لم أكن أعرف شخص ملاك، إلا من خلال ما قرأته عنها في صحيفة " أرهوس ستيفت تيدند الدانماركية " التي نشرت قصة حياتها الحزينة ومعاناتها الطويلة مع المشعوذين من دجاجلة الجن، حيث كتبت تقول " لم يكن في الدارالبيضاء ساحر أو مشعوذ أو دجال إلا وأخذتني أمي إليه، بدعوى أن الجن يسكنني، تعرضتُ لجميع أنواع التعذيب الجسدي، من ضرب وصفع وركل وحرق وجلد وشتم وقرص الأظافر، عشتُ أبشع الرهاب النفسي على يد هؤلاء الدجالين وما أكثرهم وبمباركة أمي التي كانت تصدق كل ما يقال لها، فترغمني على شرب بول الجدي والإبل، وتناولني تركيبات سحرية كثيرة لا تطاق، وقد اقتنعتْ أمي في يوم من الأيام، إقتنعتْ ويا عجبا أن تلقي بي في قدْرٍ من الماء المغلي، عسى غليان الماء يطرد الجن مني، ولولا لطف الله أن دخل علينا أخي الأكبر في تلك اللحظة الرهيبة وانتشلني من بين مخالب الموت، لكنت في عداد الأموات، نجوت من الموت المحقق بأعجوبة، بعد أن أذابت حرارة الماء المغلي جزءاً من مؤخرتي مخلفة بها عاهة مستدامة " عادة ما يتناول الانسان مواضيع الجرائد والصحف اليومية كما يتناول قهوته الصباحية، ثقافة استهلاك وتذهب طي النسيان، إنما قصة ملاك المغربية تركت بصمتها وصداها في نفسي، ربما لما لها من علاقة بمجتمعي وبني جلدتي، دخلت أرشيف ذاكرتي واستقرت، وشاءت الأقدار أن التقي ملاك، صدفة، في أحد الفنادق السياحية بتونس، تعارفنا على البعض، وتبادلنا الزيارات في ديار المهجر،حيث نتقاسم هموم الغربتين وشمة الهواء الذي ندفع ضريبة تصفيته ملاك من أطيب خلق الله، إسم على مسمى، سوية في سلوكها، عظيمة بصدقها، روح بريئة في جسم مشلول، لا يجرؤ أي مخلوق من سكان العالمين، مهما بلغت جرأته، أن يؤذيها، أويمسها، أو يصرعها، أو يسكنها حتى وإن كان جنا، وأقسم لو أنني كنته، وكان لا بد من صرع الناس والسكن فيهم، لصرعتُ كونداليزا رايس وسكنت فيروز عاشت ملاك المسكينة حياة " ننتالوس " الإغريقي الذي حكمت عليه الآلهة بالعذاب الأبدي، فكبله أهله الى باب كهف حيث تهبط فوقه صخور رهيبة لتهشم رأسه، وهو يصرخ من شدة الخوف والرعب، فتتوقف الصخور على بعد مليمتر من رأسه، لتعود للأعلى وتنزل ثانية، ليعود هو للصراخ والعذاب، وهكذا للأبد تقول ملاك : عندما يئستْ أمي من علاجي عند دجاجلة الجن وخبراء الأشباح، أو ربما نفذت قواها المادية، جاء الدور لآخذ حقي من التسول فوق أرصفة شوارع الدارالبيضاء، كنتُ أعتقد أن التسول والعيش عالة على شفقة المحسنين، حق من حقوق المعاقين أمثالي، أخذتُ منه نصيبي ، الى أن رآني السائحان السويديان مرمية فوق الرصيف أستجدي عطف الناس، لم يتصدقا علي بمليم واحد، ولم يكونا أقل شفقة علي من إخواني المحسنين المغاربة، إنما كان للزوجين رأي آخر، صدقتهما شكلت نقطة تحول وتغيير في حياتي، كانا على يقين أن مساعدة الانسان لا تكمن في إعطائه سمكة يأكلها، بل في تعليمه كيفية اصطيادها، لذلك دخلا في معركة ماراطونية مع الادارة المغربية من أجل تسوية ملف هجرتي واحالتي على بلد يضع إنسانية الانسان فوق كل اعتبار، وكان لهما ما أرادا، سلماني لهيئة حقوق الانسان في سويسرا، والتي بدورها وفرت لي حضنا آمنا لدى حكومة كوبنهاغن تحت غطاء اللجوء الانساني، وهنا بدأت عجلات التطبيب بشقيه البدني والنفسي تدور وتدور، تفحص