العابثون كُثُر ..وهذه المرة عبث جديد ينضاف إلى القائمة، العبث بلغة الضاد، وبالهوية،إذ أصبح التهريج هو السمة المائزة لبعض الأشخاص..كل من أراد أن يُذاع اسمه على القنوات وينشغل به الرأي العام يُثير بلبلة وعاصفة جديدة. إنه نقاش عقيم و مفترق الطرق بين المثقف وأشبه بالمثقف. عندما تتحول اللغة إلى مسرح للعبث. (( جميل أن نستحضر هاهنا المثل العربي القائل": جعجعة ولا أرى طحينا"، لأننا بتنا نعيش على وقع مستنقع لغوي.سوق للتخريف والهراء ..المناداة بالدارجة أو العامية درب من التطبيل ..ومن التزمير ..هو في الحقيقة لا يعدو أن يكون إشهارا وتسويقا غير مجد بالرغم من أنه يستند إلى إواليات إشهارية..إنه عين المهزلة أن نتريث عند اللهجة لنجعلها ترقى لمصاف لغتنا العربية التي هي مستمرة، راقية ، صعبة على الذين يلوكون ألسنتهم ببضع كلمات منها..فالإبداع لا يستقيم إلا والعربية ،- نعم - يمكن أن نبدع خطابات ضيقة في أوساط ضيقة، أما أن نُخاطب العالم والجمهور العريض من المثقفين في الغرب والعالم العربي ، فلن يتأتى ذلك إلا عبر جسر اللغة العربية الرشيقة . إن اللهجة ولا شك تصلح للتواصل وللحوار وللتعايش ، لكن في رقعة ضيقة ومحصورة كما ألمعت،أو بالأحرى في الجغرافية والتربة التي انبثقت فيها وترعرعت ..أما أن تُنافس العربية وترقى إلى مصافها فهذا مُحال ثم مُحال. إن المصوغات الضيقة والمحدودة التي ارتهن إليها بعض أنصار الدارجة أو العامية، رهانات واهية ..لا تقوم على أساس علمي وممنهج ،، فالطفل مثلا يبدع عندما يستطيع أن يعبر عن ما يكتشفه في محيطه بلغة راقية ..أما اللهجة أو الدارجة بغض النظر عن سمتها فلكل منا لهجته التي يجيدها والخاصة بالمنطقة التي ولد ونشأ فيها ، بيد أنها لا يمكن أن تخترق آفاق المحلية ،هي حبيسة الجغرافية المحدودة التي أنتجتها. إنني لا أتحدث من باب تحيزي للغة العربية ، فهي لغة قائمة الذات، لها قواعدها و ضوابطها وجماليتها، فالعربية لغة القرآن الكريم الذي تُرْجم لعدة لغات عالمية ..العربية تتواجد في العديد من المتاحف الأوروبية من خلال مخطوطات عربية ..هي في أروقة فن الخط العربي، في المساجد حيث تُطالعك بعبقريتها ، وتسحبك معها لتتأملها ،هي إذن في صدور أبنائها محفوظة مُصانة . أما اللهجة فهي تراث شفهي قلما يفرض نفسه في بعض الأهازيج الشعبية والمواويل والنكث وفنون الحلقة ،أو الحوارات المتبادلة بين الذين يتحدثون اللهجة ذاتها ،أو في الشارع ،أو عند البقال في حي شعبي ،أو في السوق الأسبوعي .. - سائل نفسك أيها العابث بالعربية هل قرأت يوما جريدة مشهورة عربيا بالدارجة ، وحتى لا تعتبرني منغلقة هل تطربك غير الكلمات المنمقة في الأغاني العربية الكلاسيكية ؟. - هل ستفيدني لهجتي المحلية في الحصول على تأشيرة سفر لحضور ندوة تتمحور حول آليات التسويق والإشهار عالميا؟. - هل..وهل..تكشف عن عجز وقصور اللهجة في تخطي المحلية ومواكبة الركب الحضاري العالمي. - هل نسمح بعودتنا سنوات وقرون للوراء من أجل التأصيل للهجات المحلية الكثيرة والمتباينة، والعالم يعيش في سباق محموم نحو العالمية .. إن الغربيون بدورهم يقبلون على تعلم اللغة العربية بنهم كبير.. وهل تعثرت يوما في قواميس لمصطلحات باللسان الدارج /الدارجة. الحديث يطول .. ها هنا تجدني مضطرة للتوقف هنيهة مع قصيدة حافظ إبراهيم : رجعتُ لنفسي فاتهمت حَصاتي...وناديت قومي فاحتسبت حياتي رمَوني بعقم في الشباب وليتني...عقِمت فلم أجزع لقول عُداتي ولدت ولما لم أجد لعرائسي...رجالاً وأكفاءً وأدتُ بناتي وسعت كتاب الله لفظاً وغاية...وما ضقت عن آيٍ به وعِظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة...وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ...فهل سألوا الغواص عن صدفاتي فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني...ومنكم وإن عز الدواء أساتي فلا تكلوني للزمان فإنني...أخاف عليكم أن تحين وفاتي أرى لرجال الغرب عزاً ومنعة...وكم عز أقوام بعز لغات أتوا أهلهم بالمعجزات تفنناً...فيا ليتكم تأتون بالكلمات أيطربكم من جانب الغرب ناعب...ينادي بوأدي في ربيكع حياتي سقى الله في بطن الجزيرة أعظما...يعز عليها أن ...الخ. تلين قَناتي إذن لا بد من التروي قبل أن نحكم على العربية بضَعْفها، سؤال فرض نفسه بقوة هاهنا..لماذا لم يتم استدعاء الائتلاف الوطني للدفاع عن اللغة العربية للحضور في برنامج " مباشرة معكم " على القناة الثانية ،إن اللقاء ولا ريب نم عن المأزق اللغوي الذي انتصر للمصالح على حساب الهوية..ولماذا اختزل الرأي الوطني في شخصية "عبد الله العروي" و" نور الدين عيوش".؟؟.مادام الموضوع أثار كل هذه الزوبعة.. إن اللغة هي الجذور والسلطة ، والضرب في اللغة العربية ضرب في الدستور المغربي الذي ينص على أن اللغة الرسمية للبلاد هي اللغة العربية إلى جانب الأمازيغية .
