيقي هذا فكرتُ في سيناريوهات كثيرة، أولها أن أزور كلا من شقران وكتامة بحجة إنجاز روبورطاجات تهُمّ عزلة المنطقة بسبب الثلوج، لكنّ الهدف المتستر من وراء هذه الزيارة كان هو إنجاز تحقيق حول الاتجار في المخدرات في مدن الشمال، على اعتبار أن الحسيمة هي القاعدة الأساس لانطلاق العمليات المرتبطة بهذه «التجارة». بصراحة، كنتُ مدركا خطورة الموضوع، خاصة أنني ابن هذه المنطقة وأعرف جيّدا مدى حساسية الموضوع في المخيال الجمعيّ للسكان وكذلك مدى تعقد الموضوع بالنسبة إلى جميع المصالح الأمنية في المنطقة.. بدأ التفكير في إنجاز تحقيق حول الموضوع يتبلور في ذهني منذ أكثرَ من شهرين، بعد أن التقيت أحد أصدقائي الذين درسوا معي في فترة بعينها. وقتها، أخبرته أنني اشتغل صحافيا، وببرودة تبعث على الانبهار أخبرني هو أنه أصبح تاجرَ مخدرات بعدما رسب في السنة الأولى من البكالوريا.. تحدّثنا طويلا عن الموضوع، ودلني على بعض الخيوط التي تقود إلى معرفة أخطر تجار المخدرات في الشمال، وفوق ذلك وعدني بأنْ سيساعدني كثيرا في إنجاز هذا التحقيق. بقيّ لي فقط أن أقنع مسؤولي الجريدة بجدوى النبش في هذا الملف، ووافقوا على عجل.. بغتة، أجد رقم صديقي «ميطون» -وهو اسم مستعار- يظهر على شاشة هاتفي، أخبرني أنه أقنع زعيم شبكته في بني بوعياش بأن التحق بالمجموعة شريطة الالتزام بكل الشروط التي سيُمليها عليّ حين نلتقي. بطبيعة الحال، أغراني العرض، وقبل أن أتأبّط حقيبتي فكرتُ طويلا في الطريقة التي سأنجز بها هذا التحقيق، ووافقتُ على كل شروط صديقي «ميطون»، رغم صعوبتها. قادتني المغامرة إلى زيارة أربع مدن هي وجدةوالحسيمةوطنجةوتطوان، وبين هذه المدن كان هناك دائما خيط ناظم، ولم يكن هذا الخيط سوى الاتجار في المخدرات وتوظيف كل الوسائل غير المشروعة لترويج مختلف الأصناف. تجدون في هذا الملف وقائع حاولتُ نقلها بأقصى درجة من الأمانة المهنية دون أن أمسّ بالوعود التي قطعتها على صديقي ميطون، وكذلك دون ذكر الأسماء الحقيقية للأشخاص، لأن مهمة الصحافيّ ليس هي وضع الناس في قفص الاتهام بقدْر ما يتمثل في عرض الحقائق كما هي.. تجدون، كذلك، أحداثاً تتوزع بين أربعة مدن طيلة أسبوع كامل فقدت فيها كل وسائل الاتصال مع العالم الخارجي. «المساء» جرّبت المغامرة في هذا الملف واخترقت أخطرَ شبكات الاتجار في المخدرات في الشمال المغربي ونقلت حقائق تنشر لأول مرة. وصايا «ميطون» والرحلة إلى كتامة منذ الآن صار اسمي رشيد التاوناتي، جئت إلى الشبكة بحثا عن تحسين خبراتي في نقل الحشيش من جبال الريف القصية إلى أقاليم الشرق والشمال.. قدّمني صديقي «ميطون» -اسم لممثل هندي عُرف بشجاعته على مواجهة خصومه- إلى أفراد المجموعة على أساس أنني راجحُ عقل وقادر على مراوغة عناصر الدرك الملكي وكذا على تمويه زارعي المخدرات.. اعتراني من الوهلة الأولى إحساس بأن «أصدقاء ميطون» لا يطمئنّون إلى غريب مَهْما كان ومهما كانت الأسباب التي جاء من أجلها إلى عالمهم الصغير والمبهم.. بسرعة، حاولتُ الاندماج مع أجواء المجموعة. بالنسبة إلي فتطبيق وصايا صديقي ميطون أصبح أمرا مقدّساً، وأي خطأ صغير يمكن أن يثير شكوك تجار المخدرات وناقليها ستكون نتيجته كارثية علينا نحن الاثنين.. للمرة الأولى في حياتي أجدني «أبرم جوانا» بطريقة تبعث على الضحك، رغم أنني تدرّبتُ على طريقة لفّ «جْوان» قبل أن ألتقيّ بأفراد الشبكة.. وأصبحت -أنا كذلك- أنفث دخان بعض الجّوانات بين الفينة والأخرى، رغم أنني كنت أتجنب ذلك إلى أقصى الحدود.. كان ذلك هو الشرط المُقدَّس الذي لم يتنازل عنه ميطون يوم لقائنا في طنجة قبل شهر من الآن. لم يترك مجالا للنقاش ولا للتفاوض، فإما أن «تبرم جوانات» مع زملائك وإلا فستفشل مُهمّتك، قال بنبرة حازمة. يومها، كان رقاص الساعة يستقر على التاسعة ليلا في أجواء شتائية باردة في مدينة وجدة. أصدقاء ميطون ينفثون دخان السجائر بتوتّر كبير، فموعد الرحلة إلى كتامة قد حان، وجميع الترتيبات تسير كما سطرها «حسن». ينتظرون فقط الإشارة من رئيسهم، الذي لن أتبيّن مكان سكناه إلا بعد أيام من بداية التحقيق.. وتلك قصة تطول. تقول تفاصيل الخطة إن العملية ستنطلق في حدود الحادية عشرة ليلا، ستمر أولا عبر الحسيمة، وبالضبط إلى بلدة بني بوعياش، حيث سيلتقون هناك «رشيد»، وهو -كما فهمتُ في وقت لاحق- أخطر أفراد العصابة، وسبق له أن هرّب كميات ضخمة من المخدرات إلى الخارج. يقول عنه أصدقاؤه إنه أحد أذكى عناصر المجموعة، مكّنته خبرته الطويلة في ميدان التجارة في المخدرات من نسج شبكة علاقات واسعة مع أصحاب النفوذ ورجال الأمن والدرك في كل المدن التي تطؤها قدماه، فيها بل استطاع في أوقات كثيرة أن ينقذ زملاءه من عقوبات حبسية بفضل «تدخله» على أكثرَ من صعيد.. الرحلة إلى كتامة تمرّ، حتما، حسب الخطة المعدة سلفا، من بني بوعياش، ثم بعدها، نستقل سيارة رباعية الدفع ستصل إلى تخوم كتامة، ثم نقطع مسافة تقارب كيلومترين مشيا على الأقدام.. لكنْ قبل بني بوعياش، تسير بنا سيارة من الحجم الصغير قرابة 300 كيلومتر من وجدة حتى بني بوعياش، وعلى طول الطريق كنت أتمتم لصديقي ميطون في أذنيه، طالبا منه أن يدُلني على معالم الليلة وأين سنقضي الليلة وبمن سنلتقي؟ ومن سيوفر لنا «الحماية»؟.. لم أظفر من صديقي إلا بأسئلة أخرى زادت من تشعب استفهاماتي.. حينما وصلنا إلى حاجز الدرك الملكي الأول، ظل أفراد الشبكة يتحدثون بدون خوف، وكأنهم ذاهبون في رحلة صيد ترفيهية تمتدّ لساعات ثم يعودون.. في الحاجز الثاني نزل «كريم» من سيارته، تحدث مع عناصر من الدرك الملكي، كان الحديث كما كان يبدو من نافذة السيارة ودّيا، وفي كل مرة كان صاحبنا يطلق ضحكات مجلجلة.. هكذا تجتمع المتناقضات في أول ليلة، رجال الدرك الذين يعهد إليهم محاربة التجارة في المخدرات وفي الممنوعات بشتى أصنافها، يتحدثون -بقدرة قادر- مع أبرز تجار المخدرات في الشمال.. أذكر أن الحديث استمر أكثر من عشر دقائق. عاد «كريم الريفي» إلى سيارته مدندنا بكلمات أغنية شهيرة لفنان معروف في الريف اسمه سلام الريفي: «آراحْ شكّ دارايس نّيغْ أدراحغْ نيثْ، أراحْ نشينْ داوماثنْ نّيغ أنْمسَلام نيث» (كن أنت رئيسا أو سأكون أنا، لا يهمّ فنحن إخوة سنتفاهم وديا).. ولأنني أعرف الريفية جيدا وأعرف مضامين الأغنية ومقاصدها، فقد بادرته بالسؤال: من يكون رئيسك أنت الذي ستسلم له؟.. حدسَ، ببديهة التاجر المتمرّس أن السؤال ليس بريئا فأجاب بنبرة تهكمية: ليس بإمكانك -صديقي- أن تعرف كل شيء من الوهلة الأولى.. يلزمك الكثير من الوقت لتعرف كل شيء، الآن عليك أن تلاحظ وفقط.. هنا بني بوعياش.. يطل علينا رشيد، صاحب الصيت الذائع في تجارة المخدرات، من منزله، تماما كما رسمتُ ملامحَه في خيالي، فتى ذو بنية قوية، ينسدل شعره الكث على الكتفين، وكل مقومات بنيته الجسمانية تمنح الانطباع بأنه يتاجر في المخدرات.. استقبل أفراد الشبكة بحفاوة كبيرة. بطبيعة الحال، كان يتحدث بدارجة متقطعة، نظرا إلى وجود عناصر داخل المجموعة لا تفهم اللغة الريفية، مستعملا مفردات يبدو أنها تنتمي إلى قاموس المتاجرة في المخدرات من قبيل «واش ماتْ؟ «شحالْ بقى ليهْ يْموتْ»؟ «كَول لصاحبك مشحال الرّملْ».. في لحظة ما لم أفهم الباعث الأساسيّ وراء عدم طرح السؤال حول وجودي داخل المجموعة.. لكنّ رشيد قطع تفكيري حين وجّه السؤال مباشرة إلى ميطون: من يكون العنصر الجديد؟.. اقتبس صديقي الإجابة نفسَها التي واجه بها أصدقاءه في وجدة.. لا أخفيكم أن الأسئلة احتشدت في ذهني حول ما إذا كان ميطون يوهمني فقط بأنّ أفراد المجموعة لا يعرفون أنني صحافي، لكن موافقة رشيد على دخول الشبكة ربما بدّدت بعض هذه الشكوك. فجأة، ظهر عنصران جديدان، قال أحدهما لرشيد إن الطريق أصبحت جاهزة، واستكان الآخر إلى صمت رهيب. خلال الجلسة، التي دامت أكثرَ من ساعة، احتدم النقاش بين رشيد وبين «باطمان» حول الطريق التي سيسلكونها للوصول إلى كتامة قبل السادسة صباحا، ثم استقر الرأي على أن تمرّ السيارة عبر جبل تدغين. رشيد هو من سيقود السيارة، وسيرافقهما كل من «حسن» و»كريم الريفي»، والمفاجأة أن رشيد أومأ لميطون أنني سأرافقهم أثناء الرحلة، أما باقي الأصدقاء فسيبقون في بني بوعياش إلى حين عودتنا.. اتصل رشيد، على عجل، بأحد أصدقائه وتحدّث إليه بلغة مُشفَّرة وغير مفهومة.. لأول مرة في حياتي أعي جيدا ما معنى أن «تكون أطرشَ في الزّفة»، لكنْ مع ذلك فكتامة تجربة تستحقّ المغامرة.. تنطلق سيارة رباعية الدفع بسرعة مجنونة في اتجاه كتامة، كانت بعض «الجوانات» قد فعلت فعلتها بأدمغة عناصر الشبكة. مع ذلك لا ينسى كريم، وهو الذي يوصف بكونه «رومانسيّ» المجموعة، حبيبته كوثر.. ظل طيلة نصف الرحلة يتفنن في تطريز عبارات الغزل بمحبوبته الريفية. جذبتني طريقة حديثه إلى حبيبته وكيف يعِدُها بأن يتزوجها في القريب العاجل. رأيت رشيد يضحك لأول مرة منذ أن صافحته في بني بوعياش. كان يبتسم كلما ردّد كريم عبارات «أزوغْ أشماويغْ أتَسايْنو» (أريد أن أتزوجك حبيبتي).. عبارات تبدو لرشيد أقربَ ما تكون إلى الخيال. ما يؤرّق كريم هو أنّ حبيبته لا تعرف أنه يتاجر في المخدرات، فكل ما تعرفه عنه أنه يجلب «السلع» من سبتة ومليلية وأنّ كل رحلاته تكون ليلا، ويدرك تمام الإدراك أن حبيبته لو علمت بالأمر فسوف «تقطع عليه» إلى الأبد.. ما أقسى حبّ تجار المخدرات، حقا.. الطريق سالكة ضمن رشيد أن الطريق باتت سالكة إلى كتامة، وعدا حاجز واحد للدرك، تركت عناصره سيارتنا تمرّ، فإن الطريق كانت خالية.. ركن رشيد السيارة في زاوية معزولة، تخفيها بعض الأشجار، واستحثنا على الإسراع في المشي. قال رشيد في ما يشبه الأمر: سنحمل اليوم 30 