خلال السنوات الأخيرة، عرف المغرب تحولات جوهرية سريعة، واكبها تدهور رهيب في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والرياضية والبيئية، بسبب السياسات العمومية الفاشلة، وطفت على السطح كثير من الظواهر السلبية، ظهر معها قوم بلا ضمائر، تنعدم لديهم أبسط قيم القناعة وروح المواطنة الصادقة، يتهافتون على الكسب غير المشروع، عبر شتى وسائل التدليس والغش التجاري، ولا يبالون بما يعرضون إليه الآخرين من أخطار ومضار. ولحاجة الإنسان إلى نمو متوازن، واستمراره في الحياة بدون مشاكل صحية، فإنه ملزم باعتماد غذاء متكامل ونظافة بدنية متواصلة، يمنحانه قوة الحركة والحيوية، ويساعدانه على التركيز والتفكير… لذلك نجده وثيق الصلة بالسوق والمحلات التجارية قصد التبضع اليومي، وتناول وجبات غذائية خفيفة كلما اقتضت الضرورة ذلك. وهناك يمكن أن يتعرض إلى أخطر عمليات الاحتيال والاستغفال، ليس بلجوء الباعة إلى التطفيف في الكيل أو الزيادة في السعر، بل ببيعه أطعمة غير نظيفة وسلعا مغشوشة أو منتهية الصلاحية، ما قد يضر بسلامته وصحته. وتحضرني في هذا الصدد، ما اكتشفته يوما عن طريق الصدفة، من وجود قطعة جبن فاسدة مندسة في علبة من ثماني قطع، كان من المحتمل أن تصيبني بتسمم، لو لم تفضحها رائحتها الكريهة مباشرة بعد فتحها. فالمستهلك، صار مهددا بأخطار المواد المهربة والمغشوشة، مادام بيننا من يسهر على تقليد المنتجات دون احترام معايير الجودة، وتزوير الملصقات والتواريخ وطمس المصادر، وترويج بضاعته بين الباعة في المحلات التجارية والأسواق، وفوق الأرصفة تحت أشعة الشمس، بعيدا عن شروط السلامة والحفظ اللازمة. وليست وحدها التمور والثمار المجففة واللحوم والتوابل ومشتقات الألبان والمشروبات الغازية والكحولية… التي تخضع للتلاعب والتهريب، فهناك أيضا مواد النظافة والتجميل والتبغ والألبسة والنظارات الشمسية وزجاج النظارات البصرية… وخاصة الأدوية المستقدمة من المدينتين السليبتين سبتة ومليلية، فرنسا وإسبانيا والصين والهند وعبر الحدود الجزائرية والموريتانية، المتعلقة أساسا بالأمراض المزمنة: حقن الأنسولين وأقراص أمراض القلب والشرايين وضغط الدم. مما قد يؤدي إلى تفاقم أحوال المرضى وإصابة آخرين بأمراض الجلد والتسمم وإتلاف شبكة العين… ولعل أبرز العوامل المساعدة على تنامي تجارة السموم الغذائية، التي تتجاوز مداخيلها لدى البعض أرباح لوبيات العقار وترويج الخمور والمخدرات، تتجلى في سيطرة القطاع غير المهيكل على الاقتصاد الوطني، جهل المستهلك بحقوقه وتداعيات استهلاك السلع المغشوشة أو المهربة أو المنتهية الصلاحية، انخفاض أسعارها مقارنة مع المواد الأصلية والصالحة أمام ضعف قدرته الشرائية، لاسيما منها المواد الغذائية والمنتوجات الإلكترو منزلية وألبسة وأحذية الشباب والنساء، وهامش الربح الكبير الذي يحققه هذا الأخطبوط، فضلا عن قلة الأطر المكلفة بالمراقبة والكشف عن السلع المهيأة للتسويق، وعند دخولها إلى الموانئ والمطارات وعبر الحدود البرية، وغياب المختبرات المجهزة… وتتحول الأسواق خلال شهر رمضان، إلى أراض خصبة لازدهار تجارة المواد الفاسدة والمهربة، حيث تزداد شهية الصائم