حين وصف الكاتب الساخر"مارك توين"الفساد شبهه بالطقس قائلا :" الجميع يتحدث عنه ولكن لا يوجد من يمكن أن يفعل به شيئا". وكما هو معلوم ،حظيت ظاهرة الفساد بشتى أنواعه وصوره باهتمام واسع من جميع دول العالم ، ومنذ زمن ليس بقريب بدأت الأصوات تتعالى أيضا ببلدنا بضرورة وضع حلول لهذه الآفة الخبيثة خاصة بعد أن أخذ "بازارها" في الاتساع سنة بعد أخرى.إن موضوع الفساد كما يعتقد البعض لا علاقة له بجينات الإنسان ولا بالحلويات، بل بالثقافة السائدة والظروف والحيثيات التي أفرزته.ولا يهمنا في هذا المقام البحث عن الجذور التاريخية والأبعاد الدينية والفلسفية للفساد لأن المقام في مثل هذه المقالة البسيطة لا يتسع لذلك.وإنما نود التطرق إلى بعض المسببات البسيطة التي نغفلها في حياتنا اليومية التي ساهمت بشكل أو بآخر في انتشار هذه الآفة...نعم الفساد ظاهرة عالمية لا يخلو منه أي مجتمع كيفما كانت درجة تقدمه، إلا أن المسلم به هو أن الفساد وأنواعه يختلف من بلد لآخر ، فالفساد الموجود في الولاياتالمتحدةالأمريكية مثلا يختلف عن الفساد الموجود في فرنسا أو في روسيا أو زيمبابوي أو تنزانيا ،ويختلف عنه في بلدنا مثلا..صحيح أن الفساد الذي عرفه بلدنا المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم له تفرده عن الفساد الذي عرفته كل شعوب الأرض ، إنه فساد يزكم الأنوف ولعل تقارير الشفافية والنزاهة الصادرة عن البلد والذي احتل مراكز متقدمة في الفساد وانعدام الشفافية لخير دليل على مدى تغلغل الفساد في كافة مفاصل القطاعات الاجتماعية والاقتصادية حتى صار مثل الطقس الذي تحدث عنه "مارك توين ". وفي إطار البحث عن أصل هذا الداء قصد استئصاله، يرى بعض الناس أن«الفساد يأتي دائما من فوق»، فيكفي مثلا،أن تكون ابن عم خال جدّة عمّة بنت خال هذا الوزير أو هذا المسؤول الكبير أو ذاك لتجد الطريق مفروشة بكل أسباب المكنة والسطوة ولو على حساب المصلحة العامة، مما يجعل الناس ينأون بأنفسهم عن محاربة الفساد من "تحت" وكأن لسان حالهم يقول: «لا فائدة من بدء التنظيف من "تحت" مادامت الأوساخ تنزل من "فوق"»كما يقو المثل التركي.وفي مقابل أصحاب هذا الرأي نجد رأيا آخر يرى أن الفساد يأتي من "التحت" وهنا،لا أخفي عليكم أنني أتفق مع أصحاب هذا القول، لأن الفساد يأتي من "تحت"، والإصلاح كذلك يأتي من "التحت".وإذا صلح "التحت" يضطر "الفوق" من إصلاح نفسه اضطراريا. المجتمعات تنهار بالفساد، والفساد يبدأ بالفرد نفسه قبل أن يصبح حالة عامة وسمة للمجتمع، والفساد الفردي يبدأ من الموظف ومن سائق التاكسي وبائع الخضار ونادل المطعم، ثم يكبر حتى يصبح على مستوى مجتمع بأكمله، وحينها يصعب أو يستحيل العلاج. وهنا أود طرح سؤال بسيط ومشروع يفرض علينا نفسه بقوة ،ما الذي يجعل من الناس ينأون بأنفسهم عن تنظيف "التحت" الوسخ والبدء من أنفسهم ،وبالمقابل تراهم يسعون كما رأينا مع ما يسمى بالربيع العربي إلى الثورة على بعض الرؤوس لإزاحتها من مراكز المسؤولية باعتبارها مصدر الفساد الذي يسقط من فوق كما يعتقدون؟، الجواب بسيط في نظرنا المتواضع، وهو أن الناس يستحون كثيرا في الحديث عن عيوب القريب لأنه قريبنا.الإنسان في بلدنا بطبيعته يستحي ممن يتعامل معه مباشرة ويراه كل يوم.