كيلوغراما من المخدرات من النوع الجيد، أي من النوع الذي يتحول إلى «غبار».. الآن عرفت مهمة حسن في المجموعة، إنه خبير في تذوق الحشيش وتجريبه ومعرفة نوعيته، فهو الذي كلفه رشيد بالمهمة، أما كاتب هذا التحقيق فسيكون مجبرا على الملاحظة والتأمل ولا شيء أكثر من ذلك.. نلتقي في حدود الساعة الخامسة والنصف صباحا، ثلاثة رجال يحملون ثلاث لفافات صغيرة، يتسلمها حسن ثم يقلبها في يده بطريقة عجيبة، يدخّن إحداها ويشمّ إحداها.. يوافق على لفافتين ويرفض الثالثة ويطالب التجار بمده بلفافات جديدة.. اختفى الرجال الذين التقيناهم لمدة تفوق ربع ساعة، ثم عادوا حاملين اللفافات الجديدة. حدق فيها حسن بحنكة الرجل الخبير في تدخين الحشيش، وأشعلها من جديد وأعطى إشارة الموافقة لرشيد.. انتبهتُ لتوي إلى أن رشيد كان يحمل داخل معطفه، الذي يشبه معاطف رجال الاستخبارات، حقيبة صغيرة تحوي مبلغا ماليا قدره 32 مليون سنتيم، سيسلمها لبائعي الحشيش بعد التوصل بالبضاعة كما أخبرني صديقي ميطون.. في هذه اللحظة بالذات ينزوي رشيد ويُخرج هاتفه، تحدّث بصوت خافت جدا، بعد ذلك أقفل راجعا إلينا، ينتظر «السلعة».. بدا لي المشهد شبيها بفيلم هوليوديّ يُصوَّر في جبال كتامة في غفلة من رجال الدرك والاستعلامات أو في تغافل منهم، إن شئتم الدقة أكثر.. لم ننتظر طويلا لنتسلم «السلعة»، إذ ظهر الرجال الثلاثة بعد مدة وجيزة حاملين ثلاثَ حزم مغلفة بشكل محكم، تسلموا 32 مليونا ثم اختفوا في الغبش الأول للصباح. ابتسم ميطون ابتسامة ماكرة، وهو يرى علامات الدهشة تتبدّى على ملامحي، فلأول مرة أجدني أمام هذا الموقف المخيف.. كنت أنتظر في أي لحظة أن تلقيّ عناصر الدرك الملكي القبض علينا، لكن كريم، الذي بدأت أواصر الصداقة تتقوّى بيني وبينه، أخبرني أن كل شيء «مرتّب» بشكل يسمح للمجموعة بالوصول إلى وجهتها غير المعلومة إلى حدود الآن بدون متاعب، مطمئنا إياي إلى أن العمليات الست السابقة انتهت بسلام، بل كانت الطريقة خالية من أي حاجز للدرك. سرقت بعض الدقائق عندما وصلنا إلى السيارة، اتصلت بأحد مسؤولي التحرير في الجريدة، فأخبرته بعضَ فصول القصة، ورد عليها، في ما يشبه المزاح: «سنخصص لك كفناً يليق بوزنك الثقيل»، وأخبرني أن التحقيق سيكون ملفا أسبوعيا.. حينها قلت في قرارة نفسي إنه ينبغي عليّ أن أبقى أطول فترة ممكنة مع المجموعة، فليلة واحدة في كتامة -بكل جنونها- لا تكفي لتحرير 6000 كلمة.. حاولت الانفراد بصديقي ميطون لأخبره برغبتي في البقاء، لكنّ صوت رشيد الجهوريّ كان ينادي إيذانا بالمغادرة، والوجهة: بني بوعياش، من جديد.. لا أفهم لمَ كان رشيد يتحدث إليّ بتودد ويحثني على البقاء في المجموعة، لكنّ الفرصة كانت مناسبة لمواصلة الرحلة مع أصدقائي الجدد. في حدود السابعة انطلقت السيارة، وعدا بعض الأحاديث الخافتة التي كانت تجري بين رشيد وميطون لا شيءَ كان يكسر هدوء السيارة، وهي تطوي الطريق بين كتامة وبني بوعياش، بل حتى حواجز الدرك التي مررْنا منها، وكأنها لم تكن مُدرَجة في حسابات المجموعة.. كانوا كلما وصلوا إلى حاجز للدرك يلقون التحية ويعبُرون بسلام.. فقدان «ميطون» بلغنا بني بوعياش. تلقف «الزملاء الجدد» البضاعة، حملوها إلى منزل قال لي ميطون إنه يتواجد خارج بني بوعياش بحوالي 5 كيلومترات. استسلم أفراد المجموعة للنوم، ضاربين موعدا في الساعة التاسعة ليلا لتنطلق الرحلة من جديد، ورشيد هو الوحيد الذي لديه القرار لتحديدها أو حتى إلغائها، إن اقتضى الأمر. بينما غط أصدقائي في نوم عميق، غيرَ آبهين تماما بما ينتظرهم بعد ساعات، رفض النوم أن يزورني، كنت أفكر في زاوية معالجة الموضوع وطريقة عرضه، ولم أكن أعلم أن ما هو قادم أخطر مما عشته.. لم أخبر عائلتي أنني زرت الريف، فأن تزور بني بوعياش ولا تصل الرحم مع العائلة في الحسيمة ذنب لا يُغتفر.. تفيد المعطيات التي حصلت عليها «المساء» أن رئيس الشبكة هو الذي يهيئ الطريق إلى كتامة عبر دفع مَبالغ مالية لبعض رجال الدرك لفسح الطريق أمام تجار المخدرات، وتتراوح هذه المبالغ بين 20 ألف درهم و40 ألف درهم، حسب نوع العملية وتوقيتها. وتؤكد المعطيات ذاتها أن رئيس الشبكة، شخص آخر غير رشيد، يتكفل بمهمة أساسية هي ربط علاقات واسعة مع رجال الدرك والاستعلامات ل«شراء الطريق».. لكنْ ليس في كل مرة تسلم الجرّة، حيث شدّدت قوات الدرك الملكي مؤخرا الخناقَ على شبكة تجارة المخدرات، خاصة أنه يتم تنقيل كل دركي يُشتبَه فيه أنه يتهاون في عمله إلى منطقة أخرى أو يعفى من مهامّه تماماً. أقرأ الآن على هاتفي خبرا يفيد أنّ ثلاثة أشخاص قتلوا في تصفية حسابات بين تجار المخدرات في بلدة شقران، التي لا تبعد كثيرا عن بني يوعياش.. كنت أحاول جاهدا أن أوقظ صديقي ميطون لأطلعه على الخبر، موقنا أنه لن يكون خبرا يسرّ الشبكة، بيد أن رشيد، صاحب الشخصية