تواصل شعبة اللغات في المدرسة العليا للأساتذة التابعة لجامعة عبد المالك السعدي في تطوانمرتيل، في إطار سلسلة «تجارب إبداعية 38» برنامجها الثقافي لهذا الموسم الجامعي، وذلك بإقامة لقاء مفتوح مع الشاعر والأكاديمي المغربي عز الدين الشنتوف بحضور نخبة من الكتاب والباحثين والنقاد والطلبة. وقد تميز هذا اللقاء بمداخلة علمية قدمها الأكاديمي عبد الرحيم الإدريسي متوقفا في البداية عند القيمة المعرفية للبحث في كتابة محمد بنيس في المقصِد العام الذي وضعه عز الدين الشنتوف لمشروع الكتاب وهو تشكل الذاتية والبناء في تلك الكتابة، واختيارُ موضوع الذاتية منطلقا لمقاربة الشعر المغربي المعاصر لا يبدو اختيارا مأمون العواقب. لذلك اقتضى هذا المشكل من الباحث تحصين عمله من الاستسهال الذي يُرسيه التعميم ويحميه التداول الحدسي والبدهي، وهو ما تحقق باستشكال بناء موضوع العمل. بهذا البناء تنكشف المداخل القرائية وحدودها. وهو إشكال نظري وإجرائي حرك لدى الباحث المغربي عز الدين الشنتوف مجموعة من الأسئلة عن وضع الشعر المغربي المعاصر، لا تتعإلى عنه بتشخيص معمم وبسيط، ولا تجعله مفارقا لها عبر تسميتها بشروط غير شروطها، بل تنطلق من أن تسمية هذا الشعر يطبعها اشتغال النصوص بمختلف صور ممارساتها في مراحل متباينة انطلاقا من التسليم بأن الممارسات الشعرية في المغرب هي»حركة أفراد وليست حركة جماعية». الأمر الذي دفع الباحث إلى افتراض الذاتية مفهوما يتقاطع مع التاريخ واللغة والتصور الشعري. وبذلك يبدأ انتقال سؤاله من وضعية الإشكال إلى بناء فرضية مركبة تتحدد بها معالم العلاقة بين الذاتية والبناء، نظريا وإجرائيا، من جهة ويتحقق، من جهة ثانية، الحدُ الأدنى في الانسجام المعرفي وفي الإمكانية الداخلية للتساند النسقي. وهي علاقة ترتسم عبر مستويين بحسب د.عبد الرحيم الإدريسي: أولهما، الذاتية تأسيس معرفي. أما الثاني، فيتحدد في التشكل البنائي للذاتية. 1 الذاتية تأسيس معرفي: يسعى الكتاب إلى تأمل الكتابة انطلاقا من الذاتية من حيث هي تأسيس معرفي يتخذ أوضاعا مختلفة حسب النصوص، ومن حيث إن الشعر هو مجال المعرفة الحيوي، فيه تمارس الذاتية فعلَها المعرفي، انطلاقا من قدرتها على خلق رجة واضحة في تمثلنا للنصوص الشعرية ومعرفتنا بها. ولا شك أن تحريك مفهوم الذاتية لمقاربة الشعر لن يمتلك صلاحية قرائية وتأويلية إلا اعتمادا على مسوغات تَحقُق نصي من جهة، وعلى إمكان شعري تُضمره هذه المسوغات من جهة ثانية. ومن ثم يتعين الإنطلاق في تأمل قضايا هذا التحريك المعرفي للذاتية من التساؤل الآتي: هل تَحقق في الإنجاز الشعري المعاصر ما يرسي هذه الصلاحية؟ تساؤل كشف للباحث حدودَ ضيق الفرْضية في الخطاب النظري ونَقلَ اشتغاله إلى اختبار صلاحية الفرضية في مجال الممارسات النصية للكتابة، وهو اختبار جر العمل إلى إنتاج خطاب على خطاب يراقب صلاحية مزدوجة تمَسُ المتن المدروس والفرضيةَ معا. وإذا كان التعدد هو السمةَ المميزة لوضعية الكتابة كممارسة وكحركة معرفية تتفاعل في الزمن والتاريخ، فإن مساءلة الشنتوف هذا التعددَ أضحت مضاعفةً مع نصوص محمد بنيس الذي تميز في المشهد الشعري بربطه بين التنظير والممارسة كفعلين لهما استراتيجيتُهما المعرفية المتواشجة مع الاختيارات الشعرية في العالم. 