رئيس جماعة، أو رئيس جمعية، أو رئيس بلدية أو نقابة هو قريب جدا منا،ونراه كل يوم ونعرف فساده ويعرف فسادنا، ولذلك تكون في عيوننا قشة تجعلنا لا نستطيع أن نرفع عيوننا فيه ومطالبته بالرحيل عن المسؤولية التي يفسد فيها.. والثورة على الفساد لن تحدث في بلد تسود فيه مثل هذه الخريطة من علاقات الخجل من الأقارب والأصدقاء، لأن الناس لم يدخلوا بعد عالم الحداثة حيث الفردانية، والمسؤولية الذاتية، والاستقلال في الرأي..الناس في أحياء مدن كثيرة وحتى في قرى مهمشة بعيدة يستطيعون المطالبة بإزاحة رئيس نقابة مركزية، أو وزير، ولكنهم لا يستطيعون أن يطالبوا بإزاحة رئيس جماعة أو مسؤول نقابي محلي أو حتى اتهام مقدم الحي أو شيخ قبيلتهم بالفساد لأن القريبين منا هم أقاربنا وأصدقاؤنا، وفسادهم من فسادنا، نتكلم عنه تلميحا ولا نستطيع أن نقول عنه كلمة واحدة تصريحا..أنا وأخي كما يقول المثل الأمريكي ضد ابن عمي ،لكن أنا وأخي وابن عمي ضد الآخر الغريب.فنحن نفضل دائما القريب ولو كان فاسدا، والمصيبة في محاربة الفساد تأتي من هذه النقطة بالذات.فالفساد هو فساد الآخر البعيد المجرد، أما فسادنا نحن فلا نسميه فسادا مهما تعددت أشكاله وألوانه، والجميع يريدون محاربة الفساد بعيدا عنهم..وحين نتحدث عن الأقارب فهم أيضا على درجات، تبتدئ بالأخ ، مرورا بابن العم ،والصديق وابن الحومة، أو القرية، أو القبيلة، أو الحزب، أو النقابة الذي هو أفضل بدوره من آخر لا نعرفه.وهذا ما يجعل من محاربة الفساد مصيبة لا يمكن مواجهتها بسبب عدم قدرتنا على مواجهة الأقارب والأصدقاء وسكوتنا عن فسادهم..وهذا هو التحدي الأكبر اليوم إذا أردنا فعلا الإصلاح الحقيقي الذي يبدأ فيه كل واحد بنفسه ومن أقاربه..ويوم ترى الناس لا يخجلون في الحديث عن فساد أقاربهم وأصدقائهم، وتراهم يتحدثون عن تغيير رئيس بلديتهم أو جماعتهم أو رئيس نقابتهم المحلية أو شيخ قبيلتهم الفاسد أنذاك يمكن أن نتحدث بجد عن التغيير،وهذا ما أشك أن تكون لديهم القدرة على ذلك بسبب الخجل من الأقارب.. لقد رأينا كيف أن الثورات العربية في دول الربيع العربي الثائرة استطاعت تغيير بعض الرؤوس وإزاحتهم عن الحكم ،ورغم ذلك بقي الفساد على ما هو عليه. والسبب الرئيسي في ذلك هو سهولة القيام بالثورة على البعيد المجرد وصعوبة القيام بها على الأقارب لأنهم أقارب نخجل منهم ، أقارب نعتبر فسادهم فسادنا، وهنا تكمن الطامة الكبرى..فالمثل يقول: «من يخجل من ابنة عمه لاينجب منها أولاد ».مشكلتنا نحن في بلدنا هي أننا لانخجل من ابنة العم ، لكننا نخجل من ابن العم أو القريب خاصة حين يكون في مركز المسؤولية ولو كان من أعتى الفاسدين والمجرمين. عجبا لمن يتحدث عن فساد البرلمان والحكومة وينسى فساد هذا الشعب، فما الحكومة والبرلمان سوى صور يفرزها واقع الشعب.ففيما نستغرب إذن إذا كنا نرى الفساد في البرلمان أو في حكومة من الحكومات؟.. الغريب في الأمر،أن هناك ثقافة عامة سلبية لدينا تقوم على تحميل المسؤولين الكبار في الدولة كل المسؤوليات وإعفاء أنفسنا منها. بينما المسؤوليات مشتركة، فاستمرار لمثل هذه الثقافة تعبير عن تخلي الشعب عن دوره ومسؤولياته..فلا يمكن للشعب أن يتقدم ويحقق مطامحه بدون أن يبادر ويأخذ دوره الأساس ويعترف بنصيب كبير من المسؤولية فيما يجري من فساد وتخلف وتردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والسياسية.. والعكس صحيح.