للمرة الأولى، في التاريخ العربي، وربما في تاريخ العالم، يتجسّد في الشارع، على الأرض، عمليّاً، وميدانياً مثل هذا الوعي، وهذا التعبير عن إرادة جمعية. التعبير عن موقف فكري - سياسيّ بالغ الوضوح والدقة والتمييز، بين الدينيّ والسياسيّ، رفضاً للتبعيّة والخضوع، وطلباً للعدل والمساواة والإدارة العالمة للدولة والمستقبل. ومن أروع مشاهد ساحات المليونيات مشاهد الصلاة الجمعية في حيّز يرفض الاستئثار السياسيّ باسم الدين، ويرفض الخلط بين الديني والسياسيّ.وما يضاعف الإعجاب هو هذا الحضور الكثيف للنساء ومشاركاتهن في التعبير. حيث تستعيد هذه الأكثرية الاجتماعيّة بعض حقها في الحضور والفاعليّة، وإن اقتصر حضورها حتى الآن على التعبير دون المسؤولية. وما يدهش هو هذا الغياب الكامل لأي حادث صدام أو مخالفة مسلكية واستغلال، مع الانضباط العجيب في مثل هذه الحشود. إنه امتحان الشارع، أي سلطة الشعب الفعلية، لمجموعة من الأفكار والأطروحات التي راجت على امتداد عقود طويلة. الشعب هنا هو السلطة التي لا سلطة فوقها. وللمرة الأولى، في التاريخ العربي الحديث، يتجسّد في الشارع، على الأرض عمليّاً، الانشقاق بين نظرتين: الأولى تلك التي تتّخذ من الماضي مرجعيّة مطلقة، وتصرّ على العودة إليه، وإذاً على استئناف التاريخ. والثانية، تلك التي تريد، على العكس، أن يكون الماضي أفق استبصار واعتبار، وإذاً تريد أن تتفهّم الحاضر العربيّ والكونيّ، وأن تبني عالماً جديداً، وتؤسس لكتابة تاريخ جديد. والمسألة، إذاً، أبعد وأكثر تعقيداً ممّا يتراءى إلى كثيرين. إنها مسألة حضارية، وبوصفها كذلك، لا يمكن أن تُختَزَل في صراع حزبيّ - سياسيّ على السلطة، بين «أهل الجزية والتكفير»، و «أهل الثورة والتحرير»: إنها مسألة ترتبط عضويّاً بالهويّة العربية، وإذاً بالمصير العربيّ. وهي من ثمّ مسألة إنسانيّة - كونيّة. الأمر البديهيّ الذي يعرفه الجميع هو أنّ المنتمي إلى حزب دينيّ كالإخوان المسلمين أو غيرهم، ليس أكمل إسلاماً أو أكثر تقوى من فرد غير منتمٍ إلى حزب دينيّ. من أين يمكن أن تجيء أفضليّة المتحزّب إسلاميّاً؟ ومن أيّ مصدر يستمد نفوذه المعنويّ؟ الأمر البديهيّ الآخر هو أنّ التطورات المعرفية والاجتماعية الحالية قد رفعت من مستوى الكفاءات الاجتماعية والعلمية والعملية لدى النساء، فكيف يمكن أن يستمر تهميشهنّ أو التمويه على تغييبهن والاكتفاء ببضع تلوينات رمزية هنا وهناك؟ وفي حين تمثل الأكثرية العددية معياراً للشرعية، كيف يتواصل تجاهل الأكثرية العددية للنساء؟ في هذا الضوء، أقدّم بضع إشارات. I - خمس إشارات 1 - الملاحظة الأولى هي أنّنا، نحن العرب، نؤخَذ بالأسماء، ومن دون أن نتوقّف عند المسمّيات، أو نتساءل، وندقّق. الأشكال والمظاهر هي ما يهمّنا. الحداثة، الديموقراطيّة، الحريّة، الثورة... إلخ، على سبيل المثل، مجرّد ألفاظ نتداولها في ذاتها - في معزلٍ عن سياقها، وتاريخيّتها، و «هويّتها»، ونسبيّتها، ونتصارع باسمها، ويعلن بعضُنا حروباً على بعضنا الآخر، ونقتل باسمها، بعضنا بعضاً. هناك («أسماء» - مفهومات، نظريّات)، كمثل الديموقراطيّة، أخذناها استيراداً، كما نستورد السيّارات والطائرات. أعني ليست لنا، نحن العرب، أية علاقةٍ بها، تاريخيّاً. فلم نعرفها في