تظهر إحدى مؤشّرات هذا النوع من الاصطفاف الأيديولوجي عشية أحداث الربيع العربي، من خلال التقسيم الموضوعي للعمل. فلقد بات واضحا أنّ السعودية هي الدّاعم الأساسي للتيارات السّلفية. بينما اختارت قطر دعم تيارات الإخوان المسلمين. وهي تستقبل التّوجّهات الإخوانية المحظورة داخل السعودية. فليس مصادفة أنّ زين العابدين سرور مؤسّس التّيار السروري يوجد اليوم في قطر. فضلا عن أنّ الشّيخ القرضاوي الذي يعتبر من شيوخ الإخوان يرتبط مع الجماعة التي زارها في المغرب كما التحق وفد من جماعة التوحيد والإصلاح والعدالة والتنمية بالمؤتمر التكريمي بوصفهم تلامذة الشيخ القرضاوي ومحبّيه. حيث عبّروا فيه عن أنّ الشيخ القرضاوي هو إمام العصر بلا منازع. ولقد انتظم هؤلاء الدعاة في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يعتبر تنظيما موازيا للإخوان المسلمين ويشكّل إحدى الأطر المستحدثة في سياق التمكين لدعوتهم واحتواء دعاة وعلماء من المشارب والتيارات الأخرى. ويؤكّد الجدل الدّاخلي للاتحاد عند كلّ موسم انتخاب للأمناء العامين على صراع النفوذ داخل هذا التنظيم ما بين الإخوان المسلمين من عرب الشّمال وبين الإخوان المسلمين من عرب الجنوب، وأقصد بهم إخوان الخليج. غير أنّ ما يفسّر سبب البراءة التنظيمية لرئيس الحكومة من الإخوان، هي التّطورات التي حصلت فيما بعد، حيث ناهضت الإمارات بمساندة من السعودية تنظيم الإخوان المسلمين وهدّدت الشيخ القرضاوي بالملاحقة القضائية من قبل ضاحي خلفان مسؤول الأمن الإماراتي الذي وجّه نقدا لاذعا للإخوان المسلمين في مصر أيضا. ويبدو أنّ رئيس الحكومة وأمين عام حزب العدالة والتنمية في المغرب هو الأكثر حذاقة سياسية من نظرائه داخل الحزب. فلقد كان تصريحه ذاك رسالة تطمينا غير مباشرة للأطراف الإقليمية التي يزعجها نفوذ الإخوان المسلمين في مناطق الربيع العربي. لا سيما وأنّ رئيس الحكومة يدرك أنّ هذا هو المدخل الطبيعي لعلاقات ثقة إن لم نقل تحوّل الجماعة من العلاقة مع قطر إلى العلاقة مع السعودية، أو في أدنى الحالات، اللعب على حبلي العلاقة. ومن هنا حينما يجري الحديث من باب التّخصيص عن الإخوان المسلمين ، نقصد هذا المعنى. حيث إنّ صعود الإسلاميين إلى الحكومة في بلدان الربيع العربي كان مقتصرا على الإخوان المسلمين، في حين لا نتحدّث عن استلام التّيار السّلفي بالمعنى الخاص للحكومات. وهذا يعود إلى أسباب كثيرة ، منها على سبيل المثال: 1 أنّ الإخوان المسلمين هم أكثر تنظيما وقدرة على الممارسة السياسية من السّلفيين. فلقد كان هؤلاء بعيدون عن السّياسة لأنهم كفروا باللعبة السياسية وكفروا بالتّحزّب وآثروا مستويين من العمل: أ إمّا الجنوح إلى ضرب من السلفية العلمية التي تفوّض أمر التدبير إلى وليّ الأمر المطاع. وتكتفي في منتهى خطابها بضرب من السياسة الشّرعية المتعلّقة بالحسبة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في ظلّ الحكومات القائمة ب وإمّا الجنوح إلى ضرب من السلفية الجهادية التّي تخرج على الحاكم وتعلن الجهاد وتدعو إلى تطبيق الشريعة بوسائل العنف المقدّس. 2 أنّ مقتضى الترتيبات الجيوسياسية اقتضت هذا النّوع من التّعاطي مع الإخوان دون غيرهم. وهو ما يشكّل اليوم كما ينذر غدا بصراع حاد بين الإخوان المسلمين والتّيار السّلفي. وهو صراع يذكيه العامل الخارجي والسّباق على النّفوذ. غير أنّ هذا التّمييز لا ينفي أنّ عدوى التّحوّل في الخطاب السياسي لدى هذه الجماعات لم يستثن أحدا. فلقد كان للتيار السلفي هو الآخر نصيبه من المراجعات في هذا المجال.