إن المخزن يحتل مرتبة أولى في نظام السلطة بالمغرب، وإذا ما اعتبرنا المخزن نظاما أو جهازا فإنه يتكون أساسا من ثلاث أنظمة أو بنيات متداخلة، هي السلطة المخزنية أو سلطة السلطة وهي المتحكمة في عملية اتخاذ القرار داخل ما سماه ديفيد إيستون بالعلبة السوداء، والجزء الأكبر من هذه السلطة غير معلن ولا ظاهر، ويشتغل خارج مجال الدستور والقانون تكريسا لنظرية حكومة الظل، الإدارة أو الحكومة وتتوفر على حد أدنى من الشفافية، ويعتبر البرلمان بغرفتيه أحد توابعها حتى في ظل الدستور الجديد، الذي وإن كان وسع من قاعدة صلاحياتها نسبيا فهاجس حكومة الظل والقرارات الفوقية ومنطق التعليمات والتوجيهات السامية لا زال حاضرا بقوة، السلطة الاقتصادية وقد تصاعدت أهميتها في السنوات الأخيرة خصوصا مع صعود نجم رجال الأعمال والرأسماليين التيكنوقراط الذين أصبحوا ينافسون أغنياء العالم حسب تقرير مجلة فوبْريسْ الأخير، وقد ارتبطت هاته السلطة أساسا بالاحتكار والامتيازات والرخص والسوق السوداء والرشوة والمخدرات... وتنشط في كثير من الأحيان تحت حماية السلطة . فسلطة المخزن إذن تظل فوق كل السلط الأخرى نظريا وعمليا، فهي في إطار التمثلات الاجتماعية مالكة للقوة والتوجيه من الناحية النظرية، كما أنها تصر على اختراق كل البنيات والتدخل فيها عمليا (الأحزاب الإدارية والجمعيات الجهوية مثلا) عبر مشاريع مَخْزَنة المجتمع وفرْمَلتِهِ عند حدود مخزنية واضحة ومعلومة، كما هو الحال مع أحزاب المعارضة سابقا. إن علاقات المد والجزر التي تربط الخزن بمختلف مكونات المجتمع المغربي كالقبائل والزوايا قديما والأحزاب ومكونات أخرى الآن، تُعَد مسؤولة إلى حَدٍّ ما عن بروز كثير من الظواهر والحالات المجتمعية، ففي ظل هذه الظواهر والعلاقات تنبثق تضامنات مصلحية تختلف أشكالها وألوانها من تحالفات سياسية قائمة على المصاهرات والزيجات وعامل القرابة... إلى غير ذلك من الروابط التي يعتمدها المخزن مع المحيطين به والمقربين منه، وبذلك تظهرتحالفات جديدة تتأسس علاقات جديدة أيضا. وبما أن النظام المخزني يتأسس على زعامة أو رئاسة مُتجدرة، فقد عمل المخزن قديما في المناطق التي كان فيها اتصال مع القبائل شبه المستقلة، على تعميم ظاهرة تقوية الرئاسة على شكل قايْدِية، فالنظام القايْدِي لا يمكن أن يوجد إلا في حضن قبيلة مستقلة نسبيا تُعَيِنُ بنفسها رؤسائها، وتختار ممثلا عن أسرة قوية ليتسلم قيادتها، وهذا ما راهن عليه المخزن بالفعل، فالمخزن محتاج إلى من يحصل له الضرائب من القبائل ويضمن الامتداد السياسي والولاء بينه وبين القبائل، وبهذه الطريقة أصبح القايْدْ ممثلا لجهاز المخزن منخرطا في منظومته ومكرسا لسلطته في حدوده الترابية التي تتوسع وتتقلص حسب الحروب والمنافسات المستمرة مع باقي القُواد الآخرين الذين يطمعون أيضا في كسب رضى المخزن وذلك بواسطة كسب وتطويع المزيد من الأراضي والمناطق. إن الاهتمام بهذه المؤسسة القايْدِية سيتواصل أيضا في عهد الحماية، حيث لم تعمد الإدارة الاستعمارية إلى إلغاء نظام القُوادْ، بل عملت على تقويته والدفع به في الاتجاه الذي يخدم مصالحها الاستعمارية ، وهو ما ساهم فعلا في تكريس سلطة