بقلم : الدكتور عبد الله بوصوف : الأمين العام لمجلس الجالية تفصلنا بضعة أسابيع فقط عن الانتخابات الأوروبية في ماي 2019، وهي التي وصفها أغلب المراقبين بالهامة، وموعدها بالتاريخ المفصلي لدول الاتحاد الأوروبي، وجعل الاهتمام بها يبدأ قبل موعدها بشهور طويلة من خلال تقارير ومتابعات وتحاليل شملت أكثر من جانب واحتملت أكثر من وجهة نظر؛ الأمر الذي جعل من الانتخابات التشريعية والرئاسيات الأوروبية مجرد تمرينات انتخابية في انتظار انتخابات 26 ماي 2019 المصيرية. في هذه الانتخابات يسجل تشابك المصالح الوطنية لدول الاتحاد الأوروبي بالمصالح الأوروبية المشتركة، وشكلت مواضيع الأزمة الاقتصادية وملفات الإرهاب والهجرة واللجوء والتغييرات المناخية والحماية الاجتماعية مضامين العديد من استقراءات الرأي والاحصائيات، لجس نبض الناخب الأوروبي الذي اختلفت تراتبية اهتماماته من دولة إلى أخرى. في استقراء للرأي أعده “الأوروبارومتر” في أبريل 2018 شمل أكثر من 27 ألف مواطن أوروبي من 28 دولة، جاءت الهجرة في قمة ترتيب اهتمامات الناخب الإيطالي بنسبة 66 في المائة، في حين احتل العمل وسوق الشغل أساس اهتمامات الناخب اليوناني بنسبة 81 في المائة، بينما كان الإرهاب بالنسبة لفرنسا أولى الاهتمامات بنسبة 60 في المائة. أما دول أوروبا الشمالية وهولندا فقد جاءت ملفات البيئة والمتغيرات المناخية على رأس مشاغل ناخبيها بنسبة 55 في المائة، وأيضا في الدنمارك وفينلاندا بنسبة 55 في المائة… احتمال إعادة السيناريو الإسباني على المستوى الأوروبي لكننا تعتقد أن انتخابات إسبانيا ليوم 28 أبريل يُمكنها أن تشكل بالفعل صورة تقريبية لما يمكن أن يكون عليه الأمر في الانتخابات الأوروبية. فانتخابات إسبانيا رسخت واقعا سياسيا غير مستقر، حيث أفرزت نتائجها عن فوز الحزب الاشتراكي ولكن دون أغلبية عددية مريحة تضمن له تكوين حكومة دون تحالفات سياسية اضطرارية مع أحزاب لا تشترك معها نفس الأولويات السياسية؛ كما أفرزت نفس الانتخابات عن صعود لافت لحزب فوكس اليميني المتطرف ودخوله لأول مرة إلى البرلمان الإسباني، مما يجعل منه ضيفا ثقيلا وغير مرغوب فيه من طرف جل الأحزاب الإسبانية، لكنه مرحب به من طرف الأحزاب اليمينية الأوروبية الأخرى في إيطالياوألمانياوفرنسا وهولندا والدنمارك والسويد ودول الفيسغراد والنمسا في إطار تحالف سياسي و أيديولوجي كبير يستعد لاختراق مؤسسات الاتحاد الأوروبي والمنظمات واللجان الأوروبية الفاعلة في مجالات الاقتصاد والسياسة والقضاء وحقوق الإنسان و غيرها. وكما هو الحال مع حزب فوكس الإسباني، الذي فرح كثيرا بالمقاعد ال24 المحصل عليها في تشريعيات 28 أبريل، تستغل أحزاب اليمين المتطرف كل الممرات الفارغة وتهتف لكل تقدم انتخابي ولو كان طفيفا و تعتبره انتصارا كبيرا؛ إلا أن نقطة الضوء التي كشفت عنها نتائج انتخابات إسبانيا، وقبلها بأسبوع انتخابات فينلاندا، وقبلهما الدور الأول لرئاسيات سلوفاكيا في مارس 2019 (مع سوزانا كابوتوفا التي حصلت على هي مؤشرات صحوة جديدة لليسار