القوية، كان قد استيقظ في الثانية عشرة بعد اتصال هاتفيّ. امتقع وجهه كما لم أره من قبل، دعا زملاءه إلى الاستيقاظ فورا، فتفاصيل الخطة تغيرت وستكون الوجهة المقبلة مدينة طنجة وستنطلق الرحلة في الساعة السادسة عوض التاسعة وسيبقى ميطون في بني بوعياش بمعية باقي عناصر الشبكة حتى تأتيّه «الإشارة» بالتحرّك. نزل عليّ الخبر كالصاعقة، سأفقد ميطون، الذي كان يُفهمُني كل الأمور التي تحدث أمام عيني دون أن أعرف مقاصدها.. أفهمني صديقي أن كريم سيتكلف بشرح بعض التفاصيل المبهمَة، دون أن يعلم أنّ كل شيء بالنسبة إليّ هو مبهَم وغامض في هذا العالم الصغير.. في التاسعة ليلا، ركب رشيد «الكات كاتْ»، ونفث عقاب سيجارته بعصبية مبالغ فيها، ربما توصل باتصال بعثر كل أوراقه وحسابات المجموعة.. أسرّ لكريم أن الطريق لن تسكون سالمة بالطريقة التي يرتضيها.. تلقف كريم كلام رشيد بسرعة البرق وطفق يلفّ 30 كيلوغراما من الحشيش من جديد ويضعها في مخبأ للسيارة، خشية سقوطهم في قبضة رجال الدرك. يقول كريم إن عالم تجارة المخدرات مليء بالألغام، لكنْ حين يصل الأمر إلى الموت، فإن المخاطرة تصير العنوانَ الأبرز للرحلة.. للمرة الثانية يعتريني شعور بالخوف. كنت أخشى أن نسقط في قبضة رجال الدرك الملكي ويضيع كل شيء.. ما كنت أحبه في رشيد هو أنه يقرأ كل ما يدور في خلدي «أوتكوذشي أرشيد، تا دلفرصة إينكْ أترمذذ أستنذ شْحا إسوا مانايا» (لا تخفْ يا رشيد، فهذه فرصتك لتتعلم وتعرف الثمن الحقيقيّ الذي من الممكن أن تدفعه جراء مزاولتك هذا العمل).. زرعت فيّ كلمات رشيد بعض بذور الاطمئنان، شيء ما كان في لكنته يمنحي الأمان.. تحرّكت السيارة من بني بوعياش في اتجاه مدينة طنجة، والنوم يكاد ينال مني، استسمحت رشيد أن أكمل قراءة كتاب جلبته معي من الرباط قبل أن التحق بالمجموعة. وافق رشيد، وأخبرني أنه كان عاشقا لنجيب محفوظ ويوسف إدريس.. لكنْ حين حصل على البكالوريا ترك كل شيء وراءه وبدت له «ثرثرة فوق كتامة» ألذ بكثير من «ثرثرة فوق النيل» لمحفوظ نفسه.. في الكتاب الذي أقرأه يشرح كافكا بمرح كبير ثنائية الضحك والبكاء. وكم كان شرح الروائي الشيكي الأشهر على الإطلاق ملائما للحالة التي أعيشها الآن.. لم أتوقف عن القراءة إلا عندما بلغنا حاجزا للدرك. توقفت السيارة، التي تحمل ترقيم الرباط، واستفسرونا عن وجهتنا. رد رشيد، برباطة جأش نادرة وباتّزان لا يعرفه إلا من يحمل 30 كيلوغراما من المخدرات: «إلى بني بوعياش، سيدي».. قال رشيد إنه حاجز الدرك الوحيد «غير المضمون» وفق ما أخبره به رئيسه، أما شبكة الجواسيس فهي موجودة على طول الطريق الرابطة بين الحسيمةوطنجة.. توقفنا في الطريق الساحلية وشرع رشيد يقصّ شريط حياته وكيف أنه تخلى عن دراسته من أجل التجارة في المخدرات وكيف تمكن في ظرف ثلاث سنوات من التعرف على عشرات الأمنيين والدركيين والقضاة وكتاب المحاضر.. وكيف يُسيّر «جيشا» من المخبرين، يتوزعون في أكثر من 6 مدن مغربية، أغلبها في الشمال.. أخبرني رشيد أنه أفلت غيرَ ما مرة من الاعتقال، بل إن رئيسه هو من أنقذه مرات عديدة.. حاولت طرح السؤال بالطريقة التي لن تثير أيّ شك، لقد تولدت لديّ قناعة راسخة بأن الفتى الذي أتحدث إليه ذكيّ وقوي جدا: «مَاني إيتيري أرّايسْ نّغ أرشيد؟» (أين يكون رئيسنا يا رشيد؟).. توقعت أن يتردد في إجابته، لكنه قال إنه يسكن في طنجة ويمتلك عقارات في كل أنحاء المغرب ولم يسبق أن تم اعتقاله سوى مرة واحدة، بعد أن ورد اسمه في تحقيقات للشرطة في مدينة تطوان. رغم أن رشيد يفتخر برئيسه، لكنه لا يتحمّل تكبره وعجرفته، وهذا سأعرفه لاحقا.. في محطة أنشأها سكان المنطقة المجاورة للطريق الساحلية التي تقود إلى طنجة كان كريم، الصامت على الدوام، يلتهم السردين، وهو ينصت إلى حوارنا البعيد عن شجون الحشيش.. يتمتم بكلام غير مفهوم، متحدثا عن حبيبته التي تركها في الحسيمة.. أسرّ لي رشيد أنه يريد أن يتزوج في العام المقبل من فتاة تدرس في إحدى ثانويات الحسيمة دون أن يتخلى عن مهنته التي يعشقها حد الجنون.. أجمل ما في هذه المهنة، يستطرد رشيد، أنها تتطلب روح المخاطرة وتؤدي إلى الكسب السريع. قال لي إن الرحلة إلى طنجة ستقودنا إلى أماكن فاخرة وإننا سنلتقي شخصيات بارزة هناك، أما البضاعة فسنضعها في مكان غير بعيد عن عاصمة البوغاز. حرّكت رأسي راضيا على اقتراحه، في حين أن شوكة الصحافي ظلت تغرزني بين الفينة الأخرى، تحلّيتُ ببعض الشجاعة لأسأل رشيد عن ثمن 30 كيلوغراما من الحشيش.. أجابني أن ثمنها سيتضاعف ثلاث مرات في ظرف يوم واحد نظرا إلى الجودة العالية للمخدرات التي استقدمها من كتامة. ودون أن أسأله عما حدث في شقران، أطرق يتحدث عن تقصير بعض رجال الدرك في ما جرى وعلاقتهم بمنفّذ العملية والضحايا، متيقنا أن لرجال الدرك دورا في الحادثة. وبعد نهاية التحقيق، كتبت