بعد زيارة سليل العثمانيين لبلادنا، بدأ الملتحون يتذكرون تاريخ العثمانيين، ويمجدونهم، ويرفعون من قدرهم كلما حاوروا الناس، ويحملون على "كمال أتاتورك"، ويتهمونه بالكفر والزندقة والمُروق، في مقابل الثناء على "أردوغان وحزبه" في تركيا اليوم. ولسوء حظي ابتُليتُ بواحد منهم في سيارة أجرة، حيث بدأ يحدثنا بجهله، ويسرد تاريخا، الله وحده يعلم من أين استقاه، أو قرأه، أو سمعه، ومن بين ما افتراه كذبا أو جهلا، والظاهر أنه كان جهلا بلا شك، هو قوله إن أم "كمال أتاتورك" كانت كافرة، وربّت كمال على الكفر وكراهية الإسلام هكذا فقلتُ له بالحرف: "هل السيدة زبيدة هانم" أم مصطفى كمال، وأبوه "عليّ رضا أفندي" كانا كافرين؟ ألم تُدخِل السيدة زبيدة ابنها مصطفى إلى مدرسة قرآنية، راجية أن يصبح عالما أو مفسرا للقرآن الكريم أو قاضيا؟ ولكنّ الأب الذي كان جمركيا، وكان شاهدا وعارفا بالفساد والرشوة التي كانت تنخر الإمبراطورية، إلى جانب النظام القمعي البوليسي، أدرك أن حضارة السيف قد تنحت جانبا، مما جعله يدخِل ابنه مصطفى إلى مدرسة عصرية، وكان ذلك في مصلحة تركيا مستقبلا، لأن (مصطفى) هو الذي حافظ على وحدة الوطن، واستقلاله، وسلامة أراضيه، بعد معارك ضارية، فيما المعمّمون في "إسطانبول" أرسلوا جيشا لمحاربة جيش "مصطفى" في "أنقرة"، بدلا من محاربة المستعمر، ثم حاولوا اغتياله في "إزمير" سنة 1926.. لقد ألحق "كمال أتاتورك" هزيمة نكراء بالإنجليز سنة 1915 في معركة "غاليبولّلي"، وفقد "تشرشل" آنذاك لقب اللورد في بريطانيا.. لقد طرد اليونانيين من "إزمير" سنة 1922، وواجه الإنجليز، والفرنسيين، والروس مجتمعين، وهو الجندي الذي لم يعرف ولو هزيمة واحدة في حياته، فيما كان المعمَّمون يساومون المستعمرين، ويتنازلون تماما كما فعل أسلافهم من قبل مع "الصرب، والبلغار، والبوشناق" والقصة الهزلية طويلة.. فأنا لا يهمني "أتاتورك"، ولكن تهمني الأمانة العلمية والتاريخية، وتلكم أخلاق المسلم، مصداقا لقوله تعالى: "لا تبخسوا الناس أشياءهم" صدق الله العظيم.. فأصيب الملتحي الكذاب، بل الجاهل بصدمة، واعتراه الخجل أمام الركاب، فلجأ إلى التهم الجاهزة، حيث اتهم "أتاتورك" بالديكتاتورية، فكان جوابي كالتالي: لقد اتهمه "ستالين" بالفاشية، كما اتهمه "هتلر وموسوليني" بالشيوعية، ولكنّ (كمال) ما قتل رجل دين، أو منع حرية دينية قط، كما فعل متهموه، وخاصة الديكتاتور ستالين، صاحب التاريخ الدموي، وما اغتصب "كمال" أرض الغير، أو قتل أهلها كما فعل (هتلر وموسوليني) والعثماني "باشا السفاح"، وهو شانق "الكواكبي" وغيره من الوطنيين السوريين في بلاد الشام.. فكمال لم يتدخل في شؤون جيرانه كما يتدخل اليوم "أردوغان" في سوريا، وفي أحداث ساحة التحرير بمصر، فابتلاه الله عز وجل، بأحداث ساحة "تقسيم"، وهو أمر لم تعرفه حقبة "مصطفى"، الذي سماه الشعب "أتاتورك" ومعناها "أب الأمة"، فيما يسمّي الأتراك "أردوغان" بالديكتاتور، وحزبه، بالحزب النازي... قال الملتحي الجاهل، إن "أتاتورك" فصل الدين عن الدولة.. قلتُ: مرد ذلك إلى كون تركيا متعددة الأعراق، والطوائف، والإثنيات،؛ فكانت العلمانية هي الحل.. فكما فصل الدين عن الدولة، تماما كما ربط "معاوية" الدين بشتم "عليّ" في المساجد أثناء الصلاة؛ ومن رفض قُتل كما قُتل الصحابي "حِجر بن عدي" في الشام؛ فكمال أتاتورك، مارس السياسة بما هي كذلك.. لم يُعرف عن "أتاتورك" حبه للنساء؛ وقد طلّق "فكرية" ثم زوجته الثانية "لطيفة" بسبب حبه لتركيا، وكوّن أسرة من طفلات صغيرات تبناهن، ليصرن مثالا للمرأة التركية المعاصرة، وليس للتمتع وللمفاخذة كما يفعل بعض الملتحين المرضى؛ كما انتُخبت 17 امرأة في البرلمان سنة 1935، وبدأت التنمية والصناعة بدون عون خارجي.. لكن قصور العثمانيين كانت تعج بالنسوان، والغلمان، فيما، "كمال" منع تعدد الزوجات، ثم إن الله جل جلاله يكره ويحذّر من تعدد الزوجات.. قد يقال لي إن "كمال" كان يتعاطى الخمر، وهذا صحيح، إلى درجة أن الخمر هي السبب في انهيار صحته وموته؛ ولكنه لم يكن شغوفا بالنساء، وبالغلمان، ولم يكن يغتصب الطفلات القاصرات أو الأطفال، كما يفعل اليوم أولئك المتظاهرون بالدين؛ ولم يوظف العقيدة في الضحك على المواطنين، ولم يصمت عما يهدد وحدة الوطن كما يفعل الملتحون اليوم، بل في سبيل ذلك، قاتل، وناضل، وكان في مقدمة الجند، كما كان يقضي الليالي الطوال في مكتبه، حتى أدى ذلك إلى طلاقه، وانفصاله عن زوجتيه: يقول مؤرخ تركي معاصر: "نحن اليوم، بحاجة إلى "أتاتورك" جديد؛ وهذا الأتاتورك ليس هو أردوغان وحزبه العثماني الرجعي"..