لم يكن في وارد السعودية أن تطيح بالأنظمة العربية لتقيم أنظمة تابعة للتيار الإخواني أو السّلفي. فلقد رفضت في البداية سقوط نظام حسني مبارك وزين العابدين بنعلي، واستقبلت في أرضها هذا الأخير. وقد جاء دعمها للتيار السلفي في هذه البلدان في سياق السباق على النفوذ داخل دول الربيع العربي ما بعد الثّورة. هذا بينما كان تنظيم الإخوان المسلمين على علم بما ينتظره للوصول إلى تلك الحكومات حتى قبل الربيع العربي. كل شيء يبدأ من الشّرق البداية من الشرق؛ لأنه شكل على مدار الأزمنة العربية البؤرة المحورية للتأثير السّلبي أو الإيجابي على سائر الجغرافيا العربية. ليس هذا حصرا على أيديولوجيا معيّنة، بل لقد كان ذلك قدر الجغرافيا العربية بالنسبة لسائر الأيديولوجيات الكبرى التي شكّلت إطارا نظريا ورمزيا لانطلاق التغيير في المجال العربي. نتحدّث هنا عن المدّ الشيوعي والقومي والإسلامي على السّواء. وفي مثال الحركة الإسلامية لا بدّ من استحضار النموذج المصري بوصفه نموذجا تأسيسيا كان ولا يزال يشكّل الذّاكرة المرجعية لسائر الحركات الإسلامية في العالم العربي. وإن كان من سوء حظّ الإخوان المسلمين أنهم التجربة الإسلامية التي حرمت من حقها في تأسيس حزب سياسي يحمل العنوان نفسه وظلت جماعة محظورة وهو ما تجاوزته الحركات الإسلامية في كثير من الدول العربية، إلاّ أنها ظلت تحتفظ بزعامتها الروحية لسائر الحركات الإسلامية سواء من خلال التنظيم الدّولي بالنسبة للحركات العضو فيه أو من خلال العلاقات العامة التي تربطها بالتنظيمات الإسلامية الأخرى. ففي كل المؤسسات الإسلامية بما فيها تلك التي كانت ترعاها القوى السلفية في الخليج، كانت تدار من قبل قيادات إخوانية. لقد كانت مؤسسة الندوة العالمية للشباب المسلم مأوى لنشاط الإخوان كأعضاء في الأمانة الدّائمة للمؤسّسة برعاية من شيخ السّلفيين الشيخ بن باز. ولا يوجد قيادي في الجماعات الإسلامية ذات الخلفية الإخوانية لم يمرّ كناشط دعوي من هذه المؤسسة السلفية. فلقد عمل فيها عبد الكريم مطيع وزين العابدين سرور والغنوشي وكمال الهلباوي وعديد من قادة الإخوان والجماعات الإسلامية المرتبطة بها تنظيميا أو أيديولوجيا. وهي اللحظة التي شكّلت تتويجا للعلاقة التّاريخية بين الإخوان المسلمين والسّلفيين في الجزيرة العربية.وتظهر السلطة الرمزية والأبوية للإخوان من خلال موقف الإخوان من زعيم حزب العدالة والتنمية التركي أثناء زيارة هذا الأخير لمصر ونصحه للإخوان بأن يقبلوا بالعلمانية، جاء الرّد من قيادات الإخوان فورا، وتحديدا من عصام العريان الذي اعتبر ذلك تدخّلا في الشّأن المصري. مما أوجد جدلا في الأوساط المصرية اضطر أوردوغان إلى تبرير موقفه بخطأ في الترجمة. حيث لم يكن يقصد العلمانية بمعنى اللاّدينية، بل العلمانية التي تقف على طرف سواء من سائر الديانات. سؤال الشّرعية والمشروعية هناك تسامح كبير في الحديث عن إحراز الإسلاميين للسّلطة في بلدان الربيع العربي. ذلك لأنّ أي هشاشة في الشرعية والمشروعية يؤدّي إلى هشاشة في السّلطة التي يتمتّع بها هؤلاء.إنّ منبع السيادة في نهاية المطاف هي الشّرعية التي تؤكّدها حسب جون جاك روسو الإرادة العامة.فالسيادة عنده ليست سوى ممارسة هذه الإرادة.وربّما بدا التقسيم الويبري لمستويات وأنماط الشرعية على قدر من التّجريد. لكن المهمّ هنا هو الحدّ الذي تتقّوّم فيها الشّرعية بقبول المجتمع بالحاكم على أساس الشعور باستحقاقه لطاعة المحكوم.وهو ما يعني أنّ الشرعية بهذا المعنى تساهم في الاستقرار المجتمعي من خلال استقرار العلاقة بين الحاكم والمحكوم .وهذا الاستقرار أيضا تؤمّنه طبيعة الشّرعية والمشروعية في آن. لأنّه في نهاية المطاف ليس المعوّل عليه ها هنا إسناد حقّ الحاكم في الحكم، بل أيضا إسناد شرعية توافق الممارسة مع القوانين، وهو موضوع المشروعية.