"المسؤول القضائي حضرات السيدات والسادة هو عصب الحياة في المحاكم ومحور سيرها، إذ حوله تدور كل ذراتها. فهو بمثابة صاحب مقاولة إنتاج في زمن الحرب، أو ربان سفينة في أعالي البحار تتقاذفها الأمواج"، هكذا خاطب محمد عبد النباوي، الرئيس الأول لمحكمة النقض، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية المسؤولين القضائيين بمختلف محاكم المملكة، في لقاء جمعه بهم، اليوم الخميس بالرباط، والذي حضره أيضا كل من الحسن الداكي، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة، ومحمد بنعبد القادر، وزير العدل. وأضاف عبد النباوي، أنه "إذا نجح رئيس المقاولة ازداد إنتاجها وعلت قيمتها وغطت منتجاتها احتياجات الناس وإذا كان ربان السفينة ماهرا في قيادتها تخطى بها الأمواج العاتية وأرساها في البر الآمن بما حملت من بشر ومتاع. وإذا أجاد المسؤول القضائي تسيير محكمته، أعطى للناس اطمئنانا على حقوقهم وأملا في قضاء بلادهم، وثقة في المحاكم، تساعد كل مبادرات التنمية التي تنهجها الدولة على التطور والازدهار". واعتبر عبد النباوي المسؤول القضائي "قيمة قضائية عظمى تتقاطع فيها قيم العدالة الفضلى، وكفاءات التدبير الإداري المثلى"، واصفا إياه ب"الأستاذ في علوم القضاء المتملك لتقنيات القانون، يغدقها على مرؤوسيه ومساعديه"، وزاد "بل على المحيط الذي يمارس فيه". وواصل عبد النباوي حديثه مثنيا على المسؤول القضائي قائلا "هو رمز الخلق القضائي يجسد كرامة المهنة ووقارها، ويمثل القدوة والنموذج في الأخلاقيات بسلوكه الجدير برمز قضائي يحتدى به من قبل من حولَه. وهو الشجرة الوارفة الظِّلال التي يستطل بِظلها في التجربة والخبرة وحسن المشورة وسداد الرأي. كما أنه المدبر الإداري القادر على حل الأزمات وفظ النزاعات وتسوية الخلافات، بما يمتلكه من حسن إصْغاء وقرب من الناس حتى في بعده عنهم. فهو يحس بهم ويحسون بوجوده بينهم دون أن يختلط بهم أو يندمج معهم". وتابع "فهي مسافات تقاس بالإحساس وليس بالأرقام، يحس فيها القضاة والموظفون والمهنيون ومرتادو المحاكم بمختلف مشاربهم أن المسؤول أب لهم يرعاهم ويسهر على راحتهم ويدبر مصالحهم العامة ويراعي احتياجاتهم الخاصة، وأنه حاضر لسماع شكواهم وحل الإشكاليات التي تعترضهم، فيتولد لديهم إحساس بقبول ملاحظاته كتوجيهات، ينفذونها برغبة أكثر مما يحسون بها أوامر ينفذونها وهم كارهون". ويرى عبد النباوي أن المسؤول القضائي الناجح "قادر على تكوين مساعديه الذين يحتاجون لتكوين. وقادر على تعديل سلوك من سلوكه غير مستقيم، وقادر على ضبط أداء محكمته ومحاكم دائرته إذا فرض نظاماً للتسيير ونظاماً للمراقبة"، كما أنه "قادر على صنع الخلف وإنتاج البذور الصالحة التي تملأ فضاء العدالة في المستقبل وترفع من وثيرة أدائها". وشدد على أنه لا يمكن للمسؤول القضائي أن ينجح في مهامه "إذا لم تكن له لوحة قيادة تضبط خطوات طريقه، وتبين الأهداف والمؤشرات التي يقاس به خط سيره"، وزاد لافتا إلى أن "الوقت لم يعد ملائما لمسؤولين لا يضعون أهدافا لعملهم ولا يرسمون معايير لقياس أدائهم". عبد النباوي الذي شبه المسؤول القضائي برئيس المقاولة أو قائد السفينة، نبه إلى أن هذا الاخير "لن يكون ناجحاًفي مهمته إذا أغمض عينه وترك المخربين يحطمون أدوات الإنتاج أو يسرقون منتوجات المقاولة أو يحدثون ثقوبا في السفينة أو يتلفون قوارب النجاة". كما شدد على أن المسؤول القضائي "لا حظَّ له في النجاح إذا لم يواجه الفساد بصرامة قوية وإرادة صلبة وعزم لا يلين"، مبرزا أن دوره "الذي يعلو على كل أدواره الأخرى، هو نشر قيم النزاهة والاستقامة وحماية استقلال القضاء وحياد القضاة وتجردهم". واستطرد عبد النباوي قائلا إن "المجلس الذي يسعى إلى تقوية دور المسؤول القضائي، باعتباره المؤطر المهني، ومستشار الأخلاقيات، والمسؤول عن حسن أداء المحاكم والقيِّم على إدارتها، يسعى كذلك إلى ضبط أكثر لاختياراته للمسؤولين القضائيين، عن طريق تأطيرها بالمعايير القانونية والواقعية وإسنادها لمن يستحقها على أساس وضع الإطار المناسب في المكان المناسب". وتعهد الرئيس الأول لمحكمة النقض، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ب"جعل المسؤولية ميثاقا وتعاقدا على الوفاء بالبرنامج الذي يقدمه المترشح للمسؤولية يقاس على أساسه نجاحه أو إخفاقه في مهمته"، مبرزا أنه "لذلك فإنه مطلوب منكم تحديد برامج عملكم وترتيب أولوياتكم في مختلف مجالات عملكم، والسعي إلى تحقيقها وفقا لمؤشرات النجاح، فربط المسؤولية بالمحاسبة يقتضي محاسبة الذات أولاً، ومحاسبة كل مسؤول عما عهد به إليه ثانيا". وفي هذا السياق، أبرز عبد النباوي أن "المسؤولية تقتضي الحضور المتواصل بمكان العمل لتتبع الأشغال والإشراف على مرافق المحكمة وفتح الأبواب أمام المتقاضين والاستماع للمساعدين والتدخل الآني والمباشر، كلما اقتضى الحال ذلك"، وأضاف مخاطبا المسؤولين القضائيين "النظام القضائي يحتاج إلى جهودكم وإشرافكم المستمر على مرافق محاكمكم بما يلزم من الحزم والحرص، وإن اقتضى الحال بقبضة حديدية عليها قفاز من حرير". وأوصى عبد النباوي القاضي ب"التحري عن الحقائق والبحث عنها والحكم عليها بميزان العدل والنطق بها بلغة القانون"، موردا أن لأحكام القضائية يجب أن تصدر "بعد درس وتحر وبحث، وعن فقه وعِلم واجتهاد، وليس باستخفاف وعدم عناية، أو بدون اهتمام أو دون تحقق أو درس عميق". وزاد موصيا أن "الأحكام يجب أن تجيب على كل الدفوع وترد على الطلبات وتناقش كل الوسائل. ويتعين أن توفر حيثياتها أجوبة على تساؤلات المنتقدين والدارسين، بالإضافة إلى دفوعات الأطراف المعنيين. وتكون مستندة لنصوص القانون وللاجتهادات المستقرة، وتعكس منطق الإنصاف ومبدأ العدل، وأن تصدر في وقت معقول وأن تنفذ في زمن ملائم".