إشكالنا الوجودي انقلب تماما. ففي الواقع تمت إدانتنا بالعيش للأبد. مشكلنا الحقيقي ليس الموت وإنما الحياة، ولن نعرف يوماً حالة غيرها. إمنحوني بضعَ دقائق لأثبت لكم أنكم لا تعرفون الموت أبداً، وأن كل القلق الذي يسببه لنا التفكير فيه من خلال ثقافتنا ليس سوى مجرد هراء. امنحوني خمس دقائق فقط وسأثبت لكم أنكم بالفعل خالدون. ليس في الأمر مغالطات، ولا حتى معتقدات دينية، كل ما هناك هو فطرة سليمة، لحظة تفكير بسيط وستدركون لماذا يستحيل علينا أن نموت، وحين نقول :” سأموت ” فإننا نتحدث عن زمن لن يتحقق أبداً. فلنبدأ بمثال بسيط : أنت في المستشفى، يجب إجراء عملية لك، ولذلك يجب أن يتم إعدادك لهذا ثم نقلك إلى غرفة العمليات، وبما أنك تناولت دواءً قبل العملية فإنك الآن مخدر. يأخذ الطبيب الذي سيجري العملية محقنة، وفي لحظة الحقن يطلب منك أن تعد من واحد إلى ثلاثة:” واحد .. إثنان ..” ويغلبك النوم في هذه اللحظة.. تدوم العملية ثلاث ساعات، ولكنك لا تشعر بها. وبالفعل، غلبك نوم عميق لدرجة أنك لم تشعر بأي عملية مؤلمة لاختراق جسدك بأدوات جراحية، لم تشعر حتى بالوقت التي مضى خلال ذلك. بعد لحظة من استغراقك في النوم، و فوراً تجدت نفسك في غرفة أخرى مع ممرضة تسألك عن شعورك. مرت ثلاث ساعات كأنها ثانيةٌ أو أقل. والآن سنقوم بتسريع الزمن : نحن في سنة 2055، أنت تنتمي لفرقة من خمسة رواد فضاء تم اختياركم لرحلة لكوكب المريخ، وبما أن المريخ بعيدٌ جدا ستستغرق الرحلة ثلاث سنوات، وقد تم تطوير تقنية لحفظ الأجسام تحت درحة حرارة جد منخفضة تضعكم في حالة سبات دون أن يهددكم أي خطر طيلة الرحلة. وُضع كل فرد من المجموعة في كبسولة بعد تناوله حبوباً منومة، وقريباً جدا ستستغرق في نوم عميق كالذي استغرته في غرفة العمليات. تمر ثلاث سنوات، وتقترب المركبة الفضائية من الهدف. يتم استعادة درجة الحرارة العادية لأجسادكم وتعودون لحالة الوعي، تعتقدون انكم نمتم للحظة فقط، ولكنها كانت ثلاث سنوات، تشاهدون كوكب المريخ عن قرب، وتستعدون للهبوط. اربط حزام الأمان : تتم عملية دفعك بسرعة هائلة تفوق الضوء، إنك تحتضرون في غرفة الرعاية الملطفة داخل المستشفى الذي تقضي فيه آخر لحظات حياتك، جميع أفراد عائلتك يحيطون بك ويشهدون لحظة موتك، وانت تشعر بالتعب الشديد، وتقوم جرعات المورفين ( المسكن ) بالتخفيف من الألم، تتوقف عن التنفس .. لكن هل ستموت؟ أعني هل تشعر بإحساس إنسان ميت ؟ قام “بارمنيدس” بإثبات العكس قائلاً : ” حسناً .. سأكلمك وانت اسمع ما سأقوله. لا نستطيع معرفة اللاكائن لأنه مستحيل، ولا حتى التعبير عنه بواسطة اللغة. لأن الفكر والكائن شيء واحد. يجب أن يكون الكائن هو الفكر واللغة، لأن الكائن موجود ولكن اللاكائن هو لاشيء. ولكن كيف يعقل هذا ؟ هل تم خداعنا إذن؟ إنها زوبعة فلسفية تسبب لنا الدوار .. سنحاول أن نفهم ... حين سأموت، سيتوقف الزمن .. وإذا كنت ملزمةً بالإستيقاظ من جديد، سواء خلال ساعات، أيام، أو حتى ملايين السنين، فإن إحساسي الذاتي سيخبرني أن حياتي لم تتوقف إلا للحظات معدودة، أو إنها لم تتوقف أبدا. لكن لماذا؟ في اللحظة الموالية سأكون على قيد الحياة من جديد. الموت – يقول بارمنيدس – هي العدم أي اللاكائن، وهي أيضا لحظة توقف الزمن، وأيضا اللحظة التي لا يدوم فيها ًالخلود-بشكل متناقض- سوى ثانية لأنه حتى ندخل نطاق الزمن يجب أن نكون أحياء. أول جهاز قياس الزمن هو نحن، وهو تركيبتنا البيولوجية الخلوية التي تولد وتحيا وتموت. حين نموت يتوقف هذا الجهاز، حاستنا الثامنة التي هي الزمن، تختفي وننفصل عن الوعي. الزمن ليس فقط معطى فيزيائيا-فلكيا موضوعيا، إنه ايضا احساس ذاتي. بالنسبة للكائن الذاتي الذي هو نحن، حين يموت يمر الزمن بسرعة غير محدودة ولا نهائية. وبما أننا أتينا للحياة مرةً، وأن الكون له مدة لانهائية، فإن ما وُجد مرة يملك كل الحظوظ ليوجد مرة أخرى. خلال مدة زمنية لانهائية، يقوم الكون بعملية إعادة إنتاج ما تم إنتاجه من قبل. ( عبر عنها نيتشه في عقيدته ” العودة الأبدية ” في كتاب إرادة القوة ) . لكن بما أنه لا وجود لكائن خارج الزمن، بمعنى لا موضوع، ألا يعني هذا أن هذه الفكرة بدون معنى بما أن الكائن الذي سأكونه بعد الموت لا علاقة له بالكائن الذي كنته سابقا ؟ الأمر بديهي، فالكائن الذي هو أنا يتعلق بالجسد الذي يصنع وعيي، وإذا كنت ملزمة بالعودة للحياة من جديد، من يدري أي جسد سيمنحني وعياً من جديد ؟ بالرغم من ذلك، تمكنني هذه الفكرة من قياس حجم غموض القلق إزاء الموت الذي هو بالنسبة لي شعور مجهول لن نعرفه يوماً، لأنه يجب أن نكون أحياء حتى نتمكن من ذلك. إنني أفهم على الأقل قلقي تجاه العذاب، لحظة من حياتي قد تكون مؤلمة. أما الموت فهو سفر عبر الزمن بسرعة فائقة. كذلك الرهان الذي قام به باسكال بخصوص الله، قد يكون مريحاً لنا أن نقوم بنفس الرهان على الحياة ( أو العودة إلى الحياة ) بعد الموت. مجرد الإيمان بها والرهان عليه يخفف القلق. إذا كان صحيحا فمن الرائع أن نعتقد أن الموت لا يدوم سوى لحظة واحدة، أما إذا كان خاطئا فلا شيء يدعو للخوف، مادمنا للشعور بالموت يجب أن نكون أحياء. إلى هنا نلاحظ أن إشكالنا الوجودي انقلب تماما. ففي الواقع تمت إدانتنا بالعيش للأبد. مشكلنا الحقيقي ليس الموت وإنما الحياة، ولن نعرف يوماً حالة غيرها. في النهاية يبقى سؤال حقيقي : ما هو هذا الكائن الذي أسميه ” أنا ” ؟ وهل هو نفس الكائن الذي تسميه أنت ” أنا ” ؟ .. الآن وبما أننا نعرف أننا أبداً لن نموت، فنحن نملك الوقت الكافي للتفكير في جواب على ذلك ..