القُوادْ. وبعد الاستقلال لم تتغير وظيفة القايد وأعوانه، بل إن التغييير الوحيد الذي يمكن تسجيله في هذا الباب هو التكوين المتخصص والمهم الذي أصبح يتسلح به القوادْ الجدد (مدرسة استكمال تكوين الأطر بالقنيطرة) وبذلك أصبح القواد ولأول مرة بعد الاستقلال يتقاضون أجر محدد. لكن وظيفة الشيخ والمْقَدْمْ أساسية و ضرورة قصوى في هذا المشروع بالنسبة للقايْدْ وللمخزن على العموم، فعن طريقهما يحدث الامتداد في المجتمع، ويتأكد الحضور المخزني على كافة على كافة الأصعدة، ولقد شكل الشيوخ والمقدمون دوما الدرجات الدنيا في سلطة المخزن، ومن وظائفهم المركزية التي يجب عليهم تأديتها على الوجه الأكمل تتحدد في التبليغ وتمرير فحوى القرارات الفوقية إلى السكان، فعن طريق هذه الوظيفة يؤسس الشيخ أو المْقدْمْ بدوره وسلطته التي تتكرّس ارتباطا بوظيفة ثانية يتحمل مسؤوليتها وهي بالضبط وظيفة الاستخبار. من هنا نستنتج أن المخزن مستمر في الإنغراس والامتداد ومُصِرٌ بآلياته ومؤسساته على اختراق كل الهيئات والوظائف والفعاليات المجتمعية واستثمار كافة الإمكانيات والسلط الرمزية سعيا وراء المخزنة الشاملة. يتعامل المخزن في الوقت الراهن بنفس الأساليب التي كان يستعملها قديما تجاه القبائل والزوايا، فمرة ينهج سياسة الاحتواء والتدجين عن طريق الاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها ودعمها والتعاون معها وصولا إلى إدماجها بشكل كلي في منظومة المخزن، وأسلوب المواجهة والإقصاء عن طريق الضغط الأمني والاستخباراتي والحصار والإقصاء ومحاولات الاستئصال، وبالتالي فالمخزن يعمل دائما على تأجيج الصراع بين مختلف مكونات المجتمع المغربي، حيث عمل قديما على إشعال فتيل الحرب بين القبائل، أما الآن لا يتوانى في تأزيم العلاقات بين مختلف الأحزاب والتيارات الفكرية حتى بين أبناء المدرسة الفكرية الواحدة، وبالتالي يساهم هذا الأمر في إضعاف كل الأطراف المتخاصمة وبالتالي طرح المخزن نفسه كملاذ وحليف لكل الأطراف. أما المخزن في صورته الحالية فإنه لا يعدو أن يكون سوى نسخة متطورة للمخزن العتيق. فمن مميزات حقل إمارة المؤمنين بالمغرب إقصاء الوسطاء بين الإمام والأمة، فمن هذا المنظور نفهم قول الملك الحسن الثاني رحمه الله أمام الصحافة الوطنية والدولية : " لماذا أقبل وسطاء مهما كانت صفتهم بيني وبين شعبي..." إذن فالعلماء في حقل إمارة المؤمنين لا يمكن أن يشكلوا إلا وسطاء ضرفيين بين الإمام والأمة، وذلك لعاملين أساسيين، أولهما تصريح الملك الحسن الثاني وتأكيده على أنه ليس لدينا نظام أو حكم إكليروسْ، وثانيهما كون أمير المؤمنين هو عالم الأمة الأول، هذا بالإضافة إلى مظاهر القداسة وهالة التبجيل والشرفانية التي تصطبغ بها رموز المخزن ومحيطه، وهذا ما يفسر مركزية السلطة ووحدتها وتجميعها، وبذلك لا يمكن الحديث في هذا الباب عن فصل للسلط، وهذا ما يذهب إليه الخطاب الملكي 22 ماي 1979 حيث أكد فيه الملك الراحل على أنه إذا كان في المغرب فصل في السلط فإنه لا ينطبق على الملك، وقد تمّ تكريس هذا المبدأ دستوريا على مدى مختلف دساتير المغرب الخمس السابقة وتأكيده من خلال المادتين 41 و 42 من الدستور الحالي.