الأوروبي وللتيار الوحدوي الأوروبي، الذي استطاع تعبئة الناخبين في مواجهة الشعبوية واليمين المطرف، كما استطاع زعزعة عنصر الثقة والتقدم لدى أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية، وأعاد بعض الدفئ للتيار الوحدوي الأوروبي الذي تتزعمه أنجيلا ميركل و إيمانويل ماكرون. اليمين المتطرف يلعب أوراق الخوف والواضح أن عنصر الإثارة هو ما يطبع مسار انتخابات ماي الأوروبية. وما يزيد من إثارتها هي خصوصيات الأوضاع الداخلية لدى بلدان الاتحاد الأوروبي، والتي تتسم عموما بعدم الاستقرار سواء على مستوى الحكومات، أو على مستوى المجتمع وما تشهده بعض الدول من احتجاجات حول اختيارات سياسية في مجالات الهجرة والاقتصاد، أو اختيارات استراتيجية كالانضمام الفردي إلى مبادرة طريق الحرير الصينية والعلاقات الثنائية التي اختارت بعض الدول إقامتها خارج الاتحاد الأوروبي سواء مع الصين أو الولاياتالمتحدة؛ بل وحتى وضع بريطانيا في الانتخابات الأوروبية يطرح إشكال المشاركة البريطانية في هذه الانتخابات بعد تعثُر مسلسل البريكسيت منذ يونيو 2016، والعودة المفاجئة لفراج ناجيل مهندس البريكسيت لتأسيس حزب جديد يحمل نفس الاسم ليدخل به غمار الانتخابات الأوروبية ويُعزز من جديد المحور الأوروبي لليمين المتطرف… وعلى العموم فلا يُمكن التكهن بصفة دقيقة حول مألات أو نتائج انتخابات ماي القادم، بالنظر لمُلتغيرات العديدة التي تقع في اللحظات الأخيرة، لكننا أصبحنا من خلال التتبع المستمر لتفاصيل الوضع الأوروبي ماهية التقنيات التي يوظفها اليمين المتطرف، وطبيعة رأسماله الانتخابي الوحيد أي إنتاج الخوف والكراهية، والاعتماد في هذا الإطار على ملفات مُحددة هي الإرهاب والإسلاموفوبيا ومعدلات الجريمة والأخبار الزائفة. إلا أنه يبقى من الضروري التنبيه إلى “متلازمة انتخابية” جديدة، تتمثل في استغلال اليمين المتطرف لموجات الهجرة الجماعية أو صدور تقارير عن الجريمة، خاصة المترتبة عن العنف والاغتصاب والمخدرات والتحرشالجنسي قبيل الانتخابات، من أجل شحن مدفعيته ضد الأجانب وتخويف الناخبين وهو ما حدث بالفعل في أكثر من مرة في ألمانيا والسويد والدنمارك والنمسا. كما أن الأحداث الإرهابية التي تتزامن أو تسبق عمليات انتخابية في أوروبا يتم استغلالها سياسيا مثلما حدث في هجومي كولون وبرلين في ألمانيا، وهجمات باريس ونيس وستراسبورغ في فرنسا، وأيضا حادث ملعب مانشستر ولندن في بريطانيا، وخلال الهجوم على مطار بروكسيل وساحة برشلونة… أكثر من هذا فإن جميع الأحداث الإرهابية ذات الخلفية الدينية حتى خارج الفضاء الغربي والأوروبي لها تأثير كبير على نتائج الانتخابات الأوروبية والدول الغربية، كأحداث تركيا ومصر وتونس وكينيا… لذلك نتمنى ألا تُسفر أزمة ليبيا الحالية عن أزمة إنسانية تدفع بموجة جديدة من الليبيين إلى هجرة جماعية نحو شواطيء أوروبا، والتي من شأنها أن تقلب موازين نتائج انتخابات ماي 2019 لصالح قوى اليمين المتطرف والتي تجعل من قضايا الإرهاب والهجرة والإسلام “خُبْزها” السياسي اليومي.