خبايا المجهول وترمم ما أمكن ترميمه، لتكتشف أنني أصبت بكسر في العمود الفقري منذ الطفولة، مما جعل جسمي يتقلص في بعضه ويتوقف عن النمو، حالة من الحالات العديدة التي تحدث في المجتمع المغربي، فما أن يتعرض الانسان لإنهيارات عصبية ونفسية تحت الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية وما أكثرها في مجتمعنا أو يصاب بجلطة دموية أو نزيف داخلي يشل جسمه، أو تحطيم جين يشوه خلقه، إلا وتدور رحى الغيب فوق شفاه الناس " ضَرْبُوهْ هَادُوكْ " عبارة تؤسس للسحرة والدجالين مرتعا خصبا يعرضون فيه بضاعتهم الرخيصة، ويتاجرون في هموم الناس، في غياب المنتوج العلمي والفكري، وفي ظل تفاقم عدو الانسان الثلاثي، الفقر والجهل والمرض، يستغلون ضعف العباد وفقرهم وجهلهم ومرضهم، وحتى زواجهم وطلاقهم وعنوستهم وعقمهم وسرقاتهم وكل مشاكل دنياهم التي لا تنتهي، مع العلم أننا من أكثر شعوب العالم تدينا وعبادة، ومن أكثر المجتمعات انفتاحا وتقدما وعلما وريادة في الطب، ولكننا للأسف الشديد ، من أكثر الناس ترددا على السحرة والدجالين، فنجد على رأس كل مائتين وخمسون مواطنا دجال، بدل الطبيب، وكلنا نعلم أن السرطان يستأصله الطبيب وليس الدجال، لغز غامض ومحير يعيشه مجتمعنا المغربي أنا لم أبصر ولم أر ولم أعرف أي جن في حياتي، لم أسكنه ولم يسكنني، كل ما في الأمر أنه يسكن أدمغة هؤلاء الدجالين الذين عذبوني، وعبثوا بحياتي، ولم أستطع حينها أن أدافع عن نفسي، فمعرفتي بأسرار الكون والحياة كانت كمعرفة أمي " المسكينة " بعلوم الجن، لم أكن أفرق بين الواو والعكاز، لم آخذ حقي من التعليم بقدر ما أخذته من صنوف العذاب، برغم النصوص القانونية التي تضمن لي حقي في التعليم، لا بل وتهدد الأباء في بعض فقراتها بالعقوبة إن هم أخفقوا في تسجيل أطفالهم بالمؤسسات التعليمية، لكنها نصوص كانت وستظل حبرا على ورق، نصوص بحاجة لمن يقرأها ويخرج قروءها للوجود أنا لم يكن لي أي حلم في الذي عشته ... لكنني بعد سفاهة العيش ، أحلم تعلمتْ ملاك كيف تصطاد السمك، درست ، تخرجت، وتعمل مثل كل الناس، تتقن وظيفتها وتجيدها من فوق كرسيها المتحرك، تنفع نفسها والناس، تساعد ذوي الحاجة والمستضعفين من أهلها الذين لم يكن لها في قلوبهم مكانة، تساهم في تنمية المجتمع الذي تلفظها ولم يكن لها في صندوقه نصيب، تعيش ملاك في مأمنها بألف خير، ومن حقها أن تحلم، في هذا الجزء من العالم، الذي كان سكانه منذ عقود مضت، من أكثر سكان الأرض ظلاما وممارسة للسحر والدجل والشعوذة، عذبوا وذبحوا وشنقوا وأغرقوا وأحرقوا كل من اتهموه بمس من الجن والسحر والعين، هذا بشهادة التاريخ الذي ليس هو ملك أحد وباعترافهم بحرق ما يقارب مائة ألف امرأة بريئة، وقد أجرت نخبة من العلماء والأطباء النفسانيين ، بحوث دقيقة ودراسات معمقة في ملفات هؤلاء الضحايا، عمرها قرنين من الزمن، وأثبتت الدراسات أن كل هؤلاء الذين عُذّبوا وقُتلوا كانوا يعانون من أمراض نفسانية، وأنهم لو كتب لهم أن عاشوا في هذا العصر، لعولجوا كلهم دون استثناء فمن حق ملاك أن تحلم، وهي ترى شباب المغرب حول العالم ذكورا وإناثا يتسلقون مخابر البحوث العلمية، أرضا وبحرا وجوا، ويتألقون في كل العلوم التي أصبح لهم في كعكتها نصيب، فلن يكون المجتمع المغربي مستقبلا إلا بألف خير