العمل قيمة تسمو كلما تحققت بها الذات وحققت جدواها في الحياة، فهو بذل وعطاء يكون حينا عاملا لبلوغ التوازن النفسي والجسدي، وقد يصبح حينا آخر إرهاقا وإجهادا يستنزف الطاقات، فيتحول إلى اضطراب نفسي ومصدر للمعاناة. فخصوصيات العمل وظروف مزاولته من شأنها إما أن تقوي الصحة النفسية للإنسان، باعتباره حينئذ عامل استقرار وأمان، وإما أن تشكل عامل خطورة يعود بالضرر النفسي والجسدي على الفرد، كلما انتفى الرضا وغلب عليه الشعور بالاستنزاف. ولعل من أبرز الاضطرابات النفسية المرتبطة بمجال العمل، الإرهاق المهني، أو ما يصطلح عليه ب”البورن أوت”، الذي صنفته منظمة الصحة العالمية لأول مرة هذه السنة ضمن قائمة التصنيف الدولي للأمراض والمشاكل الصحية، والذي يستخدم على نطاق واسع كمعيار للتشخيص من قبل خبراء الصحة وشركات التأمين الصحي. وحسب الأخصائي النفسي بالمستشفى الجامعي بطنجة، الدكتور عموري عادل، فإن الإرهاق أو الإعياء المهني يظهر من خلال مجموعة من الأعراض من قبيل الحياد المفرط تجاه الآخرين في وسط العمل وغياب التفهم والبعد الإنساني لدى المصاب بهذا الاضطراب، الذي يتعرض له على الخصوص أصحاب المهن التي تحتم الدخول في علاقة مباشرة مع الآخر، كقطاعات التعليم والصحة والمساعدة الاجتماعية. هذه العلاقة التي يغيب عنها البعد الإنساني تجعل المضطرب، يتعامل مع الآخرين بشكل آلي، يضيف الدكتور العموري، موضحا أنه يأخذ مسافة تكون له بمثابة آلية دفاعية للجسم يحركها التوتر المزمن. وأشار الأخصائي إلى أن من بين الضغوطات التي قد تفضي إلى الإصابة بالإعياء المهني أن يكون الشخص مطالبا بإنجاز أعمال مهمة في ظرف وجيز لا يسمح له بإنجازها، أو على العكس من ذلك لا يتم تكليفه بأية مهمة، أو يستشف أن عمله لا يتيح له تحقيق أهدافه، فيسقط في فخ الرتابة ويصبح عرضة للضغط النفسي والشعور بالقلق. نفس الانعكاس تحدثه العلاقات داخل محيط العمل مع الزملاء والمسؤولين، “فكلما أحسن الشخص نسج علاقات جيدة مع محيطه المهني واستطاع الاندماج في وسط اشتغاله كلما كان أقل عرضة للإصابة بمعاناة أو اضطرابات نفسية”، يقول السيد العمراوي. أما الأخصائية النفسية العاملة بالقطاع الخاص، الدكتورة سلمى العزاوي، فقالت في هذا الصدد، “عندما نتحدث عن الإعياء المهني، نجد من بين ركائز التشخيص التعب النفسي المصحوب بالإرهاق العاطفي أو الانفعالي، الذي يفضي إلى مرحلة التعامل بجفاء مع مكونات المحيط المهني، أي أن الشخص يأخذ مسافة عاطفية مع مستقبل الخدمة وحتى مع العمل الذي يقوم به كي لا يتأذى أكثر. وأوضحت أن “بعض الأشخاص يبذلون في بداياتهم جهدا نفسيا وعاطفيا كبيرا في عملهم، يفقدونه على امتداد سنوات العمل، فيشعرون بالإعياء العاطفي أي يفقدون شغف العمل، فيظهر الإعياء المهني، وقد يصل إلى درجة الاكتئاب وظهور أمراض القلق”. واعتبرت الأخصائية أن الاضطرابات النفسية يتم التعاطي معها من خلال مقاربة شمولية، حيث يتم الأخذ بعين الاعتبار القابلية الجينية والوراثية والبيولوجية فضلا عن القابلية السيكولوجية، أي الأحداث التي عاشها الشخص منذ طفولته، بل حتى قبل الولادة، ثم العامل الذي يكون محفزا لظهور المرض أو الاضطراب. فعلى مستوى علاقات العمل، تختلف هذه القابلية من شخص لآخر، فالبعض يستطيع التعامل مع الضغط والتوتر وتحمله والتأقلم معه، فيما يعجز آخرون عن إرساء علاقات مهنية سليمة، سواء مع الزملاء أو مع الرؤساء، لعدم امتلاكهم وراثيا لهذه القدرة أو لعدم اكتساب مهارات في هذا الشأن. ويقسم الدكتور كمال الرضاوي، أستاذ الطب النفسي سابقا بكلية الطب بالرباط، ونائب رئيس الجمعية العالمية للعلاج النفسي، مراحل التوتر المزمن المفضي إلى الإعياء المهني إلى ثلاثة، أولها مرحلة الإنذار التي يبحث فيها الشخص عن موارد تمده بالطاقة للتكيف مع الضغط والتوتر، وهي التي تجعله يشعر بارتفاع نبضات القلب أو انخفاض الضغط الدموي، لكن يبقى في مرحلة المواجهة. وتأتي في المقام الثاني مرحلة المقاومة التي يحاول