إنني أعزائي بكلماتي هاته لا أدعو إلى استبعاد اللهجة وإقصائها من الحقل التواصلي ،لأنني بدوري أتواصل أيضا بها في محيطي الصغير والكبير، والتي ألْحَظُ أنها بدورها لم تعد خالصة ، بل اعترتها شوائب عدة، إذ تجد الفرد يمزج بين كلمات مُمْتاحة من الفرنسية /الاسبانية ،الأمازيغية و..و..و..، بتنا بصدد سوق لغوية تعمها الفوضى ، فمن يُنْصِفُ العربية سوى أبنائها الشغوفين بمفرداتها ،المُبحرين في أروقتها..أن تقرأ بالعربية قمة الانتشاء والانطلاق . (( تخيل معي أن ابنك يقرأ أولى المفردات بلهجة انبثقت من الشارع متسمة بالعنف ،عندما يتلفظ يحس بالعنف، يمارس ضغطا على المفردات، يتقيأ عنفا))،أو استمع إلى نشرة أخبار بالدارجة، حتما سوف تضحك كثيرا ،أنا إذن أدعوك لخوض غمار التجربة ..)). هي الحقيقة المرة تُحاصرك ، فلو طلبت من متعلم في الإعدادي أن يركب الفعل "شوى"أو"كوى" في تركيب مفيد ،لاصطدمت بهول الواقع : - شوى الأب ابنه /كوت الأستاذة التلميذ، وهو بذلك يُضَمِّنُ التركيب كلمات مُترجمة عن الدارجة /العامية ودائما يحضر العنف اللغوي. - أيها المزمر للهجة /الدارجة ،إنها لن تصلح إلا للتسويق المحلي، ولن تصلح على الإطلاق للارتقاء بأبنائنا فكريا، تصلح لأن تكون في فن الحلقة ومسرح الشارع والبساط..وغيره، لكنها لن ترق إلى أن تُخاطب بها جل الناس، وتصلح أيضا لإغواء البسطاء الذين لا يدركون الوصلات الإشهارية التي تجدفهم بقوة، تصلح للذين ينغمسون في كلمات بذيئة لبعض الأغاني. - إنني وأنا أتجول في عالم الأرقام وعد النقود، وإن كنت لست من أصحاب الملايين، وبالضبط بين غرب المغرب وشرقه رصدت الاختلاف واللبس الذي يوقعك فيه التعامل بالنقود ، فتسأل أحدهم بكم هذا الشيء؟. - ((يجيب قائلا" عشْرَلاف" ،فتحسبها عشرة آلالاف، وما هذا إلا مثال بسيط استوقفني)). إذن مهما يقولون فاللغة العربية لا بد وأن تقول كلمتها. وأخيرا لا للتربص بلغة الضاد ، فبها أبدعت أولى كلماتي، وبها استطعت أن أقرأ القرآن، وأن أصلي صلاتي،إذن أيها المنادون باللهجة صلوا بلهجاتكم، وصموا آذانكم /ألسنتكم عن لغتي/لغاتنا. وعودا على بدء دعونا ننشغل بالدفاع عن هويتنا المغربية، التي يتربص بها المتربصون بدل خلق صراعات داخلية..فكلنا ننتمي إلى المغرب العميق ،المتعدد اللغات والثقافات والمتباين اللهجات ..وكلنا نتعايش على أرضه مهما اختلفت لهجاتنا ولغاتنا.. كن أمازيغيا ،عربيا،أو ما شئت ..فأنت على أرض المغرب تبقى مغربيا بغض النظر عن لغتك أو لهجتك، فكفانا عبثا .