2 التشكل البنائي للذاتية: إن الاقتراب من التأسيس المعرفي للمفهوم الذاتية يقوم في الكتاب على النظر إلى طرائق البناء عند بنيس وتغيراته من نص إلى آخر حسب اشتغال الدوال، فتتغير أماكن الذاتية مع هذا التغير وتتشكل أثناء البناء. وقد تنبه الباحث في سياق صوغه النظري لهذا الافتراض إلى بعض العوائق المعرفية والنظرية التي تقف أمام التقاطعات التي تنفتح عليها علاقة الذاتية بالبناء. يضيف الإدريسي: إن الاشتغال بالمفاهيم النظرية والمرجعيات المعرفية في ضوء السؤال الشعري المقيم لتصور الشنتوف سَوَغ لأن تظل صيرورة تفكير عمله متأهبةً لتخصيص دائرة الإشكال حينا وتشعيبه حينا آخر من خلال تدبير حدود معرفية لمساءلة تشكل الذاتية بالبناء، تقاطعا أو انقطاعا، قربا أو بعدا عن فرْضية الكتاب. وهي حدود معرفية وُجهت كآلية ضبطٍ لترابط عناصر تكوين هذه الفرضية وكفاية محتواها المعرفي في إطار «المراقبة الإبستمولوجية» لذلك كان من مُهمات الكتاب المعرفية والنقدية، النظرُ في وضع المفاهيم، والتحولُ من ممارسة المفهوم النقدي، فحسب، إلى النظر المعرفي والنقدي في تلك الممارسة. غير أن ما يميز جهد عز الدين الشنتوف هو أنه لم ينفك في هذا النظر المفهومي عن المعالجة التأثيلية. إن النظر في مسألة الخطاب المعرفي والنقدي في الكتاب يستخلص انبناءه على مفهوم التأثيل بوصفه عملية بناء نسقية واستشكالية للمفاهيم البانية للتصور ويفترض تعبئة معرفية متشعبة للتلقي.. وهو تلقٍ نسقي يقوي دينامية التقابل بين إدراك البعد الإبستمولوجي والسياق المعرفي للمفاهيم والنظرية في أصولها من جهة، وغايةِ استنبات تلك المفاهيم والتصورات وتأصيلها في نسق استراتيجية الشعرية المفتوحة. التي لا تُضخم المفاهيم ولا تستسلم لسلطة بداهتها المكتسبة، ولا تمعن في وصفها كأنها غايةُ ومقصد حتى لا تتحول المفاهيم، خلافَ وظيفتها المعرفية والإجرائية، إلى حجب ترتفع عن كل تقويم. لذلك تقيم شعرية المفتوحة، كما يحددها الشنتوف، تصورَها على شرط تقويم أداء مكوناتها المفهومية حتى تستقيمَ مع الإشكال المعرفي القريب من جوهر فعل الكتابة في شعرية بنيس، المتمثل في ذاتية الكتابة ك «فعالية معرفة نوعية». و'الكتابةُ ليست معرفةَ نظرية أو مفاهيمية، بل هي ممارسة وتعرُّف وفعلٌ نوعيٌّ يَعبر العلاقة بين اللغة ونصِّها؛ فالتكوين المعرفي للشعرية المفتوحة في الكتاب يستشرف أفقَه المتوخى من القراءة وإنتاجِ سؤال المعرفة لربط نظرية المعرفة بنظرية اللغة بعيدا عن أي نزعة تجريبية مقننة «كما هو وضع اللسانيات، علم النفس، التحليل النفسي» حتى تُستوعبَ الكتابةُ كممارسة ذات طابعِ تساؤلي ينبع من داخلها، والكتابةُ كنسق مستمر ومتغير يبني فعله لأجل الممكن النصي بدل