تاريخنا كلّه. ذلك أنّ الديموقراطيّة في أبسط دلالاتها اعترافٌ بالآخر المختلف، في المجتمع، بوصفه عضواً فيه، وله الحقوق نفسها التي يتمتع بها المواطنون، أيّاً كان انتماؤهم الديني أو الثقافيّ. والمختلف، في تقاليدنا، «كافر»، بشكلٍ أو آخر، قليلاً أو كثيراً، بوصفه «خارجاً» عن إرادة «الجماعة»، ولا يمكن أن يُعَدّ عضواً في جسم «الأمّة». وليست له الحقوق نفسها، مع أنه يقوم بالواجبات نفسها. الديموقراطيّة، بالنسبة إلى الإخوان المسلمين في مصر، على سبيل المثل مجرد أداة للوصول إلى السلطة. عندما يتمّ الوصول بواسطتها يتمّ إنكارها من هؤلاء أنفسهم. وهكذا نستخدم المفهومات، مفرَغة من معناها الأصليّ، ومُحَرَّفَة. نستخدمها لا بوصفها طريقاً مفتوحة، بل بوصفها أدواتٍ عمليّة تخدمنا في تحقيق أهدافنا. آخذ مفهوم «الثورة» مثلاً آخر على إفراغ المفهومات من معناها. للثورة معنى أوّل مباشر هو الانتقال من حالة سيّئة إلى حالةٍ حسنة، من الحاضر الذي يقيّد إلى المستقبل الذي يحرر. غير أنّ مفهوم الثورة عندنا، نحن العرب، خصوصاً في ما سُمّي «الربيع العربيّ» هي على العكس: إنها تعني العودة إلى «مثال» قائم في الماضي. إنها عودةٌ إلى ما يستحيل أن يكون حاضراً إلا في «الأهواء» و «الرغبات»، و «المخيّلات»، أيّ إلى كلّ ما يتناقض مع الواقع الحيّ، على كل المستويات. إنها ثورةٌ لقتل العقل والمخيّلة والابتكار، وفي المحصِّلة لقتل الإنسان نفسه. 2- إهمالُ التجربة التاريخية العربية، وهي تجربةٌ تؤكّد أنّ العربَ كانوا يتمزّقون وينهارون كلّما حوّلوا الدين إلى أداةٍ سياسيّة، بدءاً من أواخر العهد الراشديّ، مروراً بالعهدين الأموي والعبّاسيّ، وصولاً إلى العصور الحديثة. بينما كانوا، على العكس، يزدهرون ويتقدّمون بقدر ما يتيح صاحب السلطة (الخليفة) الفصل، ثقافيّاً، بين الدين من جهة، والسياسة والسلطة من جهة ثانية، وذلك في العصور كلّها. 3- أصبح الإسلام، في الممارسة السياسية الإسلامية السائدة، ولا سيما الإخوانيّة، «حزباً». وفي هذا إشارة إلى تخلّف الوعي نفسه، من جهة، وإلى غياب الأفق الحضاريّ - الإنسانيّ، من جهة ثانية. هكذا يحوّل مفهوم الإسلام الاصولي في بلدان العالم الإسلاميّ، على تنوّعه وغناه وتعدّده واتّساعه، إلى «أحزاب»، ويُختَزَل في «منظَّمات» و«جماعات». 4- في هذا كلّه يرى «الإخوان المسلمون» أنّ «الرأي» أو «النّظر» مقدَّمٌ على الإنسان. الرأي الدينيّ، أوّلاً، ثمّ الإنسان. وهذه ذُروةُ الانغلاق الفكريّ. وهي نقيضٌ كاملٌ للحياة والإنسان في آن. ذلك أنّها تحوّل الحياة إلى جحيم، والإنسان إلى آلة، والوجود (على الأرض) إلى سجن هائل. العقل يقول إنّ الدين نفسه وُجِد من أجل الإنسان، وإنّ الإنسان وُجِد من أجل أن يبنيَ عالماً أفضل. 5- الطامّة الكبرى هي الاستنجاد بالأجنبيّ من أجل بناء سلطة «وطنيّة» أو «دينيّة»، حتى لو أدّى هذا الاستنجاد إلى تدمير «الوطن» أو تفكيكه. وهذا يحتاج إلى دراسة خاصّة، ربما سيكولوجيّة في المقام الأوّل: كيف نرفض دينيّاً و «ثقافيّاً» قوىً خارجيّة ونتوسّل لكي تضمّنا إليها «سياسيّاً»، وأن تسمح لنا بالدخول في كنف سلطتها؟ II. مفصل تاريخيّ 1- 30 حزيران (يونيو) مفصل تاريخيّ، نهاية وبداية في آن: نهاية للممارسة السياسية في مصر منذ نهاية الخلافة العثمانيّة، وبدايةٌ لممارسة جديدة. 