على صدر الصفحة الأولى أن منفذ العملية قاد 3 دركيين إلى الاعتقال، وتذكرت لم كان صديقي يتحدث بكل هذه الوثوقية. حسابات تجار المخدرات وصلت السيارة إلى طنجة في الساعة الحادية عشرة والنصف مساء، وبلغ إلى علم رشيد أن أحد أصدقائه في مدينة الحسيمة -غير الذين تركهم في بني بوعياش- قد ألقيّ عليه القبض، والتهمة: المتاجرة في الكوكايين.. لأزيد من ساعة انكفأ رشيد على نفسه وأمر كريم بأن يتصل بأحدهم ليقوم بالواجب؟. بعد ذلك، توصلتُ إلى معلومات تؤكد أن صديق رشيد، الذي اعتقل في الحسيمة، نصبت له قوات الشرطة كمينا للإيقاع به متلبسا.. بدا رشيد غاضبا بسبب ما سماه «شمتة» عميدين للأمن صديقين للشبكة حصلا على رخصة بالتغيب عن العمل في اليوم نفسه الذي اعتُقِل فيه صديقه. لكنّ رشيد حرّك شبكة علاقاته الواسعة، وأسرّ لي أن المحضر الذي أنجز خفّض كمية الكوكايين المحجوزة عند صديقه من 50 غراما إلى عشرة غرامات، ما يعني أنه سيقضي عقوبة حبسية تتراوح بين 6 أشهر وعام واحد.. صبّ رشيد جام غضبه على صديقه المعتقل، حكى لي أنه كان يُحذره من الاشتغال لحساب مجموعتين، لأن الأمر سيقذف به إلى «عش الدبابير» بسبب تعقد حسابات الاتجار في المخدرات، لكنه لم يكن ينصت إلى نصائحه، وها هي المجموعة الأولى قد «باعته» لرجال الشرطة.. حالة استنفار حقيقية تعيشها المجموعة بعد أن اتصل مساعد للرئيس مخبرا رشيد أن صديقه، بائع الكوكايين، كشف أسماء مجموعة من الأسماء التي يتعامل معها.. أما رشيد فلم يعبأ قط بهذا الاتصال، واستمر في عمله وكأنّ شيئا لم يقع. كان يدرك أن صديقه لن يثير أي اسم من مجموعته لأنه لا يعرفها أصلا!.. رسم ابتسامة ماكرة على شفتيه وقال، بنبرة تشبه هدير شاحنة قديمة: «راحن داكسْ إمشومْني عاوْذ أسند بْرحن إيج إيجْ» (سيطلبون جميع عناصر الشبكة الثانية للتحقيق -مْشاوْ فيها).. تبدو الصورة واضحة الآن، الشبكة التي انضممتُ إليها لإعداد تحقيق صحافيّ مختصة كذلك في تجارة وتوزيع الكوكاكيين على مستوى مدن الشمال، خاصة في تطوانوطنجةوالحسيمة.. هي حسابات تجار الحشيش وحسابات السيطرة على السوق والتحكم في زراعي الحشيش في كتامة دون منافسة.. حسابات وجدتُني، على حين غرة، منغمسا فيها وخبيرا بتفاصيلها وكواليسها دون أن أخمّن للحظة واحدة أن دهاليز الشبكة لا تتوقف عند الحشيش فقط.. هكذا تبدأ ليالي طنجة الباذخة. لا أعرف أين وضع رشيد 30 كيلوغراما من الحشيش التي استقدمها من كتامة.. تركني في إحدى الشقق المجاورة لكورنيش طنجة وعاد إليّ بعد 45 ودقيقة بمعية كريم، وأخبرني أن مجموعة ميطون ستلتحق بطنجة بعد ساعتين من الآن، لكنْ قبل ذلك، علينا أن نرتديّ أحدث ألبستنا، فقد يكون ليلنا طويلا مع يسميهم رشيد «شخصيات نافذة». «ذلك عميد أمن، وهذا تاجر مخدرات معروف في تطوان.. أما الذي يشرب الويسكي مزهوا فهو بالضبط من كنتُ أبحث عنه منذ أن انطلقت من مدينة وجدة».. قال لي رشيد إنه زعيم المجموعة، ابن منطقة محاذية لتاونات، يسكن في فيلا فاخرة في إحدى مدن الشمال، ويجتمعون في هذه الشقة الباذخة في طنجة. حسناء و«الزعيم» قبل أن يُقدّمني رشيد إلى زعيم المجموعة، عرّفني إلى ثلاث فتيات، أطلق عليهنّ في هذا التحقيق أسماء سميرة وحسناء وإيمان.. الأولى طويلة وترتدي ملابس تبرز كل مفاتنها، وتعرّي جميع تضاريس جغرافيا جسمها، والثانية تشرب كأس «فانْ روجْ»، أما إيمان فهي الأقصر بينهن، انتعلت «طاكونا» تسير به مشية الإوزّة المنتشية.. وسط كل هذا الصخب الذي بدأ يدبّ في رأسي، أخبرني كريم أن تلك الفتيات ناشطات في شبكة دولية لتجارة المخدرات، أخطرهن حسناء، التي يساعدها جسدها الممشوق في غواية الرجل، وقد نجحتْ في عمليات كثيرة لكنها تشتغل حاليا في المغرب بعد أن شدّدت قوات الشرطة الخناق على التهريب الدولي للمخدرات.. حسناء كذلك تشتغل لحساب المجموعة نفسها التي يترأس ذراعا منها صديقي رشيد، الذي اختفى عن الأنظار فجأة في لجة هذه الحفلة الباذخة، ولولا صديقي كريم لكانت الدقائق التي غاب فيها رشيد أشبهَ ما تكون بيوم البعث بالنسبة إليّ.. نادى عليّ رشيد بصوته الجهوريّ، قمت مسرعا إليه. «سيورْ شواشوي أرْ إخفينك داغيورْ قا غيرْ أييذيه، عذراغك كورْشي» (تحدث بأدب، احسب نفسك ساذجا، لا تجب سوى بنعم، لقد رتبت لك كل شيء).. هكذا خاطبني هذا الريفي الغريب قبيل ثوان معدودة من اللقاء ب«رأس» الشبكة.. جلست بقربه، سألني عن أجواء السهرة الليلية، وعن مستواي الدراسي، وعن إمكانية بقائي وعن المال الذي سأجنيه من العمليات التي سأنفذها في القريب العاجل.. في كلامه نبرة متعجرفة، يتحدث دقيقة ويتوقف دقيقتين، ليعبّ من كأسه ما تيسّر من الويسكي الفاخر، يُقبّل هذه ويحضن تلك.. لكن صورة ميطون لم تفارقني للحظة. أنهى كلامه بالقول: «مرحبا بك، ولا شكّ أن أصدقاءك علّموك مبادئ الشبكة وقواعدها، وأنّ من يدخل سالما لا يخرج سالما».. قلبت كلامه في ذهني طويلا، ثم التحقت بصديقي كريم، الذي بدأ يتمايل من السكر ويمزج كلامه برذاذ متطاير.. وبينما كان رشيد يتحدث مع أصدقائه بعد رحلة متعبة من كتامة، تبادلتُ أطراف الحديث مع حسناء، العضو الأخطر في الشبكة النسائية لتجارة المخدرات.. سألتها عن أحوالها وعن أجواء السهرة، ردّت عليّ بسخرية لاذعة: «وأنت؟ يبدو عليك أنك تحبّ المساجد أكثر من هذه الشقق»!.. أصابتْني كلماتُها في الصّميم، لكنْ سرعان ما تداركتُ الأمر وأخبرتها أنني التحقت لتوّي بالسهرة وأنّ التعب نال مني بفعل رحلة منهكة.. وضعت يديها على كتفي، وشرعت تطفئ صبوتها التي أشعلها الروج الفرنسي: تقبل وتلمس وتلبي النداء الفرويدي، غير أن عينيّ لم تفارقا ذلك الذي تحدّثَ إليّ بعجرفة مقززة قبل قليل.. ظفرت من حسناء بمعلومة ربما انفلتت من لسانها وهي أن البضاعة التي وصلت من كتامة ستنضاف إلى بضاعة أخرى جلبها رشيد نفسُه قبل أسبوعين فقط من قرية قريبة جدا من تاونات.. كانت تعلم أنني أصبحت عضوا في الشبكة الجديدة، فالداخل إلى الشقة، أيّاً كان، ينبغي أن يكون معروفا وسط المجموعة. تحدثت إلي -للأمانة- بلباقة عالية، وتلك كانت طريقتها في إنجاح أحد أكبر عمليات تهريب المخدرات في الشمال.. في السهرة تعرّفتُ، أيضا، على مساعد زعيم المجموعة. لم يفارق الكأس من الساعة الثانية عشرة والنصف إلى الثالثة والنصف صباحا.. لا تبدو على وجهه علامات الرفاه، لكنْ كلما عب من كأسه يزيد من «نصائحه» التي تنتهي.. كان هاجس القبض عليه يسيطر على كل كلامه، يعيش انفصاما خطيرا في شخصيته، مع أنّ الجمع بين «حلاوة» المال والخوف من السقوط قد لا يناسب ليلة مثل هذه. في سكون الليل الأخير في مدينة محمد شكري الأبدية تتحوّل الشقة الفاخرة إلى ماخور حقيقيّ: الكل هنا يرقصون والكل يبحثون عن أجساد النساء الطرية والكل يتسابقون على جسد حسناء الغاوية، والكل ينالون ما يريدون.. وحتى عميد الأمن، الذي أشار إليه رشيد في البداية، ينقضّ على إيمان، القصيرة، ويسلم نفسه للغريزة تفعل به ما تشاء.. لا مجال هنا للاستقامة ولا مكان هنا للطهرانيّين، المكان فضاء للباحثين عن اللذة وعن «شاربي» الكوكايين.. يحدث كل هذا بعيدا عن رجال الأمن: وهل يعقل أن يعتقل رجال الأمن عميدَهم؟.. لكنّ ما لفت انتباهي هو أن إيمان، القصيرة، لا تشرب الخمر، تكتفي فقط بمضاجعة عميد الشرطة.. ربما كانت تنفذ وصية لمحمود درويش، الذي يقول: «الجميلات هنّ القصيرات، يُشرَبن في كأس ماء»!.. أخيرا.. يصل صديقي ميطون بمعية أصدقائه، وقد فاته الكثير من صخب الليلة.. سلّم عليّ وعلى كريم ومر كالبرق الخاطف، باحثا عن رشيد. تمتم بشيء في أذنه وفي أذن زعيمه، صاحب العقارات والشركات في كل أنحاء المغرب.. الظاهر أن كريم نفذ عملية أخرى غير التي نفذها رشيد، والأرجح أن يكون قد نقل البضاعة التي وضعها رشيد في مكان غير بعيد عن مدينة طنجة إلى مكان آخر.. استدرجت ميطون للحديث عما جرى له الليلة وعن علاقة تاجر الكوكايين، الذي تم اعتقاله البارحة، بشبكتهم وعن سبب تأخرهم في الالتحاق بنا، لأنني لم أصدق ولو للحظة أن التأخر كان مردّه ما حدث في شقران.. صحيحٌ أن بعض «تفاصيل» الرحلة تغيّرت لكنّ حلقة ما مفقودة ما تزال تحيّرني وتدفعني نحو مزيد من البحث. وحتى يتم البحث بالكيفية التي أريدها يجب أن يتحدث ميطون: «بعد 30 دقيقة من مغادرتكم ركبنا سيارتنا الصغيرة وتبعناكم، وأثناء بقائك لوحدك في طنجة وسلمناها لرجال ذلك الرجل، الذي يقف قرب رشيد -يشير بسبابة أصبعه إلى رجل ضخم بربطة عنق حمراء- والأدهى من ذلك أننا نقلنا كمية من الكوكايين إلى شبكة أخرى».. انتهت السهرة وخرجنا من الشقة الفاخرة، وتحرّكنا في اتجاه شقة أخرى، بمعية كل من رشيد وحسن وكريم، همست لميطون أن عليّ أن أغادر غدا مساء في اتجاه تطوان.. رفض الفكرة من أساسها، مؤكدا أن المغادرة الآن ستثير شكوك الجميع وأنه -هو ورشيد- من سيدفعان الثمن.. في المساء تحدثت مع رشيد، وأقنعته أنني أعاني من مشاكل كبيرة في التنفس وليس بمقدروي أن أواصل لأكثر من يومين.. وافق «رئيسي» في الشبكة على طلبي على مضض، متمنيا لي الشفاء والعودة في أقرب وقت ممكن.. شكرته على المعاملة الجيدة وشكرت كل أفراد المجموعة على استقبالهم.. بيد أن الأسئلة عادت لتتناسل في رأسي حول الطريقة التي سأحرر بها هذا التحقيق.. أول شيء فكرت فيه هو حاسوبي المحمول،الذي تركته في وجدة، والموعد الذي رتبته، أو رتبه صديق لي مع أحد تجار المخدرات التائبين، والذي كان أحدَ أكبر تجار المخدرت في فترة التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، حسب ما أخبرني صديقي. تاجر «تائب» صار لديّ الآن زاد غير قليل من خبايا أشهر عشبة في المغرب على الإطلاق.. كنت أتوهّم أنني أعرف طنجة ودروبها وفضاءاتها، التي أبهرت جان جنيه