بعث الملك محمد السادس برسالة تهنئة لرؤساء دول "المغرب العربي" الخمسة بمناسبة الذكرى 28 لتأسيس الاتحاد المغاربي في قمة مراكش التاريخية. الرسالة تؤكد أن المغرب إذ يأسف للوضع الذي يوجد عليه الاتحاد المغاربي وينتقده بما يلزم من الصراحة والوضوح، فإنه يفعل ذلك من باب الغيرة على مشروع يعتبره استراتيجيا ومحققا للمصلحة المشتركة للدول الخمس ولشعوبها التي تتعدد الروابط بينها وتجمعها الرغبة، رغم كل شيء، في تجاوز ما يعرقل وحدتها أو يشجع الشتات والنزاع والانغلاق وفي فتح الآفاق المشتركة وليس إغلاقها، حيث جاءت حمولة الرسالة مكثفة بتأكيدها على "تشبث المملكة المغربية الراسخ بالخيار المغاربي باعتباره رهانا استراتيجيا وإيمانها القوي بضرورة تجاوز الجمود السياسي الراهن، وتفعيل مؤسسات اتحادنا المغاربي وتدعيم هياكله بما ينسجم ومعاهدة مراكش حتى يكون مصدر قوة لبلدانه الخمس ويضطلع بدور فعال في مواجهة مختلف التحديات الجهوية والإقليمية والدولية ويسهم كمجموعة اقتصادية في تحقيق الأهداف النبيلة للاتحاد الإفريقي".
وتنطوي هذه الفقرة على رؤية كاملة لإعادة الحياة والحيوية لاتحاد جهوي كان تأسيسه منذ 28 سنة قد خلق أملا في تجاوز المنطقة المغاربية للعراقيل التي جعلتها تخطئ مع التاريخ وتنحرف عن المسار الذي تم رسمه خلال مرحلة النضال من أجل الاستقلال، التي كانت في نفس الوقت مرحلة للنضال الوحدوي والتضامن الأخوي والحلم بعمل مشترك وبمستقبل مشترك وبتحقيق إشعاع مغاربي مشترك في قارتنا الإفريقية التي كان تحريرها أيضا هدفا مشتركا.
ذلك أنها تؤكد بوضوح أن المغرب يظل متشبثا بالخيار المغاربي كرهان استراتيجي للمغرب غير قابل لأي تنازل، كيفما كانت الظروف والأحوال، لأن أسسه تقوم على الجغرافيا والتاريخ والثقافة والدين واللغة والوحدة البشرية غير القابلة للتجاوز حالا واستقبالا، وبالتالي فإن ما يجب تجاوزه فعليا بإرادة واضحة هو الجمود السياسي الراهن من أجل تفعيل مؤسسات الاتحاد المغاربي المعطلة منذ سنوات، والتي تفاقم أثر تعطيلها بتشبث الجزائر بإغلاق الحدود وحفر الخنادق وتعطيل مختلف أشكال التواصل والتبادل بين الجزائريين والمغاربة وإعمال منطق الانعزال والعداء والتمادي في معاكسة الوحدة الترابية للمغرب، ضدا على المنطق الوحدوي المغاربي الذي كان المغرب قد التزم به التزاما كاملا وصادقا عندما رفض عرض الفرنسيين رسم الحدود بين المغرب والجزائر الخاضعة للاستعمار، لأنه كان يرفض "الجزائر الفرنسية" ويدعم كفاح الشعب الجزائري وكان يراهن على حل كل المشاكل بمنطق الأخوة المغربية-الجزائرية والمغاربية بعد نيل الجزائر لاستقلالها، ولم يتصور قط أنه سيتم التنكر للالتزامات المتبادلة من طرف من استولوا على السلطة بعد ذلك وأدخلوا العلاقات المغاربية في متاهة ضيعت الوقت والفرص وحولوا التضامن إلى تنازع واستعاضوا عن الفكرة الوحدوية بميل هيمني لا يقوم على أي أساس.
تجاوز الجمود السياسي يعني ببساطة التخلي عن المواقف العدائية، التي لا يرجى منها خيرا للدول الخمس ولشعوبها التواقة إلى العيش الكريم، وإطلاق دينامية جديدة حقيقية شبيهة بتلك التي تم إطلاقها في قمة مراكش التاريخية، بعد مصالحة "زرالدا"، تقوم على الانفتاح على المستقبل بتفاؤل وتخرج من الوضع المزري الذي توجد عليه هذه الجهة من القارة ومن العالم التي تعتبر الأقل اندماجا قاريا وعالميا، كما جاء في خطاب الملك محمد السادس أمام قمة الاتحاد الإفريقي، والتي تعتبر أيضا المنطقة الوحيدة التي تعرف إغلاق الحدود وإقامة كل العراقيل أمام المبادلات التجارية وغيرها وانتقال البشر، مع العلم أن هذه الحدود كانت من قبل، وحتى في ظل الاستعمار والحماية، نقط تواصل وربط العلاقات وتجديدها عبر أجيال متعاقبة خلقت تواصلا وترابطا عائليا وقوت الميل الوحدوي، إذ بالقرب منها كانت تقيم فيالق جيش التحرير الوطني الجزائري وتتدرب، وكان يقيم ويتدرب أيضا عدد من قادة حركات التحرير الإفريقية، ومنهم نيلسون مانديلا وأوغستو نيتو وأملكار كابرال وغيرهم.
