يحكي الفيلم البريطاني، الذي حصد أهم الجوائز السينمائية لهذا العام “خطاب الملك” قصة مرشح للخلافة عَيِيّ اللسان، ترفض الكلمات بعناد أن تصدر من فمه، فاحتار الشعب والأطباء في أمره، إلى أن نجح أخيرا في اكتساب ملكة الفصاحة، فكانت كلماته الأولى، التي نطق بها، عبارة عن تعابير المواساة لشعبه، الذي يعاني من أهوال الحرب، وقدم نفسه كجندي يقف في الصفوف الأمامية لنضالات أمته. والحديث هنا عن فيلم سينمائي لا غير. لو قُدِّر لصناعة السينما أن تتعامل مع “خطاب جلالة الرئيس”، لما كان لها من مرجعية سوى فيلم “الديكتاتور” لشابلن، حيث الفصاحة شجرة تخفي غابة مرعبة من ألفاظ الشتائم والقدح في الشعب، وترسانة هائلة من تحريض أبناء الأمة الواحدة بعضهم ضد بعض، وإشعال النعرات النائمة تحت الرماد. أما إذا عجزت فصاحة “جلالة الرئيس” عن حشد الولاء، فإن أجهزة مخابراته تتجند من أجل شراء بيعة نفدت صلاحيتها منذ أزمنة سحيقة، وحشد صغار موظفي الأجهزة كالبهائم في الساحات العمومية، من أجل ترديد شعارات ببغائية، تهتف بحياة “ملك الملوك” وبالرئيس الخالد المفوه الذي لا يشق له غبار، إطلاق السباب البذيء ضد شعبه، أو تعليق الانتكاسات التي نتجت عن أدائه الاستبدادي على مشجب المؤامرات الخارجية، في انتظار أن يخضع الرئيس لخيار استجداء التدخل الخارجي، للتوسط له لدى شعبه، من أجل لعب أشواط إضافية، أو من أجل الخروج الآمن من البلاد، مع بطانته المنخورة بالفساد والعفن السلطوي، متوهما حلول موعد الإفلات من العقاب عن الدماء التي أهرقها، وأموال الشعب التي أهدرها، ومستقبل الأجيال الذي رهنه، حيث ستضطر الشعوب الثائرة إلى كنس أزبال الاستبداد ودفن نفاياته، وهو ما سيتطلب وقتا ثمينا، قبل أن تنجح الجماهير في إرساء ثقافة جديدة للحكامة الحقيقية، التي مصدرها، الأول والأخير الإرادة الشعبية. ويمكن القول إن المستبدين العرب قد ذهبوا بدورهم ضحية استبداد من نوع آخر، إذ تستبد بهم الرغبة الجامحة في أن يتحولوا إلى ملوك تصنع لهم عروش على المقاس، وتيجان مرصعة بآلام ومآسي الناس، وولاءات داخلية وخارجية، حسب الطلب، في سوق النخاسة العالمي، حيث أموال الشعوب تصرف فوق الطاولة وتحتها، يتلقاها نصابون محترفون بدعوى قدرتهم على تشكيل ‘لوبيات' فاعلة لدى مراكز النفوذ في العواصم المعلومة، تقي جلالات الديكتاتوريين العرب – وكلهم مرؤوسون من خارج أوطانهم – من التقارير الحقوقية ‘المسيئة'، ومن ‘اللسان السليط' للصحافة الدولية الحرة، على ندرتها. ويكفي شعوب العرب أن تتأمل في شكل حكامها المتسلطين، وكأنهم صنعوا من قالب واحد. فمن فرط جلوسهم الطويل على الكراسي المنهوبة اتخذوا شكلها ومقاسها، وكأن الكرسي جزء من أجسادهم لا ينفصلون عنه إلا بعملية جراحية دقيقة، لا يجريها إلا أمهر الجراحين، لفصل جسد الكرسي عن جثة الحاكم الجائر ومؤخرته. وفي الحالة العربية الراهنة، تكللت العملية بالنجاح أحيانا، وارتاحت بعض الكراسي، فيما استعصت في حالات أخرى، كان التصاق الحاكم بالكرسي إسمنتيا، فعجز الجراحون عن التفريق بين الكرسي والجالس المنصهر مع شرايينه، المتعطش لدمائه، ففسد الكرسي بفساد الحاكم الظالم الذي استمد لغته من خشب الكرسي المظلوم والمغلوب على أمره. وتعج قاعات الانتظار في عيادات الجراحين بعشرات الكراسي الطامعة في فك الارتباط مع الجالسين فوقها والجاثمين على أنفاسها، راغبة في أن يؤدي مبضع الجراح دوره التاريخي في إنقاذها من صبيب الدماء الفاسدة، بعد أن تبرعت شعوب العرب الثائرة بدمائها النقية المحصنة ضد الجراثيم التي لوثت مشارق العروبة ومغاربها، منذ أكثر من نصف قرن من الأزمنة الوبائية، غزا فيها الجراد السلطوي الاستبدادي كل المراعي، وعم فيها جفاف الحريات، إلى أن حل اليوم موسم ري الأرض اليباب برذاذ دماء الشهداء. موسم اللاعودة إلى الكراسي والعروش التي نخرها السوس وأكلتها الأرضة، ونهاية الخطب المدبجة من محبرة واحدة، اعتادت تصريف الوعود بإلغاء حالة الطوارئ، من أجل إحلال طوارئ أشد إيلاما ووطأة، بعد أن تستقر الأزمة وتعود إلى حالتها الطبيعية، ووضع دساتير جديدة تلبس الديكتاتورية أزياء التحديث الوهمي والدمقرطة الصورية التي تستغفل نباهة الشعب ويقظته، وهو الذي حول كل أيامه إلى “جمعة للشهداء”، واثقا من أن أجمل مستبد لا يعطي إلا ما يملك! وبأن الشعب قادر على إعطاء كل شيء في سبيل حريته وكرامته.