يبدو أن السنة التي قضاها السيد رشيد نيني وراء القضبان بسبب تعرضه للعفاريت والتماسيح بالحق وبالباطل قد جعلته يتراجع إلى الوراء ليأخذ مسافة من هذه الديناصورات، وبما أن عموده "شوف تشوف" قد اشتهر بنقد الأوضاع والمسؤولين الكبار، كان لابد من الانتقال إلى "حلبة ملاكمة" جديدة، الخصوم فيها أقل خطرا وأبعد عن التماس مع الخطوط الأمامية للمواجهة. وبالطبع لم يجد صاحبنا من يوجه إليه لكماته إلا حكومة السيد بنكيران،ظنا منه أنها ذلك "الحائط القصير" الذي تواطأ على القفز فوقه كل من هبّ ودبّ، وهي على كل حال ليست حكومة معصومة من الأخطاء، وليست حكومة فوق النقد،لكنها حكومة الشعب التي جاءت من صناديق الاقتراع، من أصوات "المغرب العميق". ليس مطلوبا من السيد "رشيد نيني" أن يطبّل لهذه الحكومة ويزمّر، بالرغم من أن رئيسها الذي كان يقطع طول البلاد وعرضها إبان الحراك السياسي المغربي الذي دشنته "حركة 20 فبراير"، ويجعل من إطلاق سراح رشيد نيني إحدى المطالب الرئيسية التي رفعها في تلك المهرجانات، باعتبار حرية الصحافة إحدى عناوين مرحلة ما بعد التحكم، بل لقد تقدم السيد مصطفى الرميد وزير العدل والحريات في هذه الحكومة، بمجرّد تحمّله لهذه المسؤولية، بلائحة من الأسماء، جعل على رأسها "رشيد نيني"، إلى عاهل البلاد يلتمس منه العفو عن أولئك. من حق السيد نيني، وقياما بواجبه الصحفي أن ينتقد الحكومة، خصوصا في ظل ضعف المعارضة الحالية وتشتتها وعدم تجانسها، لقد أضحى ضروريا وجود من يملأ هذا الفراغ من الصحافيين والنقابيين إلى حين تموقع حزب الاستقلال في المعارضة ل"يسخن أكتاف الاتحاديين"، لكن ليس من أخلاق المناضل أن يصطفّ مع أركان الدولة العميقة في مواجهة حكومة صوّت عليها الشعب، كما سنبينه، فالمغاربة ليسوا بحاجة إلى معارضة تلعب على الألفاظ، المغاربة بحاجة إلى معارضة بنّاءة، تبيّن الأخطاء وتقدم المقترحات. 1) لقد كشفت الأزمة المصرية عن الدور الخطير الذي لعبه "إعلام الفلول" في تقويض أركان حكم الرئيس المنتخب مرسي، الإعلام الذي نشأ وتربى في أحضان الحكم العسكري الذي حكم البلاد ما لا يقل عن نصف قرن، بتواطؤ مع رجال أعمال استفادوا من التهرب الضريبي ومن الصفقات المشبوهة وأنشؤوا قنوات ظلت على مدار سنة من حكم مرسي تضخم أخطاءه وتتستر عن خطايا النظام السابق، فجيّشت ضده ملايين المصريين، ولعبت أزمة البنزين والسولار المفتعلة والانقطاع الكهربائي دور المحرّك لغضب الجماهير، ثم انكشفت اللعبة بمجرّد عودة الحياة إلى طبيعتها مع عودة العسكر، فانتقلت الجماهير من ميدان التحرير إلى ميدان رابعة العدوية تطالب بعودة الشرعية وإسقاط "السيسي"، وسيأتي الدور على الإعلام المأجور ليؤدي ضريبة التواطؤ مع الدولة العميقة في وجه حركة التغيير، فخط التاريخ لا يعود إلى وراء. 2) السيد نيني يعلم أن حكومة السيد بنكيران جاءت من أجل الإصلاح ولم تأت من أجل المناصب، فلماذا يكرّر الاتهامات الشباطية المجانية بأن العدالة والتنمية يثبت مناضليه في المناصب العليا ضدا على قانون الترشيحات ؟ وهل هذه المناصب ستبقى خطا أحمر في وجه أعضاء الحزب القائد للحكومة كما كان الأمر في ظل الحكومات السابقة؟ ألم يصرّح بنكيران بأن 12 وزيرا من العدالة والتنمية في هذه الحكومة لم يعيّنوا بعد أكثر من ثلاثة من الحزب في دواوينهم؟ 3) السيد رشيد نيني يعلم أن مشروع الوثيقة الدستورية التي كان تقدم بها حزب العدالة والتنمية في خضم النقاش الدستوري الذي رافق الإصلاحات الدستورية قبل فاتح يوليوز 2011، تضمّن التنصيص على حفظ الحقل الديني لأمير المومنين دون منازعة، فلماذا يكرّر نيني اتهامات إلياس العماري السابقة لوزير الأوقاف بأنه منخرط في مشروع ظلامي من خلال التمكين لأعضاء الحزب في دواليب المجالس العلمية؟ وهي "الخطيئة السابعة" من الخطايا العشر التي عدّها صاحبنا لرئيس الحكومة، لماذا لم يتساءل نيني عن خلفيات إغلاق دور القرآن بمراكش ضدا على التوجه الحالي للحكومة القاضي بإفساح المجال لهذه الجمعيات حتى تنخرط في تأطير الشباب بعيدا عن التطرف الذي ينشأ في الأقبية السرية بعيدا عن متابعة العلماء ومراقبة أجهزة الدولة ؟. 