وهل بقي شك أن حال الأمة الذي تختلف حوله الآراء وتتناطح حياله مدارك العقول يكشف بحق جهل الناس بواقع دينهم، وحقائق الشرع الذي كشف في أبواب متلاحقة وفصول متناسقة ما يُعنى بحال الأمة ومآلها كلما اختلفت الكلمة وانفصمت عرى الأخوة وصار حب المصالح مطمع الغالبية وكراهية الحق مطمح الأغلبية؟؟ وإن المتأمل بحق في واقع الأمة لينكشف له حال الفتنة التي يحياها العالم والعامل والعامي سواء، وهو ما تولد عنه مدى التهافت في الآراء والنظرات، لموجان الفتن التي صورها الحديث النبوي الشريف بكل ما هو صريح العبارة وصحيح الإشارة في الدلالة على معانيها، لأنه أصبح من الآكد التوسل بتلك المعاني لبيان الحقائق الكامنة وراء حال الواقع ومآل الأمة، ومنها: "فتنة يكون الحليم فيها حيران" "فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك" "زمان يخير فيه الرجل بين العجز والفجور فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور" "زمان يصدق الكاذب ويكذب الصادق ويخون الأمين ويؤتمن الخائن وتنطق فيه الرويبضة" وهو كلام التافه في أمر العامة. هذه جملة من نصوص أحاديث صريحة صحيحة في بيان ما يصل إليه حال الأمة من التفرقة والشتات، والشاهد الكاشف لتلك الحقائق هو شتات الرأي مع شتات الواقع، واضطراب الباطن باضطراب الظاهر، إذ لا تقوى عقول البلغاء على احتواء الفتنة والتبصر بالدين لتجاوز مراحل من الخطورة بمكان، وليس هنالك أخطر ولا أقبح ولا أفدح ضررا من قتل النفس المسلمة بغير حق؟؟ هنا يبِينُ بحق جهل الجميع بحقيقة الوجود ووظيفة الموجود، لما تنوسي جوهر الاستخلاف وغاية التسخير في الأرض، واستقرت معالم الجاهلية باتباع هوى العصبية والطائفية، غُفلا عن معاني السلم والأمان والوحدة والمحبة التي عدت من كليات الشرع لمن تبصر في جزئياته فضلا عن قواطعه. وهنا أكشف بحق سر مقولة اضطراب الباطن باضطراب الظاهر، من خلال ما وصل إليه حال القراءات العامة لأهل الفكر والعلم والتي لا يخرج مقتضاها إما عن: 1 الاندفاع العاطفي: في التعامل مع الأحداث والوقائع، دون الائتمام والاهتمام بواقع السُّنن، التي تثبت بحق ماهية الوجود، وخاصية التقدير والتسيير لمجريات الأمر فيه، والاستفادة منها أبلغ وأعم، لأن الوقائع متجددة والصلاح والفساد حاصل فيها إما بتغير أو تطور، لكن الدرس السنني ثابت على مدى الاستمداد من بواعث التغير والتطور الآيل إما إلى صلاح أو فساد، إذ وكلما استخلص المتدبر تلك المعاني إلا وكان في منأى عن إعادة الكرّة واستخلص ما لا يعذر فيه بالجهل كلما واجهته فتن أو ملمّات. أما والحالة هاته وقد استحكم فيها الفساد، وضل الخلق فيها عن الرشاد، ثم ينشغل الناس بالتوافه في تتبع الوقائع دون الإلمام بالقواطع السننية، فهو ضلال وبعد عن حقيقة ما يجري وما يدور. وسيظل الناس في وسائل متعدة وإن تجدد فيها الابتكار إما في بكاء على الأطلال، أو حشد لدعم إعجاب (الفايسبوك)، أو عرض لصور المهازل في الأمة بين الطائفتين من المسلمين، فليس هذا بذاك! وربما ما يزيد الطين بلة ما فشا في الأمة من وهَم اختلاق الأعداء، وتوسيع دائرة العدوان بدل سياسة احتواء المشكل ببذل اللين في الدعوة وتقريب الخلق من ربهم، وهو دور الأفراد والجماعات، ولعل اللبيب قد يستقي ذلك من واقع الدعوة والتدرج في التربية والبناء، بدل التصنيف