بعد مرور عدة سنوات على حلم "فرنسيس فوكوياما" ب "نهاية التاريخ"، يخشى العديد من الإعلاميين والمراقبين في العالم من اقترابنا من مرحلة "نهاية الإعلام" أو الأخبار. فالمواطن اليوم يغرق في استهلاك مضامين متنوعة من وسائل إعلام متعددة الأهداف والأغراض، وأصبح عاجزا عن التمييز بين الخطأ والصواب، بين الخبر والإشاعة، لا بل محبطا في كثير من الأحيان بسبب عدم تركيز العديد من وسائل الإعلام على مواضيع المجتمع، وملاحقة بعض الأمور السطحية المرتكزة على عناصر الشهرة والفضائح، ويزداد القلق من تمركز وسائل الإعلام في التجمعات الإعلامية الكبرى. لذلك فإن أزمة المصداقية تفرض العمل على إقامة بناء قيمي أخلاقي لوسائل الإعلام، مع ضرورة وضع معايير مهنية للمواقع الإخبارية وللمدونات الإعلامية، والاتفاق على معايير مهنية وسياسات تحريرية لتحقيق المصداقية، ووضع آليات جديدة لمعالجة مسائل المصداقية والمعايير المهنية في الفضاء الإلكتروني، وأهمية نقل المعلومات بشكل متوازن ومهني بما يفيد الرأي العام، لأن المعلومات المغلوطة ستتعرض للتصويب يوما ما وسيخسر صاحبها مصداقيته التي تعد رأس مال أي إعلامي. إن الاكتفاء باستقاء المعلومات من الإنترنت قد يخلق مستهلكين خاضعين للتضليل، ولابد إذن من "فلترة" الأفكار والمعلومات التي يتيحها التفاعل على الإنترنت، إضافة إلى خلق قوانين صارمة لوسائل الإعلام. ودون شك أن المواقع الإخبارية والمدونات الإعلامية استطاعت تحقيق الشفافية، لكنها أيضا فقدت المصداقية التي رافقت العمل الإعلامي، وهذا يتطلب اعتماد معايير مهنية وليست رقابية للمدونات ولصحافة الإنترنت حتى تحقق الأهداف المنشودة، لأن معايير المصداقية وضوابطها وأسسها يضعها المهنيون أنفسهم. إن التيار الجارف الذي يتيحه الإنترنت والمدونات يجعل المدونين والمتفاعلين معه يبذلون مزيدا من الجهود للحصول على هذه المصداقية، في وقت يتجه فيه العالم إلى أن يفرض فيه الإنترنت نفسه كصحافة المستقبل. وفي السنوات الأخيرة تحولت مواقع الشبكات الاجتماعية إلى مصدر أساسي للمعلومات ولأشرطة الفيديو وشهادات الناس، فلجأ "المواطن الإعلامي" إلى تصوير الأحداث على هاتفه النقال أو آلته التصويرية، ومن ثم وضع أشرطة الفيديو على الشبكات الاجتماعية، حتى باتت مؤسسات إعلامية كبرى مثل ال "سي.إن.إن" وال "بي.بي.سي.نيوز" و"العربية" و"الجزيرة" تأخذ معلومات من "الفيسبوك" و"التويتر" وأشرطة من "اليوتيوب"، وهنا نذكر على سبيل المثال بطلب وسائل الإعلام من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أن يدلوا برأيهم في الأحداث العربية الأخيرة. إن اختلاق أخبار لا يجافي أحيانا الواقع، إلا أن طريقة تقديم وصياغة الأخبار تبرز الكثير من الانحياز، بسبب وجود التقنيات المنتهجة التي باتت تقارب تقنيات الحرب النفسية، مع الأخذ بالاعتبار أن هناك تفضيلا لنوعية من الأخبار التي تخدم هدفا معينا، في حين يتم التغاضي عن أخبار أخرى، أو إحالتها إلى آخر الترتيب من حيث الأولوية والأهمية. وبمعنى آخر تعميق أسلوب التعتيم والتهييج في الخطاب الإعلامي. إن المهنية تقتضي التعامل مع الخبر المستند إلى مصدر موثوق وله مصداقية عالية، ونقل رأي شخص له علاقة بالحدث، أكان مواليا أم معارضا، شرط الاستماع إلى رأي الطرف الآخر، وهذا الأمر يساعد أيضا على حماية المؤسسة الإعلامية والحفاظ على مصداقيتها وإبعاد تهمة التحيز عنها. إلا أن ما يضر بالتوازن هو ما تستخدمه بعض وسائل الإعلام والذي يعرف ب "مدافع الاحتجاج". هذه المدفعية تستخدم عادة في حالات الصراع حيث تندفع "الراميات الإعلامية" بشكل مكثف للرد على تصريح ما أو مقال ما أو برنامج ما، ولترجيح وجهة نظر أو إقناع الرأي العام بهذه الوجهة. هذا الأسلوب لا يعطي حق الرد، وهو بالتالي يخل بالتوازن ويقترب من مفهوم الدعاية السوداء. والمصداقية تقتضي التنبه إلى حالات التسرب، فالبيئة التنافسية القائمة بين وسائل الإعلام تساعد على تسريب بعض المعلومات التي تضر بالمفهوم المهني للإعلام الذي يوجب التقصي والتحقق، وعلى المتعاملين في الحقل الإعلامي التنبه.