2- العمل على أن تكون مصر «أفضل وأعدل وأجمل وأغنى»: هذا هو الدافع الأساس، والمحرّك الأول. لا بلوغ السلطة في ذاتها، ولا إسقاط النظام، في حدّ ذاته. لا القتل، لا الوصوليّة ولا الانتهازيّة. لا السلب ولا التدمير. 3- الخلاص من العنف، في كل أشكاله، ومن الشناعات التي حوّلت «الثورة» إلى مناخ تجارة وتبعيّة، وجرائم من كلّ نوع. كأنّما هناك شعور سائد هو أنّه لم تبقَ أهمّيّة لأيّ شيء، ولهذا أصبح كلّ شيء ممكناً. وهذه عبثيّةٌ كاملة. 4- تتمتّع الأجيال المصريّة الشابّة، نساءً ورجالاً، بقدرة كبيرة على الرؤية الكاشفة، والممارسة العالية. وهو ما يولّد الأمل بنشوء مؤسسات تحتضن إبداعاتهم. إنهم يؤسّسون لعلاقات جديدة مع أدوات الثقافة المعاصرة - الصورة، والفيديو والسينما والإنترنت، والكتابة والرسم التشكيليّ والموسيقى، والغناء، تفتح آفاقاً جديدة لظهور كتّاب ومفكرين وفنّانين من طراز مختلف، جديد، ومدهش، وفعّال. إنهم يمثّلون الاستجابة الحيّة للقاعدة الفنّيّة الراسخة وهي أنّ الفنّ، جوهريّاً، تحوّل دائم - وأنّ الثقافة، هي كذلك تحوّل دائم. 5- استحالة التخلّص من العنف «العمليّ»، إذا لم نتخلّص من العنف «النّظريّ». والثقافة العربية نهضت ولا تزال، على كثير من الدّعائم اللاإنسانيّة في مقدّمتها «العنف». وتجسيد ذلك في الميدان السياسيّ واضحٌ لمن يريد أن يرى. بل لا يزال العنف جزءاً أساسياً من الشعر ذاته، أي من اللغة ذاتها: الهجاء، مثلاً، عنفٌ ضدّ الآخر لا يقلّ تأثيراً، في بعض وجوهه عن العنف المادّيّ. وهو مقبولٌ «أدبيّاً» و «اجتماعيّاً» و «سياسيّاً». غير أنّنا لا نستطيع أن نقضي على هذا العنف النّظريّ، خصوصاً ذلك الذي يكمن في بنيتنا العقليّة والثقافية، (متمثلاً، خاصّةً، بعدم الاعتراف بالآخر المختلف) إلاّ إذا قضينا على مصادره وأسبابه. والسؤال، إذاً، ذلك الذي يواجه هذه الأجيال هو: كيف نقضي على العنف، وكيف نستأصل أسبابه؟ كيف نحوّل الطاقة المدمِّرة في الإنسان العربيّ إلى طاقة بنّاءة وخلاّقة - في اتّجاه الآخر، في اتّجاه الصداقة، والعدالة، والإبداع. كيف نخلق الشروط التي توصلنا أو تساعدنا في تحقيق ذلك؟ 6- أعمق ما يشخّص ثقافة «أهل الجزية والتكفير» الذين يتّخذون التاريخ الماضي أو تاريخ الماضي، مرجعيّةً مطلقة، نراه في ما يقوله بول فاليري حول التاريخ. فالتاريخ «يُسكِر الناس، ويجعلهم يستعيدون ذكرياتٍ خاطئة، ويضخّم انفعالاتهم، ويترك جراحاتهم تنزف، ويخلق لديهم إمّا هذيان العَظَمة، أو عُقَد الاضطهاد». (ترجمة أحمد الشيخ، في كتاب «دفاعاً عن التاريخ»، لمارك بلوخ). واستناداً إلى هذا «السُّكْرِ» بالتاريخ، نقول: إذا أصرّ «أهلُ الجزية والتكفير» على موقفهم، ونمط تفكيرهم، وصولاً إلى السلطة، فإنّ معنى ذلك أنّ المجتمع العربيّ سيفشل بوصفه مجتمعاً، في إيجاد مخرجٍ أو حلولٍ لمشكلاته. وسيكون وصولهم إلى السلطة، بمثابة الخطوات الأولى نحو الهاوية. وهذا ما سمّيته، في مناسبات سابقة بحالة «الانقراض» مُشيراً إلى نهاية «الحضور العربي»، - على ساحة العالم، إبداعاً وفعاليّةً، ومشاركةً في بناء عالم المستقبل. وهو ما يسمّيه سمير أمين، في تنويع سياقيّ آخر «الانتحار الجماعيّ».