والتقسيم الذي هز كيان الأمة وشتت وحدتها. إذ كل من أسهم في التوصل إلى هذا المآل فعليه وزره ووزر القيادة إليه، والعون على الفتنة فتنة. لم أعر سمعي إلى أحد يتحدث عن تدارس الحال من خلال القرآن الكريم، وتدبر معاني كلام الله، واجتماع الإخوة والعائلة وذوي الرحم للتفريج ولو بما اقتضاه الحال، بالنظر والفكر، والتقرب والإخبات، وذلك أضعف الإيمان. وإنما كل همّ الناس في الحديث عن المؤيد والمعارض، وحشد الدعم ولا دعم، وكلها وسائل إيغال في الفرقة والقتل الذي أخذ من الأمة كل مأخذ، وما هي إلا مصائب قوم عند العدو فوائد. أي دعم يقتضيه حال التنافر في كل مصر بين طائفتين أو ثلاثة من المسلمين، وكل يدعي الحق، وغيره ليس بأهل له، ثم يؤول الحال إلى تقرير المشروعية بالاقتتال والتناحر وشيوع الفتنة؟؟ 2 تجاوز المشكل وتجاهل الحق: إلى متى سنظل مكابرين متجاهلين الحقائق ومتجاوزين معاقد الإشكال؟ إن الانتساب الوصفي لفلان أو علان أو هيئة أو طائفة إلى دستور الخلق كافة وسراج الأمة واحدة انطلاقا من قوله تعالى: " وأن هذه أمتكم أمة واحدة" واعتقاد الصلاح وتوهم نشدان الحق ربما قد يكون وراء هذا المشكل الذي عمر في الأمة وما زال، بل لعله المشكل نفسه ولا ريب، إذ حجة المخالف في هذا الاستئثار بأمر جامع ورابط عام أجدر بالتنبيه، لمراجعة ما يقتضيه الحال من الرجوع إلى الوحدة، ونشدان الوسائل الكفيلة بتحقيق مقاصدها، وإن كان ذلك على حساب الانتساب الوصفي الظاهر، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، فهل من إدراك لذلك؟ إن مما أقره الفقه وأصوله استحباب الخروج من الخلاف ابتداء، ومراعاة الخلاف بل ضرورة اعتباره إن كان دليل الخصم قويا، وتغير الحال في مراعاته قبل وبعد الوقوع في المحذور... هذه قواعد وضوابط لن تفلح أمة تجاوزتها وقد أبلى ساداتها وأئمتها البلاء الحسن في الكشف عنها واستقراء كليات الشريعة للتوصل إليها. إن حركة الدين هي أبعد من هذا الصراع المحدود الأفق بكثير، إذ أراداها الشارع وهو العارف بمصالح ومفاسد الدارين أن تدبّ في نفوس الجميع سواء أتولد عنها الإقرار أو الإنكار، حتى ولو أفاده ظاهر الحال فيأبى الله إلا أن يحق الحق به: " أتقتل رجلا أن يقول ربي الله"، ومن ثم هي أحوج ما تكون في زماننا بالذات إلى كدح ومجاهدة ومكابدة في تقرير مباديه سلوكا وباطنا لا شكلا وظاهرا، وليدرك بعدها من له أدنى مسكة عقل أنه لن يجد تمنعا أو تعنتا، كيف وقد فاض نوره على قلوب الجاحدين المعاندين في كل مكان، وكثير منهم الآن يدخلون في دين الله أفواجا؟ أفلا يكون الخلل في منظومة قد رسمنا معالمها دون تعقل، وقد نادى بعض العارفين من أهل المغرب بالأمس القريب بضرورة العمل على أن تدب حركة الإسلام، سلوكا ومدارسة وممارسة فأين نحن من ذلك؟؟ إذا كانت الوراثة الشرعية ونصاب الحق المعرفي قد ورّثه الشرع العلماء العارفين بمقتضاه فلم إذن الإشكال ما دامت قواعد الفقه تقتضي إدراك حقيقة الأمر بناء على النظر في نصوص الشرع وفقه الواقع والواجب فيه؟ ربما قد تكون هذي إشارات خفية إلى واقع الأمة، وما لا يعذر فيه بالجهل، دون الإفصاح عن واقع أو حدث معين لأنه سوف يتكرر إن لم نفي بتلك المتطلبات وندرك حقائق الأمور، أما عن واقع العلماء وتباين أقوالهم واختلاف فتاويهم فسأعرض له لاحقا بحول الله. يتبع..