انهيت فترة اعتقالي عفوا فترة عملي ثم استقليت أقرب طاكسي وجدته أمامي وذهبت لمقهاي المفضل " حانفطا " .وجدت كالعادة " البا العربي " يعد كؤوس الشاي المنعنعة .ألقيت عليه التحية مبتسما فردها هو الأخر وثم قال " دقائق وسيكون مشروبك المفضل على الطاولة " . إلتفت أبحث عن صديقي " م" كان منزويا إلى حيث مكان ألفته وألفت الجلوس فيه وهو مكان يحاذي شجرة كبيرة وقبالتنا كانت تقع منصة العازفين أو الجوق الذي يعزف ألحانا موسيقية بديعة ،لكن موعد العزف لم يحن بعد .كان صديقي يضحك مداعبا سيجارته الشقراء وقد بدت لي حركاته مصطنعة وغير مألوفة فتساءلت في نفسي عن السبب لكني استغربت أكثر حين وجدته برفقة فتاتين كانت إحدهن تتحدث ضاحكة والأخرى وقد بدت متضايقة فقلت مرة أخرى " هكذا إذن ...جلسة بطعم نسوي!!! " . قابلني صديقي معاتبا وهو يلوح لي بيده وقال " صديقي عبدو تتأخر عن المواعيد الهامة دائما " وأكمل بقوله وقد أشار للفتاتين " أه ...هذا صديقي عبدو أعرفكما به ..." وأضاف " إجلس " . وكان صديقي "م" يحاول ما أمكن أن يقربني إلى الفتاة الثانية التي ابتسمت في وجهي وهو يقول لها " صدقيني إن عبدو إنسان رائع ولكنه مشاكس بعض الشيء " وردت علبه الفتاة فعلا صديقك يبدوا إنسانا رائعا لكنه يبدو لي عكس ما تقول .إنه خجول بعض الشيء " ثم اضافت " انقلبت الأية .رجال اليوم خجلون جدا " وكنت أستمع للحوار مبتسما فقلت للفتاة " أشكرك على هذا الإطراء الجميل ". وكان صديقي يتكلم عن مشروعاته ونجاحاته وانطباعاته قبل أن ينهض متعللا بأنه يريد المشي قليلا ثم دعا الفتاة الأولى لرفقته فأبدت موافقتها على الفور . وكنت قد ناديت " البا العربي " لطلب مشروب إضافي بعد أن سألت الفتاة عن رغبتها فقالت " سأشرب ما تشرب أنت " . وكانت الفتاة جميلة فعلا .أنيقة في لباسها وهي خريجت كلية الإقتصاد وكنت تارة اسألها عن حياتها ؟ويومياتها ؟ وكانت هي تسألني عن الحب والسعادة ؟ وما إذا كنت أحب امراة ما ؟ فكنت تارة أبتسم وتارة أجبيها باقتضاب أو أنشد لها شعرا مما حفظته أيام الثانوية مصحوبا بغزل خفيف كان يجعلها تضحك .ولا أدري كيف أحسست بالسعادة حقا وقد نسيت ألمي لبرهة ويأسي من الحياة ، وكان موعد عزف الفرقة قد حان .لكنها أشارت إلي بعدم رغبتها في الإستماع وعللت ذلك بأن العزف تقليدي جدا وأنه نغمة الشباب هي التي يجب أن تسود بدل هذا العزف البلدي الذي يسقم الروح ويكبح النشاط وتساءلت أن كان بوسعي مرافقتها إلى البار حيث الرقص والموسيقى التي تبعث الروح من خمولها وتنعش الجسد من سكونه . وكانت حانة " أوبا ...أوبا " على كورنيش طنجة في تلك الساعة قد زدانت بالأضواء الكاشفة وقد توافد إليها عدد من الشباب والمراهقين يبحثون في مباهج الحياة الليلية بينما وقف " الفيدور " قبالة الباب يقطع التذكرة التي بلغت 200 درهم للفرد الواحد وكنت في نفسي أشعر بتردد كبير وصراع داخلي لأني لطالما حرمت هذه الأماكن على نفسي واعتبرت كل من يلج إليها فاسق أو عاهرة يستحق الإزدراء وكنت في غمرة هذا الصراع اشعر بيد رفيقتي الجديدة تلامس يدي بحنان وقد شعرت بنوع من الرجولة التي افتقدتها طيلة سنوات من القيود الصارمة والأوامر المقيدة والنواهي والمحرمات التي لا حصر لها وكان الفيدور قد أوقفني فناولته 500 درهم في يده بعدما شكرني وحياني قائلا " إنه يتمنى أن نقضي أوقاتا سعيدة " ثم انصرفت وكانت رفيقتي قد اعجبت بما ادعيت به من جود وسخاء مزيف وفي قرارة نفسي كنت أقول " أن السعادة يلزمها مقابل وأن السعادة في زمننا تشترى دائما من الفجور " . وأحسست في الداخل أني حقير فعلا لأني استبدلت براءتي وعالمي الطفولي بعالم الليل بمجونه وقبحه بينما كانت رفيقتي تسألني " عن رغبتها الشديدة والملحة في الرقص تحت أنغام الشعبي الذي كنت أمقته من كل قلبي .وقد وقفت تمسكني من يدي طالبة مني الرقص معها قبالة جوقة الناس الذين كانوا يرقصون وكأن مسا من الجن قد اصابهم فرحت أراقصها بعد أن امتدت يدي لخصرها المكتنز وقد احسست بالنشوة تسري في جسدي سريان النار في الهشيم . وكنت قد تعبت من رقصي المجنون الذي رحت أقلد فيه كل ما كنت قد شاهدته في حفلات الرقص قبل أن تطلب مني رفيقتي زيادة الإثارة بالمشروب الذي لم يكن سوى قنينة " الويسكي " وتذكرت أني لم أشرب في حياتي ولكني عزمت الشرب على سبيل التجربة وقد أقسمت في نفسي ألا أكررها ثانية وامتدت يدي للقدح غير أن نفسي لم تطاوعني فقلت كيف أدنس نفسي بالخمرة ؟ و في داخلي كنت أحاول ما أمكن ألا أنحاز لجانبي المظلم على حساب جانبي المضيء وقد غلبني الشك والتردد فيما إذا كنت مقتنعا بما أفعل وما إذا كان الأمر لا يعدو كونه رغبة شيطانية وصرعا بين الخير والشر وكنت في غمرة صراعي الداخلي اسمع صوتا جهوريا نافذا للقلب مخترقا ظلام النفس وانحرافها المهلك " الله أكبر ...الله أكير ..." فخرجت مسرعا هاربا وأنا أقول " غفراتك يا الله ...غفرانك يا الله ". حانفطا : مقهى معروفة في طنجة . [email protected] http://9isa.maktoobblog.com