إطلاق تلك الديناميكية، كما تلح على ذلك الفقرة السابقة من الرسالة الملكية لقادة دول الاتحاد المغاربي الخمس، ليست اختيارا يمكن الأخذ به أو تركه، بل هي ضرورة من أجل تحقيق تكامل وتنسيق مغاربي تتطلبه مواجهة التحديات المتعددة التي تواجه المنطقة، ومن ضمنها الإرهاب الذي تزداد خطورة تهديده للجزائر على الخصوص والمنطقة المغاربية والساحل على العموم بعد انهيار فلوله بسوريا والعراق، لكن وأيضا تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلاقات مع مختلف جهات العالم، بما في ذلك جنوب القارة التي تكون الجزائر ساذجة لو لم تع أنها لا تسعى للاستفادة من نقط ضعف الشمال الإفريقي لجعل كفتها أثقل في الميزان القاري والدولي، وفي مواجهة هذه التحديات من المطلوب ليس التنسيق والتكامل جهويا وبالشكل الذي يسمح بقيام سوق مغاربية متوسطة تضم حوالي 100 مليون نسمة، بل وأيضا القيام بعمل مغاربي مشترك في إطار الاتحاد الإفريقي والقارة الإفريقية باستعمال الامتيازات المقارنة لمنطقتنا وبالشكل الذي يحدث آثارا إيجابية قاريا ويكون عامل توحيد وأمن واستقرار وتنمية مستدامة ويجنب بالتالي الاتحاد والقارة أي أثر سلبي للنزاع المفتعل الذي يثقل كاهل الجزائر ولا يخدم مصلحة الشعب الجزائري الشقيق، بل يستنزف إمكانياته ويحول دون التخصيص الأمثل لموارده التي تتقلص بفعل انخفاض سعر الغاز والبترول وأيضا بفعل تقلص الإنتاج وتزايد الحاجيات الداخلية من المنتجات الطاقية.
ولا شك أن الخروج من المأزق الذي وصلت إليه العلاقات المغربية-الجزائرية وإحياء التنسيق والتكامل بين البلدان المغاربية الخمس يبدأ بالضرورة بتوفر الإرادة السياسية، والرسالة الملكية تعبر عن توفرها لدى المغرب، بفتح الحوار بشكل جدي وبروح قمة مراكش. في تلك اللحظات لم تكن كل الخلافات قد حلت ولم تكن وجهات النظر متطابقة، لكن إرادة السير في السبيل السليم للتوافق والتراضي كانت متوفرة، وبشكل جعل التشنج وعدم التفاهم يتواريان، وكان المنطق قد ارتقى إلى المستوى المطلوب توفره في دول مسؤولة وعصرية تعي أن دوغول وأديناور فتحا الطريق أمام أوروبا موحدة، بعد كل العداوات والحروب التي قامت بين فرنسا وألمانيا، وأن التعاون اليوم صار متطورا بين الهند والصين اللتان كانت العداوة بينهما مستحكمة ومفتوحة على الحرب وليس السلم، وأن بالإمكان حدوث انعطاف سريع في العلاقات يقود إلى دينامية إيجابية تسحب أثناء تقدمها التراكمات السلبية.
وكما يسجل ذلك الجزائريون والمغاربيون عموما، فإن المغرب خطا خطوات كبيرة على طريق تسهيل الخروج من الحلقة المفرغة للنزاع المفتعل في المنطقة بطرحه مشروع الحكم الذاتي كحل يراعي كل الأطراف ويوفر مخرجا لها جميعا بإعمال الحوار، وهو المشروع الذي لقي قبولا ومساندة كبيرين دوليا وقاريا، وعمل على تحسين وتطوير علاقاته بمختلف الدول الإفريقية بروح إيجابية وسعي إلى تغليب منطق التنمية المشتركة حتى مع الدول التي كانت علاقاته متوترة أو سيئة معها إلى وقت قريب، والتحق بالاتحاد الإفريقي، وهو حريص على العمل بنفس الإيجابية مع جواره وإخوته في "المغرب العربي" وشمال إفريقيا بالأولى والأحرى متى حسنت النوايا وتحررت الإرادات من الضغوط السلبية، ومنها الضغط الذي بات الانفصاليون يمارسونه على الجزائر بشكل مباشر أو بتحريك بعض تحالفاتهم التي لا تريد ب"المغرب العربي" خيرا. فكل شيء يبين أن الضغط في تحول وهذا ما يشكل خطورة على المنطقة المغاربية وجوارها، إذ تشير التوقعات أن عوامل عدم الاستقرار وتهديد الأمن والسلم لن تقتصر على الجماعات الإسلامية المتطرفة في المستقبل، وإنما يمكن أن تشمل الجماعات الإجرامية والقبلية والإثتية...
إن المغرب يظل متشبثا بالخيار المغاربي كخيار استراتيجي ولن يحيد عنه وستظل يده ممدودة ولن يدخر أي جهد ممكن لجعله ينتقل من الإمكان إلى التحقق. تلك هي الرسالة الملكية لرؤساء الدول المغاربية الخمس التي تحمل دعوة إلى إحياء روح القمة المغاربية التي انعقدت بمراكش قبل 28 سنة وأشاعت وقتئذ جوا من التفاؤل الذي خبا بعد ذلك، وبالأخص منذ بداية الألفية الجديدة.