وبول بولز، غير أن الليلة هدمت معبد تلك الأوهام على رأسي.. الساعة تشير إلى السابعة مساء، أشرب قهوتي في مقهى صغير، وأخط في مذكرتي الصغيرة العناوين الكبيرة والصغيرة للملف وبعض الأسئلة التي من الممكن أن أطرحها غدا على تاجر المخدرات «التائب».. حللت بتطوان في صباح اليوم الموالي. وجدت صديقي ينتظرني في المحطة، دلّني على منزل الرجل الذي جئت من أجله إلى المدينة. دعاني إلى الغذاء لنتحدث على سجيتنا، رفض أن أستعين بآلة التسجيل. حدّثني عن الخدع التي يلجأ إليها تجار المخدرات في الشمال لإيهام قوات الأمن والدرك ومصالح الاستعلامات. بالنسبة إلى «أحمد» فإنّ تصريح امحند العنصر حول «وجود مطارات لنقل المخدرات» تصريح لا يمُتّ إلى الحقيقة بِصِلة، لأن لعبة المطارات لعبة قديمة أوهم بها تجار المخدرات الكبار الدولة، فصاروا ينفّذون عمليات تهريب المخدرات بمساعدة بعض رجال الأمن بسهولة بالغة.. «تاب» أحمد منذ سنتين، بعد أن «صال وجال» في مدن المغرب وهرّب المخدرات والكوكايين إلى الخارج.. اعتزل هذه «التّجارة» مكرّسا كل وقته لتربية ابنيته الصغيرتين. يقول: «لدى تجار المخدرات في الشمال «دولتهم» التي يحكمون فيها، ورغم مجهودات السلطات الأمنية، فإنه حينما يختلط المال بالسلطة والجنس يصبح الوضع صعبا جدا».. محطة الانطلاق لتجار المخدرات هي طنجة في علاقة متينة بمدينة الحسيمة، يستطرد أحمد، الذي عرف خلال مساره في تجارة المخدرات مجموعة من رجال السياسة الذين تاجروا في المخدرات، مبرزا أن سياسيين كبارا دخلوا «هذا العالم» في السنوات الأخيرة. وأشار أحمد إلى أن «تواطؤ بعض رجال الدرك مع تجار المخدرات هو السبب الرئيس وراء عدم القضاء على هذه التجارة في المغرب»، مضيفا أن الفلاحين الصغار في كتامة هم المتضررون الرئيسون من الدورة الكاملة لتجارة المخدرات.. لا يتوانى أحمد، الذي يتحدث للصحافة لأول مرة منذ أن ترك هذا الميدان، عن التأكيد أن أرباح بعض العمليات تتجاوز أحيانا مليار سنتيم لكل عملية.. يكون منها نصيب كبير لزعيم الشبكة، الذي لا يبذل جهدا كبيرا سوى جني قطف المجهود الذي يبذله مجموع أفراد الشبكة.. وعن دور النساء، يتذكر أحمد أن فتاة كانت تشتغل معه في المجموعة «أسقطت» أكثر من عشرة عمداء أمن ممتازين في مرحلة لا تتجاوز عشرة شهور.. وكانت هي المحرّك الرئيس لشبكة الاتجار الدولي في المخدرات، أما الشبكات الداخلية فهي غالبا ما تسند إلى رجال يتحدّرون من الريف لقدرتهم على تحمل مشاق السفر، بل والسجن في بعض الأحيان.. يرى أحمد أن الدولة تعرف جيدا من هم التجار الكبار للمخدرات في المغرب وتعرف الخريطة السرية لتهريبها، وعليها أن تتحمل مسؤوليتها كاملة في إيقاف المتورطين في العبث بمصير آلاف الشباب والشابات المغاربة. انتهى حواري مع أحمد، ورفض أن يمدّني برقم هاتفه رغم أنني أخبرته أني قد أحتاجه في بعض فصول التحقيق، متعللا بكونه «غادر هذا المجال بدون رجعة وتاب توبة نصوحا»، وأن موافقته على مجالستي كانت بإلحاح كبير من صديقه.. حملت حقيبتي، ويمّمتُ وجهي شطر وجدة، بحثا عن حاسوبي وعن لحظة استجمام بعد أربعة أيام متعبة.. انتظرت في طنجة إلى حدود الساعة العاشرة ليلا، موعد ثاني قطار متوجه إلى عاصمة الشرق. وفي الوقت الذي كان القطار يطوي المسافات كنت أفكر في ميطون ورشيد وكريم وحسن.. ماذا لو علم أصدقاء ميطون أنني صحافيّ جاء يتجسّس عليهم وينقل خططهم إلى الرأي العامّ؟.. كنت مخيرا بين الاحتفاظ ببعض الأسماء الحقيقية وإدراج أخرى بشكل مستعار، واستقرّ رأيي على أن أختار لكل أفراد المجموعة اسما معينا حتى ألتزم بالحد الأقصى من الوعود التي قطعتها على صديقي ميطون أول ما القينا في الحسيمة ذات خريف.. يتبوّلون عليهم ويقولون إنه المطر.. وصلتُ إلى وجدة في ساعة متأخرة من الصباح، حملت حاسوبي وعدتُ إلى كتامة، أستقرئ آراء الفلاحين حول تجارة الحشيش ومدى استفادتهم منها. رافقني في الرحلة صديق يعرف جغرافيا المنطقة وأهلها. قال أحد الفلاحين، بلكنة الموقن مما يصرح به: «عدْ، يا بنيّ، من حيث أتيت، فهذه النبتة هي التي تعيل هذه البلاد -يقصد كتامة- فلن يخبروك شيئا، لن تظفر بشيء.. إنهم يظلموننا، هؤلاء يحرقون حقولنا وأولئك يبتزّوننا والآخرون يسرقون محاصيلنا بشعر التوابل».. كان لديّ خياران في عزّ اشتعال الصراع في شقران حول تجارة المخدرات: أن أكمل الرحلة أو أن أغادر قمة «تدغين» خائبا، مكتفيا برحلة في طاكسي كبير أدندن مع مولاي أحمد الحسني «يا أومّي ما تبكيشْ، هادا هو مْكتابي.. الحظّ ما ساعدنيشْ باشْ نكون بحال صْحابي».. فاخترت الخيار الأول.. يُقرّ كل الفلاحين الذين التقتهم «المساء» بأن الدولة تهضم حقوقهم وبأنّ التجار الكبار يسرقونهم، لكنهم لا يقدرون على الكلام ما دامت الدولة تلوّح في وجوههم في كل مرة بورقة إحراق محاصيلهم.. وهي الشوكة التي