ما أغرب حكايا الديمقراطية ! كان من حكاياها أن آمن شعب بها و بلعبتها فانخرط في متاهاتها ووعودها بالتنمية و الازدهار و بمحاربة الفساد .. إيمان كإيمان المقامر بالحظ الآتي. ونحن بدورنا سنتبع الحلم إلى منتهاه، بلا تشكيك وبلا استعجال، لأن أمامنا عمر من الانتظار من أجل وطن متحضر. صحيح أن المغرب سوق الحراك الداخلي، الذي كاد أن يخيف “المخزن” في بعض مراحله، في اتجاه الخارج أكثر من جديته في علاج الأمراض التي قادت الجميع إلى الاحتجاج في الشارع، لكن جذوة الرفض لم تنطفئ بعد و لم تنطل الحيلة القديمة على عموم الرافضين. و الباعث على النبش في الموضوع هو التصريح الذي أوردته “الخبر “الجزائرية لزعيمة الحزب الاشتراكي الموحد المغربي، نبيلة منيب، حول تجربة بنكيران و القوى الفوق وطنية، حيث لمحت إلى ضرورة تبني المغرب للملكية البرلمانية من اجل فتح الفضاء السياسي و تنمية البلاد. صحيح أن المخزن العزيز قد أذاب بعض المشاكل و أحنى رأسه للربيع العربي حتى مر مرور ثور هائج بحركة خفة من الماتادور كما في مصارعة الثيران، صحيح أن دماغ السياسة المخزنية تمكن من احتواء الاحتجاجات السلمية و كبح حماسة الشباب “الرافض” لمواصلة الاستبداد في شتى مجالات التسيير، تسيير مغرب القرن الواحد و العشرين بعقلية ما قبل الحماية، لكن المغرب الشاب لا يمكنه أن يواصل حياته ب “الترقيع السياسي” الذي ظل البلسم القهري لكل مشاكله التنموية و الاجتماعية، لا يمكن للشباب المغاربي عموما أن يؤمن بحلول الدكان السياسي العتيد، الذي زور الانتخابات مرارا و تكرارا ، و قمع الاحتجاج السلمي و الدعوة إلى فضاء الحرية السياسية و المساهمة في تدبير الشأن الوطني، شباب يعي تمام الوعي الثمن الذي دفعه المغاربيون من أجل خروج التواجد العسكري للمستعمر، كما يعون كيف تم التفريط في القرار الوطني عبر طمس الهوية الحقيقية لعموم الشعب، والالتفاف على رغباته التنموية. واهِمٌ من ظن أن النظم التسلطية تحمل في ذاتها أدوات التغيير إلى غد تسود فيه فلسفة التعددية و مشروعية الجماهير في تقرير سياسة البلدان.. فمن ينكر أن سيادة الرئيس مبارك، الحكيم و الزعيم و القائد ، وصاحب النياشين و الضربة الأولى ، أمين القرار المصري و حافظ سيادة مصر و أب المصريين جميعا و الساهر على رفاهية شعب مصر؟ الأمر ليس إلا صورة تهريجية لا يصدقها لا الشلة الرئاسية و لا عموم الشعب. في دول المغرب الكبير، وضعية المشهد السياسي أصيبت بالتشويش الكبير مع الأزمة الجزائرية والاوليجاركية في كل من تونس والمغرب المتمثل في فشل الحكومات في وضع البلسم على الجراح العميقة،. فالحكومات في شمال إفريقيا حكومات لا تستند إلى صناديق الاقتراع كما هو متعارف عليه في الدول الديمقراطية، ليس ذلك نتيجة للتسلط فقط بل بسبب حرق المجهود والرصيد النضاليين للعديد من الطلائع الطامحة في غرس ثقافة التغيير في المجتمع الشارد حد الموت. كانت بعض الحركات المؤمنة بالنضال قد تم استدراجها إلى موائد السلطة و تم تفجيرها عبر سياسة الحظوة و الضم إلى عطف المخزن و نعيمه. أما الآن فالأكيد أن التجربة المغربية لا يمكن اعتبارها فقط امتدادا للحماسة المصاحبة للربيع الديمقراطي فقط ، بل إنها لعبة يلعبها منتسبوها و العين على عقارب الساعة؛ شعب يدخل معادلة الوقت على أمل التغيير نحو الإصلاح المبني على مفاهيم الحرية و التعددية و المجتمع المدني وفلسفة الجريمة و العقاب، مفاهيم يعرف الجميع أنها تهز جوهر الوجود بالنسبة للفساد ووجوهه، إن المجتمع المدني بدأ يحرك بيادقه نحو قلاع الفساد مع كل حركة يقدم عليها في حياته السياسية. لا تغيير بدون حركة، ولا تغيير بلا منظور سياسي يجر العقل الجمعي إلى ساحة الإبداع و الإرادة الفاعلة، التي ستحل حتما مكان التبعية التي حيدت الفعل في النضال ضد الهيمنة و الإقصاء. إن المجتمع الذي غيب الديناميكية التي تستهدف تطوره إلى الأفضل، لا يمكن للفرد فيه أن يعي الحاجة إلى الثورة، كتغيير جذري، وبالتالي أن يخلق حراكا ينفلت من الضبط الممارس من المواقع المقاومة للتغيير و الإصلاح. ففي المثال المغربي ، حيث أدت الخلطة السحرية إلى تقديم حزب، كان ينتمي إلى المعارضة