رشيد بن الحاج : هل انتقل بعض نزلاء بويا عمر إلى طنجة ؟ تساؤل لمع في ذهني هذه الأيام بعد أن صادفت في شوارع طنجة وفضاءاتها العامة العديد من المجانين والمختلين عقليا الذين استرعى انتباهي تزايد عددهم وتوزعهم على مختلف أسواق المدينة وشوارعها الرئيسية وحدائقها العمومية . ولعل ذلك التساؤل لم يأت من فراغ ، ذلك أنه قدر علي أن أصادف خلال فترة محدودة و على طول شارع محمد الخامس بطنجة ما ينيف عن خمسة مختلين عقليا ، حيث أنني كنت كلما طوت قدماي مسافة قصيرة من رصيف ذلك الشارع المزدحم بالسيارات والناس والحركة إلا وأبصرت مختلا عقليا , وبدا لي من خلال ملامح أغلب أولائك المختلين الذين أبصرتهم أنهم غرباء عن المدينة وأنهم حديثو العهد بالدخول إليها . وتساءلت بعد الذي أبصرت عن أسباب تقاطر هؤلاء على طنجة بتلك الكثافة لاسيما في فصل الصيف الذي تزحف فيه سيول هادرة من السياح نحو المدينة المزدهية بشواطئها ومرافقها الحيوية ومعالمها الأثرية . لكن تساؤلي بقي متعطشا إلى جواب ...فواصلت السير في نفس الرصيف وقد خالجني إحساس بأنني سأصادف المزيد من المختلين عقليا . وبالفعل فقد صدق حدسي ، ذلك أنني لمحت قبالتي في نفس الرصيف شخصا دلني مظهره الخارجي أنه مجنون ، فقد كان الشخص متجهم الوجه ، منفوش الشعر ،نصف عريان ، يرتدي ألبسة رثة ،وكان يهرول في مشيته وهو يمسك بعصا طويلة و يرفعها من حين إلى آخر إلى أعلى ملوحا ومهددا المارين بالضرب لكن دون أن ينفذ تهديده الذي بث الهلع في قلوب السائرين الذين لم يملكوا حينئذ إلا أن يكتموا أنفاسهم وهم يمشون في ذلك الرصيف في حيطة واحتياط .... وكنت مثلهم أخطو متلفتا وحذرا كما لو أنني أعد خطواتي لأني كنت أخشى أن يباغتني فينهال علي بعصاه التي كان يشهرها عاليا . وحين اقترب مني الرجل على بعد أربعة أمتار أو يزيد توجست خيفة منه ... وكيف لا أتوجس من مجنون هائج مدجج بعصا ؟ لكنني رغم ذلك فقد تمالكت نفسي وجعلت ألملم خيوط شجاعتي فلم أملك بعد أن دنا مني إلا أن تنحيت جانبا تاركا مسافة بيني وبينه ، وكنت وقتئذ أتلصص النظرات إليه وأرهف السمع نحوه بل إنني كنت في حالة تأهب قصوى لصد أية حركة طائشة قد تصدر عنه ... وحينما مر بجانبي حدجني بعينيه الجاحظتين ثم مضى في طريقه يتمتم و هو يضرب بقدميه الأرض ويلوح بعصاه مهددا ... في تلك الأثناء كان أغلب المارين يحولون مسارهم نحو الشارع المكدس بالسيارات أو نحو الرصيف المقابل فرارا من الرجل وخشية أن ينهال على أجسادهم بالضرب خصوصا وأنه كان يقصفهم بأقذع الشتائم وبأبشع الألفاظ . هكذا قدر لي أن أتنفس الصعداء بعد أن مر ذلك المجنون بجانبي مرور الكرام . فتابعت المسير بعد ذلك على رصيف آخر يضج بالناس والحركة وبرائحة العطر حتى انحنيت نحو ساحة 9 أبريل ، ثم انعطفت بعد ذلك نحو إحدى الحدائق المجاورة لها والتي بها بساط من العشب الأخضر والأصفر وبعض الأشجار الباسقة التي كانت تلقي ظلالها في حياء في عز تلك الظهيرة الملتهبة ... والحق أنني آويت إلى تلك الحديقة لأنشد قسطا من الراحة و لأستجير بفضائها من ضجيج الناس ومن صخب السيارات وعوادمها بل ومن لهيب الشمس اللافحة التي كانت ترسل بلا شفقة لهيبها الحارق ... لكن يبدو أن حظي كان عاثرا ذلك اليوم ، حيث أحسست للحظة وكأني على موعد مع المختلين عقليا ، ذلك أنني لمحت بعدما ظفرت بالجلوس على بقايا كرسي مجموعة من المختلين عقليا الذين توزعوا فرادى على بعض أماكن الحديقة حتى خيل إلي أنني في حديقة خلفية لمستشفى الأمراض النفسية والعقلية أو أن عملية إنزال للمختلين عقليا قد تمت ذلك الصباح في تلك الحديقة . فعلى بعد خطوات قلائل مني ، لمحت شخصا غريب المظهر يفترش العشب وبجانبه تكومت أكداس من أغراضه فضلا عن بقايا خبز وأشياء أخرى ، وكانت أحواله وهيأته الرثة وقسمات وجهه لا تشي بأنه مشرد بقدر ما توحي بأنه مختل عقليا ، فقد كانت ملابسه متسخة ، ولحيته غبراء شعثاء ومنسدلة على صدره ، وكان يكلم نفسه بصوت مسموع ويطلق من حين لآخر كلمات بذيئة و قهقهات مدوية . وليس بعيدا عنه رأيت شخصا آخر مستلقيا على ظهره في دعة واطمئنان تحت أشعة الشمس الحارقة . كان الشخص حافي القدمين ،ينوء جسمه بحمل أسمال رثة وثياب بالية ... بين الفينة والأخرى كان ينهض و يخلع بعض ملابسه ثم يقوم بحركات مخلة بالحياء . بعث في نفسي ذلك المشهد الاشمئزاز والنفور ، ثم إنني حينما هممت بمغادرة ذلك المكان وقعت عيناي على شخص آخر يقلب في حاوية قمامة صغيرة وهو يضحك بملء شدقيه ،ويهمهم من حين لآخر بعبارات غير مفهومة ويبعثر على الأرض ما ينتشله منها . أدركت من خلال حركاته وتصرفاته تلك أنه مختل عقليا . وكان ثالث مختل أبصرته ظهيرة ذلك اليوم في تلك الحديقة . وانتابني حينئذ إحساس بأنني لو قمت بجولة في فضاء الحديقة فإنني لا محالة سأصادف عددا آخر من المختلين عقليا . فحدائق ساحة 9 أبريل أصبحت حسب أحد الرواة قبلة للكثير من المجانين والمختلين عقليا الذين أصبحوا يقصدونها وكأنها مركز للرعاية الصحية أعد لاستقبالهم وإيوائهم حتى أن بعض مقاعدها وزواياها أوشكت أن تصبح مقر إقامتهم لكثرة ترددهم عليها . ولا شك أن المقام بها يطيب لهم نظرا لقربها من بعض المرافق الحيوية التي يسترزقون منها كالسوق المركزي والمقاهي ... لم يطل مكوثي في تلك الحديقة أكثر من بضع دقائق ، لأن مشاهد المختلين البئيسة أفسدت علي الجلوس ونغصت علي المقام ما جعلني أغادر المكان دون أن أظفر بقسط من الراحة المنشودة . وعقب مغادرتي الحديقة لوحت لسائق سيارة أجرة بجريدة كنت أمسكها بيدي ... توقفت السيارة فامتطيتها بعدما أعلمت السائق بالمكان المقصود... جلست بعد ذلك في المقعد الخلفي لأن المقعد الأمامي كان من نصيب شخص آخر ... أحسست وقتئذ أنني محظوظ ، ذلك أنه في ذروة فصل الصيف يصير مستعصيا على المرء في طنجة إيجاد سيارة أجرة شاغرة لا سيما في الظهيرة ... انطلقت السيارة تشق طريقها في حذر و تؤدة بسبب الزحمة المرورية الخانقة التي تشهدها شوارع المدينة صيفا... كان السائق يستمع أثناء القيادة من راديو سيارته إلى نشرة إخبارية تبثها إذاعة جهوية ... كان تقرير النشرة في تلك الأثناء يتحدث عن مشروع طنجة الكبرى المندمج الذي يشمل برنامجه جميع القطاعات الاجتماعية والصحية والاقتصادية ... وكنت بدوري أستمع إلى ذلك التقرير في الوقت الذي كنت أسرح فيه بصري من خلال نافذة السيارة في الأرصفة التي كانت تنوء بحمل أسراب من الغادين والرائحين الذين توقعت وقتئذ أنني سأبصر من ضمنهم مختلين عقليا... وبالفعل فقد صدق توقعي ، ذلك أنني لمحت أكثر من مختل يسير في الأرصفة التي كانت في مرمى نظراتي ... سألت السائق عن ظاهرة انتشار المجانين و المختلين عقليا التي تفشت في المدينة ، فعدل السائق جلسته وهو يضحك ثم أنبأني أنني لم أر إلا غيضا من فيض وأن ما خفي عني أعظم ، فالمدينة حسب روايته تفيض بالمجانين والمختلين الذين ألف أن يبصر هم كل يوم منتشرين في مختلف أرصفة المدينة وفضاءاتها وأسواقها ومتنزهاتها .., ذكرني كلام السائق بضريح الولي بويا عمر وبقرار الترحيل الذي اتخذه السيد وزير الصحة قبل أسابيع في حق المختلين عقليا والمرضى النفسيين ... تساءلت مع نفسي ، ماذا سيكون رد فعل السيد وزير الصحة لو زار طنجة و أبصر ما أبصرته ؟ . وقبل أن أهتدي إلى جواب عن تساؤلي كانت السيارة قد وصلت إلى المكان المقصود، ثم إنني نقدت السائق أجرته وانصرفت نحو البيت . وبالرغم من قصر المسافة التي كانت تفصلني عن بيتي فإنني لم أسقط من حسباني احتمال مصادفتي لمجنون أو مختل .