تفتحا على الاستهلاك المفرط، أمام تنوع السلع وإغراءات الأثمان المنخفضة، دون أن يتمكن من التمييز بين الجيد والرديء، ولا بما قد يلحقه من أضرار جسيمة صحيا وماديا. فطالما أقدمت لجن الجمارك وأعوان السلطة، على مداهمة محلات تجارية وفيلات مشبوهة يستغلها أصحابها للذبح السري وتخزين اللحوم، كما أن مصالح المراقبة التابعة للمديريات الجهوية للمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، تقوم من حين لآخر بمصادرة وحجز أطنان من المواد الغذائية المحلية والمستوردة الفاسدة… فالأخبار تكاد لا تتوقف في مختلف وسائل الإعلام، عن إطاحة رجال الدرك بمافيا الاتجار في هذه البضائع الفاسدة، ووقوع شركات مختصة في بيع المواد الغذائية ومستحضرات التنظيف والتجميل بيد السلطات الأمنية، جراء ضبط كميات ضخمة من المواد المنتهية الصلاحية مقتناة بأثمنة زهيدة، يتم إخفاؤها في ضيعات ومستودعات بعيدة عن "العيون"، والقيام بتغيير تواريخ صلاحيتها وإعادة بيعها. وتمتد أنشطة الشبكات التجارية المتأسسة على التزوير والغش، إلى قطاعات عدة ومتنوعة: ألبسة وأدوية ومنتجات محلية، توضع عليها علامات وأسماء شركات عالمية، وتعرض في محلات تجارية بأسعار مرتفعة. ولا ينحصر المشكل في استغلال الملكية الفكرية وحسب، بل الأخطر هو أن معظم هذه السلع التي اجتاحت الأسواق، إما أنها تحتوي على نسب عالية من الكيماويات الضارة، أو لا تتطابق في تركيبتها مع المواصفات المحددة من قبل منظمة الأغذية والأدوية، فتصبح بذلك مصدر تهديد حقيقي لصحة وسلامة وأمن المواطنين ونسف الاقتصاد المغربي، علاوة على أننا غالبا ما نجهل أصحابها الأصليين، ولمن تخصص أرباحها؟ وأمامنا أبرز مثال في تاجر فاس، المتهم بإمداد التنظيم الإرهابي "داعش" بمقاتلين، والمتاجرة في مواد غذائية فاسدة، الذي أدانته غرفة الجنايات الابتدائية المكلفة بجرائم الإرهاب في مدينة سلا خلال دجنبر 2015، بالحبس النافذ 4 سنوات لا غير ! ورغم الترسانة القانونية لحماية المستهلك، باعتباره أكبر ضحايا السوق، مازالت الخروقات تتناسل، فيما تظل السلطات المختصة عاجزة عن محاربة الغش والتهريب، والزيادات غير القانونية في الأسعار، ولا تستطيع مواكبة تطورات أساليب وحيل الغشاشين في المراكز التجارية، جراء ما تعانيه من نقص صارخ في أطر الصحة والمراقبة والتفتيش… وإلى جانب ضرورة توفير الموارد البشرية اللازمة وتطوير آليات الرقابة، لتشديد الخناق على المهربين والمحتالين، عوض الاكتفاء بالحملات الموسمية العابرة، فإن الدولة مدعوة إلى الحد من البطالة، إيجاد مصادر رزق بديلة لممتهني التهريب المعيشي، الحرص على تحسين أوضاع الشغيلة، ومواجهة التحديات للارتقاء بجودة الخدمات والمنتجات المحلية. والمواطن بدوره، مطالب بالتزام الحذر مما يعرض عليه من منتجات، والتأكد من صلاحيتها ومصدرها وجودتها، وعدم الانسياق خلف أثمنتها المنخفضة. وأن يكون حريصا على سلامته وأفراد أسرته ومجتمعه، ومتأهبا لتحصين اقتصاد وطنه من الانهيار، بالتبليغ الفوري عن كل التجاوزات. وعلى جمعيات حماية المستهلك مضاعفة جهودها، قصد تحسيس المواطنين بحقوقهم والأخطار المحدقة بهم، ونشر ثقافة الاستهلاك الواعي.