4) السيد رشيد نيني يعلم أن مبادرة وزير العلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني السيد لحبيب الشوباني بفتح نقاش وحوار يشارك فيه الجميع دون إقصاء أي طرف، هي مبادرة نوعية لا علاقة لها بهيمنة حزب العدالة والتنمية على المجتمع المدني كما يزعم نيني في "خطيئته الثامنة"، ولو كان الأمر كذلك لما جعل على رأس المؤسسة التي تدير هذا الحوار، سياسيا مقتدرا يساريا تقلد مناصب في الدولة سابقا، هو السيد إسماعيل العلوي الأمين العام السابق لحزب التقدم والاشتراكية؛ فهل هذا الأخير من السذاجة بحيث يشتغل كما يزعم نيني لأجندة العدالة والتنمية ضد الجمعيات اليسارية التي تقاسمه نفس المرجعية ؟ 5) قل نفس الشيء بالنسبة ل"خطيئته الثانية" التي وجهها لرئيس الحكومة، والتي استقاها من القاموس الشباطي الخالي من أي معنى إلا السباب والقذف، إذ يزعم صاحبنا، كما قال شباط، أن حزب العدالة والتنمية يهيمن على أهم القرارات بالحكومة، وبالتالي وجدت الأحزاب السياسية المشاركة في الائتلاف الحكومي نفسها في وضعية "الأطرش في الزفّة" على حد تعبير نيني، وكأن هذه الأحزاب المشاركة في الحكومة في بداية مشوارها السياسي، لا علم لها بمنعرجاته وألاعيبه، ليأتي حزب حديث عهد بالتدبير الحكومي فيلعب عليها ويستأثر بالقرارات المهمّة ويهمّشها دون أن تقوم باحتجاج يذكر، حتى جاد عليها الزمان بالفاتح الملهم مولانا شباط، فثار على وضعية الخنوع والذل التي تعاني منها أحزاب الائتلاف الحكومي في ظل "الاستبداد الكيراني" وتغوّل الإسلام السياسي مع مجيء الربيع العربي. 6) ولأن السيد نيني يحسن تحريف الكلم عن مواضعة، ويقلب الحق باطلا والباطل حقا، فإنه اتهم وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة ب"محاولة السيطرة على الإعلام ومهاجمة الأحزاب وشيطنة السياسيين"، من خلال مشروع دفاتر التحمّلات الذي تقدم به في بداية مشوار هذه الحكومة، وهي التي عدها "الخطيئة العاشرة" لرئيس هذه الحكومة؛ فهل نسي نيني الانتقادات اللاذعة التي كان يوجهها للإعلام المغربي المتهالك المريض؟ هل سنة من السجن كافية لينقلب المرء عن مبادئه ب 180 درجة ؟ 7) إن السيد نيني يشبه حاطب ليل، لا يدري ما وضع في قفته حبلا أو عصا أو ثعبانا، وفي الأثر (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت آثامه)، ولا فرق اليوم بين اللسان والقلم، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟)، فإنني أستغرب كيف يزعم صاحبنا أن حزب العدالة والتنمية أسّس نقابة للتعليم العالي لفرض فكر الحزب على الواقع، فأنا مناضل قديم في صفوف النقابة الوطنية للتعليم العالي التي يهيمن عليها حزب واحد منذ 50 سنة، ولا علم لي بوجود نقابة موازية لها باسم العدالة والتنمية إلى حدود كتابة هذه السطور. 8) لكن "الخطيئة الأولى" لصاحبنا، والتي يزعم من خلالها أن رئيس الحكومة تخلى عن دوره في تنزيل الدستور الحالي وأفرغه من مضامينه، بحجّة أن تفعيل الدستور سيؤدي إلى الاصطدام بالملك، فيها اتهام مبطن للملك بأنه يعطل الدستور، أو أن مضامين الدستور لا تحدد مجال اشتغال الملك ومجال اشتغال رئيس الحكومة؛ والذي يعرفه المغاربة أن بنكيران صرّح في أكثر من مناسبة أن الملك يحثه باستمرار على تطبيق الدستور، وقد ظهر هذا جليا في الأزمة الحكومية الحالية، إذ سعى شباط لاستدراج المؤسسة الملكية إلى التحكيم في مجال بعيد عن السير الطبيعي للمؤسسات، بل هو صراع سياسي بين الأحزاب،لكن المؤسسة الملكية نأت بنفسها عن الصراعات الصغيرة التي يخلقها شباط مع خصومه، وتركت القضية تأخذ مجراها الدستوري الطبيعي؛ فعلى من تضحك يا نيني، وتزعم أن رئيس الحكومة اعتبر استقالة وزراء الاستقلال شأنا ملكيا لا دخل له هو فيه ؟ ألم يقل بمجرّد توصله بتلك الاستقالات أنه بموجب الدستور سيأخذ وقته لدراسة تلك الاستقالات قبل رفعها للملك؟ 9) هناك انسجام تامّ بين المؤسستين الملكية والحكومية في منطق الاشتغال، وهذا ما يجنب البلاد الهزّات السياسية التي تعرفها دول الجوار، ويعطي للمغرب صورة إيجابية عن النموذج الاستثنائي الذي يقدمه، بالرغم من وجود تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة، وبالرغم من وجود جيوب مقاومة قوية تنبعث من عمق بناء الدولة التي تشكلت شخصيتها منذ قرون، ولم تزدها البيروقراطية الحديثة إلا تصلبا، ومن غالب هذه الشخصية غلبته وأسقطته، والمطلوب اليوم هو أنسنتها وترويضها في الاتجاه الديمقراطي وفق سنن التدرج، لا مجابهتها ومحاولة كسرها بالوقوف في وجهها، فحزب العدالة والتنمية غير مستعد ليمثل كاسحة ألغام، بل هو منخرط في معادلة "الاصلاح في ظل الاستقرار". د. أحمد الشقيري الديني