من إعداد : إبراهيم بدي [email protected] غالبا ما تبدأ الحكاية بالبداية المعتادة و المألوفة عند كل من عاش زمن الحكاية الشفوية أو الشفهية التي كانت ترويها الجدة تحت ضوء الشمعة الخافت والباهت , أو لمن حالفه الحظ لحضور حلقة الحكواتي من أمثال سيرة عنترة بن شداد الأزلية ألف ليلة و ليلة بديع الزمان و غيرها من الحكايات التي كانت تسبح بخيالنا و تجوب به بقاع العالم بدون جواز سفر و بدون تأشيرة , هذه البداية المألوفة التي مطلعها ''كان يا ما كان في قديم الزمان'' .. في أيّام فتوتنا وشبابنا،كنّا نسمع من الجدّ، والجدّة حكايات، روايات، قلّما نسمع مثلها في هذه الأيام، بعد اختراع المذياع،والتّلفاز،وغزو الإنترنيت لعالمنا الفلكلوري، والثقافي الشعبي. أذكرهنا بعضاً منها ،والتي مازال طيف ذكراها، يراود مخيلتي،عندما تجلس على البساط،ونحلّق حولها نحن الصغار كما تحلق( الصيصان حول الأم) ونقول : ''بغيناك تحكيلنا حكاية يا ما '' ونزولاً عند رغبتنا، تبدأ الجدّة بسرد حكاياتها،التي تكرّرها على مسامعنا كلّ أمسية ، وتخترع لنا بعضاً منها،وعلى الأغلب تكون الحكاية الجديدة مركبّة أحداثها من حكايات الجدّة نفسها.و كنّا لا نملّ حديثها و سردها لحكاياتها،فكلّما أرادت التوقّف، طالبناها بسرد المزيد ،إلى أن نستسلم لنوم عميق،ونحن متكئون على كتفها،أو جالسون على ركبتيها، ليأتي بعدها من هو اكبر منا سنا ويحملنا إلى فراشنا،أو نبقى نائمين في حضنها حتى الصباح،ومحظوظ من ينام في فراش جدته في تلك الأيام . ومن حكاياتها الشيّقة: (العنزة العنوزية،أمّ قرون الحديّة)و(ليلى والذئب)و(ابن آوى والدّجاجات)و(الرّاعي الكذاب) ( ماما غولا .. جحا ) و غيرها من الحكايات الشيقة التي مازال الحنين إليها له جاذبية قوية في مشاعرنا. و لعل أهم دافع جعلني أتناول هذه الذاكرة الشعبية في شقها الأول أو في جزئها الأول هو ربط ماضي واد نون بحاضره من خلال هذه الشخصيات التي كما قلت كان لها وقع قوي على أحاسيس كل واحد منا ، فهي كانت تلازمنا ننهل منها أحيانا بعض الحكم و الدروس الحياتية و الموعظة على اعتبار أنها جزء من هويتنا و ثقافتنا .. فالأمم التي لا تهتم بتراثها وثقافتها تنقيبا ودراسة وتحليلا، وكذا جمعا وتصنيفا وتبويبا ومحافظة، لا يمكن أن تحقق ذاتها ووجودها، ولا يتأتى لها أن تحافظ على هويتها واستمرارها في التاريخ، كما لا يمكن لها أن تساهم في بناء الحضارة الإنسانية. فتبقى محكوم عليها بالتخلف والتهميش، مهددة دائما بالانقراض والفناء. فتراث الأمم وثقافتها هي اللحمة التي تربط بين أجيالها المتعاقبة، والتي تحقق لها مكانتها بين الأمم. فكم من تراث وكم من ثقافة ضاعت واندثرت مع الزمن، لكون القائمين عليها لم يعيروا لها أي اهتمام يذكر، همهم الوحيد المصلحة الأنانية الخاصة الآنية. هكذا نجد جل تراثنا الثقافي والفني المادي منه والمعنوي، المكتوب منه والشفهي، تعرض ويتعرض كل يوم للتلف والاندثار بشكل منهجي مقصود وغير منهجي، متروك للتسيب والإهمال. وحتى إذا ما تم جمعه أو الاعتناء به، فذلك بعد تفريغه من محتواه