فيها الشخص مقاومة التوتر لكن مخزوناته تنفد، ومن تم يظهر القلق والخوف واضطرابات النوم والشعور بالكسل. وتظهر مرحلة الإعياء، كمرحلة ثالثة يشعر فيها الإنسان، حسب الأستاذ الرضاوي، بتزايد الإرهاق يوما بعد يوم، فيصبح التوتر مزمنا وتظهر الاضطرابات النفسية من قبيل صعوبة العيش وفقدان الرغبة والبكاء. ويرى الطبيب والمعالج النفسي، أن عبء العمل مصحوبا بمطلب الجودة وسرعة الإنجاز والطابع المركب لبعض المهام، فضلا عن عدم واقعية الأهداف المنشودة، وهي شكل من أشكال التحرش المعنوي الذي قد يمارسه الرؤساء على المرؤوسين، تعتبر من أكبر مسببات الإرهاق المهني والتوتر المزمن، فضلا عن التحولات التي تفرض التأقلم مع المتغيرات الجديدة لمهنة ما كظهور التكنولجيات الحديثة وتسارع وتيرة العمل وأحيانا الشعور بتهديد فقدان الوظيفة. ويضيف الدكتور الرضاوي لهذه الأسباب عوامل أخرى تهم قلة التحفيز المادي والاجتماعي وغياب التقدير، فضلا عن العلاقات مع الزبناء أو الزملاء والرؤساء التي قد تكون ذات طبيعة تصادمية وتطبعها قلة الاحترام والعدوانية، إذ يتعلق الأمر حينئذ بأجواء غير صحية تمنع العمل في إطار من التعاون وروح الفريق، ليخلص المتخصص إلى أن “الإنسان مصدر توتر للإنسان”. وتكمن صعوبة التوتر المزمن في قابلية تطوره على شكل مضاعفات نفسية لا يستهان بتأثيرها على جودة الحياة، أهمها القلق بجميع أعراضه وأشكاله، واضطرابات الهلع، واضطراب الوساوس، بل وحتى الاكتئاب. وتبقى الوقاية أسهل وأفضل من العلاج، حسب الدكتور عموري، الذي يرى أنها تكون مركبة تتعلق بالشخص وبمحيط عمله في آن واحد، وتفترض الانتباه لبعض الأعراض من قبيل فقدان الشهية وقلة النوم والتفكير باستمرار في مشاكل العمل. “ليست هناك وصفة سحرية”، يقول الدكتور عموري، “لكن الحل يحتاج تحليلا لكل حالة والتعرف على ظروف العمل التي قد تؤدي إلى الإعياء المهني، والاشتغال على هذه العوامل، كتغيير المنصب في حال اعتباره لا يحقق التطلعات أو تغيير المهنة بشكل عام، أو حل الصراعات مع الزملاء أو الرؤساء”. وعلى الرغم من ذلك، يضيف، يظل العلاج النفسي مهما جدا ويقتصر في بعض الحالات على العلاج السلوكي المعرفي، فيما يشمل في حالات أخرى العلاج بالأدوية. وحول طرق العلاج دائما، توضح الدكتورة سلمى العزاوي “نشتغل على سبب التوتر والإعياء المهني، ففي حالة صعوبة تغييره نسعى إلى تحقيق التقبل والتأقلم مع هذا العامل في الحياة اليومية بأقل الأضرار، وندفع المصاب بهذا الاضطراب إلى الاهتمام بأمور أخرى في باقي جوانب الحياة، لا سيما من خلال العلاج السلوكي الذي يطور لديه مهارة حل المشاكل والتقليل من تعقيداتها، وتقنيات تحقيق التقدير الذاتي في حالة وجود علاقة سيئة مع الزملاء، وفرض الحدود”، مؤكدة أن الهدف يتم تحديده حسب حالة كل شخص. ويقدم الأستاذ الرضاوي بعض آليات التكفل بهذا النوع من الاضطرابات، والتي تهم على الخصوص جلسات الاسترخاء والتأمل، والعلاج النفسي الفردي، والكوتشين المهني، أو تناول مضادات الاكتئاب. وحسب دراسة لوزارة الصحة تبين نسبة انتشار الاضطرابات النفسية عند الساكنة البالغة 15 سنة فما فوق، فإن نسبة الاضطرابات المزاجية أو الاكتئاب تصل إلى 26.5 في المئة من هذه الساكنة، فيما تقدر نسبة اضطرابات القلق ب 9 في المئة. وفي هذا الصدد، أكد السيد بورام عمر، رئيس بالنيابة لمصلحة الصحة العقلية بوزارة الصحة، أنه من الملاحظ زيادة درجة الوعي بهذه الأمراض، وكذا تزايد الطلب على العلاج. وعزا المسؤول بوزارة الصحة هذا الوعي إلى البرامج التحسيسية على مستوى وسائل الإعلام، وأيضا إلى الارتفاع الواضح لاضطرابات القلق والاضطرابات المزاجية المرتبطة بنمط العيش والضغوطات الاجتماعية والاقتصادية. فالصحة كما تعرفها منظمة الصحة العالمية لا تعني عدم وجود مرض فحسب، بل هي حالة من الرفاه على المستوى النفسي والعضوي والجسدي، مرتبطة بمجموعة من العوامل البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية على الخصوص.