جلس على حافة السرير الصغير لطفلته المدللة ، و هي عادته كل مساء ، يتملى بالوجه الجميل ، و يترنم بالصوت الرقيق ، يداعبها برفق و يؤدي ضريبة الجلسة حكاية مبتورة يختم بها اللقاء . كانت هذه الطفلة آخر العنقود في مجتمع الأسرة الرجولي . اهتز البيت بمن فيه لما قدمت في ليلة أغاثت جذبا استبد بالبلاد و العباد ، فاستبشر الجميع بهذا القادم ، و تشاكسوا في التسمية حتى استقروا على اسم "ن" ، فشاعت الأنوار في البيت و قفز الحبور في جنباته . أحس بالطفلة تحمل في ثنايا وجهها قسمات كان يحملها وجه آخر في يوم ما ، اعتقد وهما أن صورته تلاشت مع الزمن ، لكنه طفق يحرك دواخله كلما أمعن النظر في صغيرته بعمق ، لحظات ، تهزه و تصرخ فيه " ما بك ؟" فيستفيق من لذة الغفوة و يرد عليها " هو غي قديم يا عزيزتي " لتسأله " هل الغي فيه القديم و فيه الجديد ؟ " يبتسم لها و يقبلها بين العينين ، و يخرج من حجرتها ليخلو إلى نفسه بين أحضان أريكة ، مائلا برأسه إلى الوراء مغمض العينين في استرخاء الأموات ، مستحضرا لحظات لا تبلى . هناك كان اللقاء الأول في بيتهم إثر زيارة عائلية ، شاهدها أول مرة ، كانت طفلة في جسم مكتنز جعلها أكبر من سنها ، و أناخت الأنوثة و الحسن في الوجه البدري ، رشقه بعدد سهام حرب "طروادة" ، و مدت يدها إليه مصافحة في حياء ، فقبض على اليد أكثر ، و تمنى ألا تسحبها إلى الأبد.. ضن أنها نزوة عابرة انتهت بانتهاء الزيارة العائلية .. فكذبه الشعور الملازم كالظل .. و طارت الرسائل بينهما كالحمائم هدلت بالشوق ، ترسم الكلمات صادقة عنيفة باللهفة للقاء على اليابسة و الماء و فوق السحاب ، و العناق في الأحلام لوحة ترسمها فسحة الأرواح في أمكنة كالجنات . كان يكفي أن يذكر الاسم المعلوم ، فيهتز الجسم و الروح و يعشق صاحبته حتى جنون المجنون ، قرأ كل قصص شهداء الحب العذري في التراث الإنساني ، و لقب نفسه ، بين نفسه، بألقابهم . و كم فتنته شخصية ذاك المجنون كيف تمسك بتلابيب الكعبة يدعو ربه أن يزيده من حب ليلاه. فتح عينيه على صوت زوجته و هي تناديه ، لم يرد ، و عاد يغمضهما ليسرح في هذا الهيام الملحاح .. تراءت له "ن" في لباسها البوهيمي كغجرية أسدلت شعرها المجعد المتحرر من الأمشاط و التصفيف ، تخطو في غنج كعارضة أزياء ، ليلتهمها بعينين ملهوفتين ، يحملها بين ذراعيه يسابق الريح ، خائفا عليها من أشعة الشمس ، من نسمات الهواء ،من الآخرين ،من نفسه حتى .. أحس بيد رقيقة تهزه هزا خفيفا ، تأكد أنها الطفلة قد جفاها النوم ،فخرجت ،كعادتها ، تتلمسه ليتم الحكاية ، و دون أن يفتح عينيه ،طلب منها أن تعود إلى فراشها ، رافضا أن تقطع عليه هذه الغفوة الجميلة ، فمن حقه أن يغفو ، إلا أن الطفلة تجمدت في مكانها معاندة عناد هذه الغفوة الجاثمة على مخيلته كالطود . نادى زوجته لتخلصه منها حتى يعود إلى الغفوة و ما حوت من جمال، أضفى عليها الشوق و الندم مسحة خفيفة من حزن لذيذ ، فلم تكن " ن" من نصيبه المقدر في علم الله الأزلي ، جاء ذاك الآخر المتربص في لحظة جفاء عابرة ، ليخطفها ،طاوعته . صعقته أخبار زفافها ، و تلذذ المرض بملازمته شهورا حتى أشرف على الهلاك ، و أذعن للقضاء في صمت أخرس ، صمت طال ثلاثة عقود فجره القلم كلمات في هذا الجنس الأدبي .