وقائع يشكلها النص وفق أبعاد تواصلية مسبقة. ويتواتر مدار هذه الكتابة في العمل من خلال انشغالين اثنين، إن تأملا أو تنويعا أو تحويلا أو اختبارا: 1 الانشغال الأول يتعلق بالمفهوم والمصطلح. المفهوم الذي يحمل الدلالة الإشارية والتصورية التي يسميها المصطلح ويمنحه إمكانية التداول الخطابي والمعرفي. وإن الجانب الإشاري للمفهوم النقدي( الذاتية والكتابة والبناء والإيقاع والبيت والجنس الشعري والكتابة المادية..) إنما هو جملة آثار تداولية ينقلها الناقد إلى المفهوم عن قصد، كأنما يضع بها علامتَه عليه اختصاصا به وكشفا لأصله وإعمالا لطاقته الإجرائية وهو يتقاطع مع بناء الفرضية. لذلك يقوم الجانب الإشاري من المفهوم النقدي بوصل جانبه الاصطلاحي بالميزات التداولية لمستعمله في النسق المعرفي للشعرية المفتوحة كاستراتيجية للقراءة في الكتاب، بحيث تزدوج فيه تداولية الإشارة وشمولية الاصطلاح. وإن هذا الازدواج دفع إلى إغناء المفهوم المعرفي النقدي وضعا وتحويلا واستثمارا. وهي بذلك شعرية تتجاذبها غايتان، بقدر ما هما متقابلتان هما متساندتان. ■ إحداهما: هي إزالة القيود التي تعوق فاعلية المفهوم المعرفية والبنائية. ■ والثانية: التقييد، وهو إجادة تخصيص إمكانات المفهوم في إطار تصوره لتشكل الذاتية والبناء، وهو يعيد التفكير في فعل الكتابة من حيث هي استراتيجيةُ دائمةُ التأمل في علاقتها بذاتها وبعناصرها البانية لدلاليتها كاللغة والإيقاع. فالذاتية هي دافعه نحو مُساءلة متن محمد بنيس المتجدد. 2- المنجز النظري والمنهجي: إن لهذا الازدواج في دلالة البناء المفهومي لذاتية الكتابة أهميةً خاصة في الكتاب. فهي حقيقة موطئة لعملية الإرساء النظري، تصبح معها المفاهيم والنظريات مدركات تُسوغها إبستمولوجيا الكتابة كنشاط معرفي متحول باستمرار. أي إن التوسل بالشعرية المفتوحة في دراسة المفاهيم نهج نافذ في اقتراب الكتاب من موضوعاته. وهذه تخاطبية نقدية رافقت إقامة الفرضية بين حدود المفاهيم والنظريات وقوت في العمل خاصيتين اثنتين: – الخاصية التأثيلية «حوارية تفاعلية»، من جهة، والتي تخص جانبَ وضعِ المفاهيم ونسقِ بنائها. – الخاصية الاستدلالية التي تجعل الفوارقَ في توظيف مفهومَيْ الكتابة والذاتية في المتن المدروس تضاهي الجوامع. إن عمل عز الدين الشنتوف – يخلص عبد الرحيم الإدريسي- يفتح، حقيقة، أفقا جديدا لمستقبل الشعرية في المغرب، ويقدم مثالا لاجتهاد أكاديمي يمتلك القدرة على قراءة مستويات متن الكتابة وبنائها وفق آلية مفهومية نسقية منحوتة بفكر تأثيلي قوي ونافذ في تفاصيل العمل. وهو إنجاز فريد يختلف عن وقائع الشعرية المدرسية المعطلة بالتكرار والبداهة. أما كلمة الأكاديمي والشاعر عز الدين الشنتوف فقد كانت حوارا مفتوحا مع المهتمين عن قضايا الشعر المغربي، وعن المفاهيم التي شغلها في كتابه كالذاتية، الكتابة، الشعرية، الإيقاع... وعن المراجعات المعرفية التي قدمتها بصدد الأنساق الفلسفية والنقدية التي اتسمت بالبداهة في تلقي الشعر.