المعترف بها، إلى المشهد السياسي دون التخلي عن الأوتاد المكونة للصورة السابقة للوجه السياسي للدولة المغربية، كما لاحظ العديد من المتتبعون للشأن المغربي. حاصل الجمع و الضرب أن “المخزن” تعامل بسلاسة مع “الهبّة” التي تلت سقوط الخوف في العديد من الأقطار العربية، تراجع خطوة و أنزل سياسات على أنها إصلاحات تخلّص المغاربة من الفساد و سوء التدبير؛ صوّت من صوت على الدستور رغبة في القطع مع الصلاحيات التي كانت محور القرارات السياسية التي طبعت العقد الأخير، حيث سوق لأحداث مؤسسات متصفة بالإصلاحية في ظل قرارات تتنافي في طبيعتها مع ما أسست من أجله كل تلك الهيئات، المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية مثال على سياقات و طبيعة القرارات الإصلاحية التي جاءت في الجو العام للعهد الجديد، غير أن العلة لم تكن يوما في هضم حق اللغة الامازيغية بقدر ما كانت مشكلة الإنسان المغربي المقهور اجتماعيا و الحي على هامش القرار و الإرادة. إن قدوم حزب العدالة و التنمية إلى مؤسسات الدولة لن يكون في أحسن أحواله إلا طرحا للسؤال القديم المتعلق بالتنمية و إطلاق مغرب العدالة و القانون، سؤال يستوجب للإجابة عليه بصدق أن يتجاوز العقل المخزني التعامل مع الاحتجاج بعقلية تصريف المشكل عوض التفكير في حله. من المؤكد أن التغيير الذي لا ينبني على فصل السلط لا يمكنه النجاة من التسلط إن لم نقل من الدكتاتورية ولو بوجهها الدبلوماسي، ولا يمكن للإصلاح أن ينبني على أسس تنتمي إلى فكر الدولة المهيمنة و التي تتحكم في الجماهير عبر استغلال الدين و التعبئة الإعلامية و ” البارشوك الإيديولوجي ” الذي يخفف الصدمات التي تأتي بلا توقع، إنما ينبني الإصلاح الحقيقي على مبادئ الحداثة و فلسفة الأنوار التي لا يمكن المساومة عليها. كيف ذلك بلا أحزاب سياسية؟ كيف ذلك مع عدم تمكن كوكبة بنكيران دخول المناطق الساخنة، المناطق التي تعتبر الحد بين الجد و الهزل، حيث يمكننا أن نلمس التشريعات التي تمنع تقعيد الفساد، حيث يمكننا أن نطمئن إلى اقتياد رموز الفساد إلى المحاكم، حيث ينتهي الريع و استغلال النفوذ؟ و السؤال الأهم من كل ذلك: هل يستعد “المحتج” إلى ما بعد بنكيران؟ ليس سرا أن ما يخافه المعولون على تجربة ما بعد 20 فبراير و 9 مارس هو ما ضمنه خليل حاوي في قصيدته الخالدة ” مُبْحرٌ ماتَتْ بعَينَيه مناراتُ الطريقْ .. ماتَ ذاكَ الضوء في عينيه ماتْ “؛ يستسلم الفكر الغير مروّض لمفهوم الرفض الأوسع، في حرية تامة بعيدا عن مقاسات القوانين و اللعبة السياسية الضيقة التي يشتغل أبطالها تحت مراقبة العين المحدقة، فيخرج الشارع دون وساطات و بلا نخب معبرا عن امتعاضه بدرجات تزلزل حتى المسلمات من الأمور، سيعود الشعب إلى نظرة كانط إلى الحضارة الممكنة، لن يطلب الشعب بمطالب جزئية يمكن تحقيقها بلعبة أرقام مزيفة، سيطالبون بالفكر الممكن عبر تجسيد العقل الممكن، المكون الذي يحتاج بالضرورة إلى الحرية الممكنة؛ وهنا سيحتاج المحتجون إلى ارتداء بزة الثوار لصناعة ثورة لا ضمانة على سلميتها التامة، خصوصا عندما تصر السلطة على الإكراه و الإلزام الغير متعاقد عليه. ولذلك نعود إلى السؤال : ماذا بعد بنكيران؟ بالنظر إلى ملامسة الإصلاحات لهموم الشعب، المعيشية و السياسية، يمكننا أن نرى ملامح المستقبل في مغربين اثنين ، الأول مغرب العدالة الحقيقية و سيادة القانون في ظل المقدسات ، مغرب لا مكان للمفسد فيه، مغرب يقطع مع عضوية البرلمان و الحكومة مدى الحياة، رؤساء النقابات إلى الأبد، وطن يعيش عمقه في الهامش، وطن إعلامه العمومي لا يحمل هموم المواطن؛ أما المغرب الثاني فحتما ملمحه يثير الجدل و مؤسساته كيانات لا روح فيها ولا حركة، مغرب “ما بعد بنكيران” حيث الخيارات تكاد تنعدم قطعا، ليس لان بنكيران و حكومته منزهة ، بل لان ظروف مجيئهم تزامنت مع ركلات الترجيح. “إقرار دستور ديمقراطي، وحكم ملكي برلماني بالمعايير الدولية، وكذلك القضاء على الفساد وتأسيس دولة الحق والقانون”، هذا هو مختصر مطالب أي حراك شعبي سيعزز التململ الحالي، سواء في المستقبل القريب أو البعيد، فلقد عبرت عنه أمينة الاشتراكي الموحد أيما تعبير.