تلوي أعناقهم كلما قرّروا «الانتفاض». يؤكد الفلاحون أن الدولة أهملتهم وسلّمتهم لتجار المخدرات يفعلون بهم ما يشاؤون، مبرزين أن الوضع القائم حاليا مرشح للانفجار في كل لحظة، فقد وصل «الغضب» إلى أقصاه لدى سكان كتامة والمناطق المجاورة، لاسيما في ظل تراجع محاصيل القنّب الهندي، الذي يشكل المادة الخام لصناعة الحشيش. وأضحكني أحد الفلاحين حين ذكر حكمة يُردّدها الإسبان في تظاهراتهم: «يتبوّلون علينا ويقولون إنه المطر».. زعيم الشبكة متعجرف بشكل لا يطاق، يقول عنه رشيد «في إمكانه أن يعرف من أين يتبرّز الذباب»!.. لم يُذكَر اسمه في التحقيقات إلا مرة واحدة ولم يسبق لقوات الأمن أن اعتقلته أو أثبتت تورّطه في الاتجار الوطني أوالدولي في المخدرات. يملك عقارات في سطات والدار البيضاءوالرباطوطنجة ومحلات تجارية في تطوانوالرباط كذلك.. راكم ثروة طائلة من وراء «تجارته» المربحة.. كوّن علاقات قوية مع رجال السياسة ومع شخصيات نافذة في الأمن، سمحت له بالإفلات من ملاحقة الأمن. يبلغ من العمر -استنادا إلى ما عرفته من رشيد- 56 عاما، اشتعل رأسه شيبا، لكنه ما يزال يدبّر أخطر عمليات بيع المخدرات في الشمال.. يتحدر من إقليم تاونات، أي من منطقة حسناء مساعِدته الأولى في شبكته. حسناء فتاة ذات قوام ممشوق وشعر خفيف وجسد مقدود، وهبها الله حذاقة فائقة في غواية الرجال، خاصة رجال الأمن.. يقول عنها أفراد الشبكة إنها اشتغلت لمدة طويلة في شبكات دولية لتجارة المخدرات، واستطاعت أن تضمن للشبكة أرباح خيالية. تتحدث بصوق رقيق، تحبّ شرب «الروج الفرنسي» ويتسابق عليها كل زعماء شبكات المتاجرة في المخدرات.. هي ابنة تاونات، لكنها «تربّتْ» في طنجة وعاشت أكثر من ثلاث سنوات في إسبانيا. ساهمت في عمليات كبيرة لتهريب الكوكايين، وهي -حسب ما صرّح به أفراد الشبكة- أبرز المقربات من زعيم الشبكة، ويغدق عليها أموالا طائلة، وهي عشيقته خارج مؤسسة الزواج.. لطيفة جدا، لا تعرف كيف تتحكم في انفعالاتها أثناء شرب الخمر، رغم أنه لا أحد يقدر على الظفر بمعلومات تخصّ ما تفعله بالضبط داخل المجموعة ولا عن أسرار العمليات التي قامت بها.. لكنها لطيفة للغاية وتتحدث بلطف مع الجميع، وهي الجميلة من بين صديقاتها. رشيد فتى هادئ، هندامه يخبر بسلوكه، لا يتحدث كثيرا، لكنْ لا أحد يعصي أوامره. يتمتع بكاريزما غريبة وشخصية قوية، ترك دراسته حبّاً في المخاطرة وجمع المال بشكل سريع.. يعمل تحت إمرته أكثر من 50 شخصا، بينهم جواسيس وأعضاء في شبكته. لا يغادر منزله في بني بوعياش إلا في أوقات محددة، تربطه علاقة قوية بزعيم الشبكة ويتكفل باستقدام الحشيش ذي الجودة العالية من كتامة بمساعدة أفراد مجموعته، التي يتغير عدد عناصرها بين الفينة الأخرى. استطاع في فترة وجيزة أن يُكوّن شبكة علاقات متشعبة، فيها رجال سلطة وأمنيون، ولا يُخفي قدرته على التدخل من أجل تزوير محاضر لإنقاذ أصدقائه وأعضاء شبكته من السجن..دالتحق بالشبكة قبل ثلاث سنوات بمساعدة أحد أفراد عائلته، وأبان عن قدرات عالية في تجارة الحشيش، ويحصل على مقابل كبير في كل عملية، يصل مقداره في بعض الأحيان إلى عشرة ملايين إذا ما تعلق الأمر بتجارة الحشيش وإلى 20 مليونا في عمليات التهريب الوطني للكوكايين.. يمكن اعتباره العقلَ المدبّرَ لواحدة من أخطر شبكات تجارة المخدرات في الشمال. يتوفر على حسّ تخطيطيّ نادر وهدوء لا يتزعزع، وبيان ذلك أنه استطاع أن يجتاز حاجز درك «غير مُؤمَّن» وفي حوزته 30 كيلوغراما من الحشيش دون أن يثير شكوك رجال الدرك.. ميطون هو الذي اختار أن أسميّه «ميطون»، حيث كان مهووسا بهذا الممثل الهندي عندما كانت السينما الهندية موضة في مدينة الحسيمة.. صديق دراسة قديم، كان معجبا بالفنون التشكيلية، لاسيما رسم المراكب.. كانت السياحة ثاوية في ذهنه منذ أن كان صغيرا، ولسوء الحظ قاده قدَره إلى أن يصبح «مسافرا» من نوع آخر، قد يجوب أربع مدن في ليلة واحدة.. رسب في السنة للأولى للبكالوريا، ثم التحق بشبكة للموزعين الصغار، وإثر ذلك انضمّ إلى شبكة رشيد. يبلغ من العمر 24 عاما، يمضي أغلب وقته في الحسيمة منتظرا اتصال رشيد وبداية عملية جديدة. لا يفكر في شيء سوى ممارسة الجنس مع الفتيات وشرب الويسكي، مشروبِه المفضل.. لا يشغل باله بأمور الزواج والحب وإنشاء أسرة، كما يفكر رشيد وكريم.. حياته بوهيمية إلى أقصى الحدود، هو الرجل الثاني بعد رشيد، رغم صغر سنه استطاع أن ينال ثقة أعضاء المجموعة. تتراوح عمولته بين 20 ألف درهم و25 ألفا لكل عملية.. كلما سألتَه عن مصير أمواله يجيبك بمقطع من أغنية ريفية معروفة للفنانة ميلودة: «يا كانتينا مينادورْ أراي رفروسْ إينو أراحْ ميناك أرغْ قاتسويتنذ ذربينو» (يا كانتينا مينادور -وهو ملهى ليلي- ردّ لي أموالي -اذهب إلى حال سبيلك، فأنا لن أردّ لك شيئا فقد شربتها خمورا)..