كثيرة هي الثروات الطبيعية والزراعية التي عززت سمعة المغرب وسط باقي الأمم٬ وجعلته يحظى باهتمام متزايد من طرف الباحثين عن الصفاء والمتعة٬ سواء في جانبها المتعلق بالاستجمام أو بالطبخ٬ أو من طرف المنقبين عن كل ما هو أصيل. فبعد اكتشاف أشهر المختبرات العالمية لمنافع زيت الأركان ومشتقاته٬ سواء المستعملة في التغذية أو في أغراض التجميل٬ بادرت المصالح التابعة لكل من وزارة الفلاحة ومجلس جهة سوس ماسة درعة٬ باتخاذ مجموعة من الإجراءات الهادفة إلى حماية هذه الثروة الوطنية من التقليد ومن مختلف أشكال الغش٬ حيث توجت هذه الجهود بحصول زيت الأركان على علامة المنشأ٬ التي ساهمت في تثمين هذا المنتوج الطبيعي الفريد٬ والذي لا ينمو إلا في تربة سوس المعطاء. وبعدما تأتى لمنتوج الأركان٬ زيتا ومشتقات٬ بلوغ هذه الغاية التي أكسبته قدرة تسويقية قوية على الصعيد العالمي٬ جاء الدور على منتوج زراعي مغربي آخر فريد من نوعه٬ وهو "الزعفران الحر"٬ الذي وصفه الفقيه العلامة الصيدلي أبو العباس سيدي أحمد بن صالح الإدريسي الدرعي (توفي سنة 1731 ميلادية) في كتابه "الهدية المقبولة في الطب" ب"حشيش الجنة". ويطلق على الزعفران أيضا وصف "ذهب تالوين الأحمر"٬ نسبة إلى بلدة تالوين التابعة لإقليم تارودانت٬ والتي تعد المصدر الرئيسي لهذا المنتوج الغذائي والدوائي الذي يملك من المواصفات والمميزات ما أهله لينعت بالمعدن النفيس"الذهب". ومن أولى هذه المواصفات ندرته٬ وثانيها أن الوحدة الرئيسية لقياس كميات بيع الزعفران ليست الطن أو القنطار٬ ولا حتى الكيلوغرام٬ بل هي الغرام. فالزعفران المغربي الذي ينتج بالدرجة الأولى في محيط بلدة تالوين٬ ومجموعة من الجماعات القروية التابعة لمنطقة سيروا الجبلية في إقليم تارودانت٬ من ضمنها على الخصوص جماعات تاسوسفي وسكتانة٬ وسيدي احساين٬ ظلت قيمته الغذائية والدوائية مجهولة لوقت طويل٬ سوى من طرف الوسطاء والسياح الأجانب الذين يفدون على منطقة إنتاجه٬ فما يلبثوا أن يعودوا إليها مرات عدة لاقتناء هذه الثروة النباتية التي تدر عليهم٬ بعد إعادة بيعها٬ أرباحا كبيرة. وتفيد العديد من المصادر بأن المغرب من بين الدول الأوائل على الصعيد العالمي من حيث كميات إنتاج الزعفران الحر٬ إلى جانب دول أخرى مثل إيران والهند واليونان. وفضلا عن ذلك٬ فإن الزعفران المغربي يمتاز بجودته الغذائية والطبية العالية٬ والتي تجد تفسيرها في كون المزارعين الذين يمارسون هذا النشاط لا يستعملون المخصبات الكيميائية٬ وهذا مكمن السر وراء تسميته ب"الزعفران الحر". ومن خصائص إنتاج هذه المادة في المناطق الجبلية لتالوين كون هذه الزراعة تحتل استغلاليات أرضية صغيرة المساحة٬ وذلك في المرتفعات الجبلية التي يتراوح علوها ما بين 1200 و 2400 متر عن سطح البحر٬ حيث تتعاطى لهذه الزراعة التي هي في طور التوسع حوالي ألفي أسرة٬ تنتج نحو 95 في المائة من إجمالي الإنتاج الوطني من هذه المادة٬ والذي يناهز زهاء 3 أطنان سنويا. وللحصول على كيلوغرام واحد من الزعفران الحر لتالوين٬ ينبغي توفير حوالي 140 ألف وردة زعفران٬ وهي ذات لون أرجواني٬ تخرج منها شعيرات ذات لون أحمر يميل إلى البرتقالي. ويتطلب انتزاع هذه الشعيرات وعددها ثلاثة٬ مهارة خاصة٬ عادة ما تتولاها النساء٬ ليتم بعد ذلك تجفيف هذه الشعيرات في الظل قبل استهلاكها ك"زعفران حر". وبالنظر لطابع الندرة الذي يميز منتوج هذه الزراعة٬ بادرت العديد من الجهات المسؤولة وفي مقدمتها المصالح التابعة لوزارة الفلاحة ومجلس جهة سوس ماسة درعة إلى تدارس