الحقيقي، من أجل استعماله كفولكلور للاستهلاك السياحي لا غير. اكويدير و القصبة و ساحة الملعب و التواغيل و بوجريف و نول لمطة و تكوست و غيرها من المواقع الأثرية الهامة مثال حي على ما نقول ، ناهيك عن المخطوطات القيمة التي تؤرخ للمنطقة .. طبعا كان هذا أيام زمان أيام انعدام الوسائل السمعية البصرية التي غزت كل البيوت و سلبت العقول و جعلت الانزواء و الانطوائية و عشق العالم الافتراضي هو شعار هذا الجيل الذي لم يتذوق طعم و نكهة الحكاية على شفاه الجد أو الجدة أو الراوي من الحلقة . لقد كانت هذه الأخيرة أي " الحلقة " في القرن التاسع عشر وسيلة لشحذ الهمم والتصدي لكل أشكال الاستعمار، كما كانت أسلوبا خاصا لتمرير خطاب معين. فهي تعتبر تراثا مشتركا بين مختلف الشعوب ، ومن أكثر وسائل التعبير تأثيرا في المتلقين الذين يجدون في هذا النوع من الفنون الشعبية متنفسا لمشاعرهم ولمشاكلهم اليومية وترجمة لطموحاتهم وآمالهم الكبيرة، وإن اختلفت تسمية من يؤديها، ففي المغرب وشمال إفريقيا، يطلق عليه "لحلايقي ". هذا الفن الجميل الرائع، ساهم في تأطير الناس، وتوعيتهم وتقديم فرجة غنية بالترفيه، الجامع بين الهزل والجد والفائدة، وجعلهم ينفتحون على العالم ويتعرفون على خباياه قديما وحديثا. كانت '' رحبة الزرع '' و ساحة الشهداء بكليميم مسرحا للعديد من رواد الحلقة الذين كان لهم جمهور عريض من كل الأعمار صغار يافعين شبان و مسنين و أحيانا من النساء رغم كون المدينة أنداك مدينة محافظة . فكان كل يوم نغادر فيه الفصل الدراسي بكل من مدرسة عبد الله بن ياسين و مدرسة لمثونة , و بعد تناول كاس من الشاي و كسرة خبز مبلل بزيت الزيتون إن وجد و إلا فخبز حافي ، كنا نتوجه على وجه السرعة لمتابعة الأزلية , و منا من كانت تستهويه الفكاهة مع '' بقشيش '' أو مع '' الصاروخ '' أو '' كريكر '' أو '' راديو جالوق '' و القائمة طويلة .. و منا من كان يهوى حضور الملاكمة آو مرودي الأفاعي و الثعابين أو القردة أو أولاد سيدي حماد وموسى، كان هذا التنوع في الفرجة يمنحنا القوة على الخيال و الإبداع و الابتكار و لم نكن بهذا التنوع مستهلكين سلبيين بكل ما تحمله الكلمة من معنى , بل كنا نعمل على خلق فرجة لنا في اليوم الموالي من خلال صنع العاب من نسج خيالنا و من وحي ما تلقيناه من رواد الحلقة الذين كانون بحق و حقيقة فلاسفة ومنهم مثلا راديو جلوق المحبوب لدينا آنذاك و هو يتحدث عن بيضة الديك التي كانت تدغدغ عقولنا ذلك الزمام و نحن نتساءل هل فعلا الديك يبيض كالدجاجة ..؟ و يضيف '' كركر '' من زاوية أخرى أو حلقة أخرى بالقرب من مقهى '' ألاك '' لصاحبها المرحوم فيضل .. يقول ( يالاه يا سيادنا شكون ايكول ليا شكون سبق .. دجاجة و لا البيضة .. ) و هنا تنقلب الحلقة رأسا على عقب وتأتي الإجابات متضاربة و لكل إجابة تعليق طريف و خفيف من قبل راديو جلوق أو كريكر .. إنها مقالب رواد الحلقة بشغبهم الجميل .. و هكذا تستمر الحكاية و جمال و نكهة الحكاية و يستمر معها حنينا مفعما بشوق لأيام جميلة لن تنسى أبدا .. عمود الكاتب :