الإمكانيات المتاحة للنهوض بهذا الصنف من النشاط الزراعي الذي كان إلى وقت قريب يمارس بطرق شبه بدائية٬ والعمل بالتالي على إخراجه من ضيق الفلاحة المعاشية٬ إلى آفاق رحبة وذلك عبر تطوير تقنيات التعاطي لهذا النشاط الزراعي٬ وتأطير الفلاحين وتجميعهم قصد الرفع من مستواهم المعيشي٬ والوصول في نهاية المطاف إلى تثمين المنتوج٬ ومنحه مؤشرا جغرافيا يخرج به من محيطه الجبلي المنعزل إلى رحابة العالمية. وفي هذا السياق٬ شكلت زراعة الزعفران إحدى سلاسل الإنتاج التي حظيت بالاهتمام ضمن المخطط الجهوي للمغرب الأخضر٬ في شقه المتعلق بالفلاحة التضامنية٬ والذي يجري تنفيذه على مستوى منطقة تدخل المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي لورزازات٬ حيث تم في هذا الصدد رصد اعتمادات مالية تصل إلى 112 مليون درهم٬ من أجل تنفيذ مخطط طموح يمتد من 2010 حتى 2013٬ وذلك على مساحة تصل ألفا و30 هكتارا٬ بينما يصل عدد المزارعين المستفيدين من هذا المخطط ألفا و285 فلاحا. ويشمل هذا المخطط توسيع مساحة إنتاج الزعفران على مساحة 500 هكتار٬ وإعادة تأهيل وتكثيف غرس الزعفران (530 هكتارا)٬ والتجهيز بالري الموضعي (1030 هكتارا)٬ مما سيمكن من اقتصاد نسبة 55 بالمائة من الماء٬ إضافة إلى حفر وتجهيز خمسة آبار٬ وإحداث وحدة للتثمين٬ إلى جانب التأطير والمساعدة التقنية لفائدة المستفيدين. وسيمكن المشروع من رفع إنتاج الزعفران بالمنطقة من 1325 إلى 6695 كيلوغراما في السنة٬ ورفع المردودية من 5ر2 إلى 5ر6 كيلوغراما في الهكتار الواحد٬ وتحسين دخل الفلاحين٬ ليصل إلى أزيد من 97 ألف درهم عوض 19 ألف درهم في الهكتار حاليا٬ إلى جانب إحداث 600 منصب شغل إضافي قار. ويندرج مخطط تنمية سلسلة الزعفران بدائرة تالوين٬ الذي يشرف على تنفيذه المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي لورزازات٬ في إطار الإستراتيجية الوطنية لتنمية زراعة الزعفران التي تروم خلق هوية قوية وعرض أمثل للزعفران المغربي من أجل ضمان قيمة مضافة عالية. كما تتوخى هذه الإستراتيجية أيضا هيكلة سلسلة الزعفران عبر تجميع المنتجين في تعاونيات علاوة على وضع تدابير جديدة لحماية الإنتاج الوطني من خلال حظر تصدير بذور الزعفران٬ واعتماد علامة جودة المنتوج "زعفران تالوين". ومن أبرز المبادرات التي رأت النور في إطار هذه الإستراتيجية الطموحة٬ إحداث "دار الزعفران" في بلدية تالوين وهي ثمرة شراكة بين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية٬ ومجلس جهة سوس ماسة درعة٬ والمجلس الإقليمي لتارودانت٬ ووزارة الفلاحة والصيد البحري٬ والخواص. وتضم "دار الزعفران" التي كلف إنجازها مبلغ 5 ر6 مليون درهم محلات لتعاونيات إنتاج وتسويق المنتوج٬ ومختبرا٬ وقاعات لفرز الزعفران٬ ومتحفا لوسائل الإنتاج. وستضطلع هذه الدار بدور"بورصة" للزعفران تتولى تنظيم الأسعار وتحديد الثمن المرجعي٬ كما ستشكل فضاء لتبادل الخبرات بين المتدخلين. وأعقبت هذه الخطوة مبادرات أخرى تصب كلها في اتجاه حماية المنتوج وتثمينه٬ وكان آخرها تأسيس مجموعة ذات نفع اقتصادي تحمل اسم "زعفران تالوين" بدعم من عدة جهات على رأسها مجلس جهة سوس ماسة درعة٬ ومكتب تنمية التعاون٬ والمكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي لورزازات٬ والسلطات الإقليمية بعمالة تارودانت٬ إضافة إلى جمعية "هجرة وتنمية" التي لعبت دورا محوريا على مدى السنوات الماضية في تأطير فلاحي منطقة تالوين والنهوض بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.حسن هرماس