ب القرن العشرون وبدايات الاحتراف الموسيقي تقول الناقدة الموسيقية عواطف عبد الكريم : عالم الإبداع الموسيقي هو عالم الرجال.. حاولت المرأة ارتياده مثلما ارتادت من قبل مجموعة من المجالات المختلفة التي كانت قاصرة عليهم مثل الجراحة والهندسة والطيران وعلوم الفضاء وكانت المحاولات الإبداعية الأولى للمرأة، محاولات فردية ضئيلة العدد والأثر، ولكنها أفلحت مؤخرا وخلال القرن العشرين في فرض وجودها كمبدعة موسيقية، وإن ظل عدد المبدعات ضئيلا جدا مقارنا بعدد من المبدعين الرجال على مستوى العالم. بتأملنا قولة عواطف عبد الكريم نلاحظ أنها تلخص بعمق الإشكال الحقيقي لعالم الإبداع الموسيقي عند المرأة وعلاقته بالتاريخ. وإذا كانت عواطف عبد الكريم قد أصدرت حكما نقديا يتسم بالعالمية، فصورة هذا الموقف تتجسد عند موسيقيات تطوان أيضا. إن من يتتبع تاريخ الإبداع الموسيقي عند المرأة التطوانية سيلاحظ حتما أنها ظلت في الهامش، وفي الخفاء، ولم تر النور إلا في سنوات القرن العشرين وينبغي أن نشير إلى أن حب الموسيقى ظل ملازما للمرأة التطوانية وإن اختلفت الظروف والسياقات. كما ينبغي أن نسجل أن سمة «الغياب» ظلت مستمرة نسبيا في النصف الأول من هذا القرن مع خفوت حدتها وإصرار التطوانيات في تكوين مدرستهن الموسيقية الخاصة في هذه المرحلة التاريخية الحديثة التي عرفت الاستعمار وفترة الحماية الإسبانية بشمال المغرب كانت سيدات البيوت في تطوان كن جميعا وبدون استثناء – المتعلمات منهن والأميات – يحفظن الأناشيد الوطنية، التي كانت تنظم وتلحن من طرف رجال الحركة الوطنية آنذاك، كما كن يلقنها للأطفال الصغار الذين كانوا يتغنون بها في كل حين، مما جعلهم يتغذون بروح الحماس والحس الوطني منذ نعومة أظفارهم. ويبدو في هذه القولة التفات التطوانيات إلى نوع غنائي جديد هو الأغنية الوطنية، كما يبدو استمرار اهتمامهن الموسيقي المنحصر في بيتهن وتلقين هذه الأغاني لأولادهن. وينبغي أن نقول إن هذه المرحلة لم يكن فيها المجتمع محددا وحيدا لوضع المرأة الموسيقي المغيب، بل ساهمت فترة الحماية من جانب آخر في تكريس صورة المرأة هذه ولا بد أن نسجل في هذا الصدد أن المرحومة منانة الخراز كانت تلقن الفتيات في البيوت التطوانية الأناشيد الوطنية والحماسية وقد ضاق الاستعمار الإسباني من نشاطها فحكم عليها بالسجن والغرامة لولا تدخل سمو الخليفة السلطاني الأمير الحسن بن المهدي لإطلاق سراحها. لكن هذه الأوضاع التي جعلت المرأة تزاول أنشطتها الموسيقية في الخفاء أخذت تتلاشى. ولأن التطوانيات لم يشأن أن تبقى أنشطتهن داخل إطار محدود، حاولن الانفتاح، بل ألححن أن تظهر جهودهن الفنية إلى العالم. وقد كان عصر النهضة بصحفه ومسارحه الحديثة وفرقه الموسيقية الغربية التي توافدت إلى تطوان محفزا قويا ساعد المرأة في إعطاء بدايات حقيقية لحضورها الاحترافي على يد مجموعة من الأسماء التي رسخت اجتهاداتهن الموسيقية بين صفحات الموسيقى التطوانية. ولعل تاريخ الظهور هذا لا يتعلق بالمرأة التطوانية وحدها بل هو حالة وسمت جل الفئات النسائية عبر العالم. تقول في هذا الصدد عواطف عبد الكريم: لم يظهر إبداع المرأة الموسيقي بشكل واضح ومؤثر في المجتمع إلا خلال القرن العشرين وفي مجتمعات دون الأخرى بدأ بمحاولات ودية متناثرة ». نفس الحكم النقدي يمكن أن نطبقه على الممارسات الموسيقية للمرأة التطوانية، حيث برزت بعض محاولاتها الفنية بشكل جلي خلال القرن العشرين وبالضبط خلال فترة الاستقلال. ومن المعروف في هذا الصدد أن جوق العربي التمسماني (1920- 2001م) للموسيقى الأندلسية أول من آثر التجديد من خلال إدخال الصوت النسائي في الغناء بعدما كان مقتصرا على صوت الرجال وأدائهم أما أول صوت نسائى أدخله هو للفنانة السيدة الزهرة أبطيو (1932) – 1992م)، عازفة الكمان التي كانت تتناوب أحيانا في غناء الصنائع مع الفنان عبد الصادق اشقارة وأحيانا كانت تغني بمفردها». كما أن المرحوم العربي التمسماني عمل على تكوين كورو بأصوات رجالية ونسائية من طالبات وطلبة المعهد ». وفي ظل هذه الأجواء الفنية المحفزة صنفت منانة الخراز أول امرأة في تاريخ الموسيقى الأندلسية وعلى المستوى الوطني تلج ميدان الفن والغناء وإقامة الأفراح والمناسبات الأخرى الخاصة بالنساء، وأول امرأة دخلت المعهد الموسيقي بتطوان وأخذت قسطا من الموسيقى الأندلسية. كما أسست عالية المجاهد أول جوق نسائي خاص بها سنة 1961، واعتبرت عشوشة الناصرية (توفيت سنة 2010م) أول عازفة على آلة الكمان في تاريخ المغرب الحديث إضافة إلى عديد من الموسيقيات اللواتي تميزن بأصواتهن وبأجواقهن وبكل مواهبهن وإبداعاتهن الموسيقية. وفي سياق هذه الحركة الموسيقية المتجهة نحو الانفتاح، وإبراز اجتهادات الموسيقيات التطوانيات بشكل أوضح، حفظت ذاكرة أهالي الحمامة البيضاء أسماء عدد من الموسيقات للواتي تميزن في هذه الفترة. ونلمس في هذا الصدد اهتمام الباحثين وخاصة منهم التطوانيين بتسجيل أسماء الموسيقيات أو «الغنايات» في مؤلفاتهم. تتحدث الأستاذة حسناء داوود عن أقدم الفرق الغنائية منذ أوائل القرن العشرين ومنهم طيطم الكريرية التي كانت تعزف على العود، مع رفيقاتها (عايشة الحضري) التي كانت توقع الدف، و(فاطمة دمباركة) التي كانت توقع على الدربوكة، و(أمينة فرجي) التي كانت تضرب على الطار، وكذا فرقة المنشدة (أم كلثوم ملوكة التي كانت تضرب بالكف، ثم فرقة (فلوسة)، وكانت من المداحات اللاتي يحيين الليالي الدينية وغيرها ، ومن رفيقاتها (خدوج زيان) و (فاطمة الكنياري). وفرقة الشريفة (للا الزهرة البقالية)، المعروفة بللا (الزهرة اللا باني وكانت بدورها من صاحبات الحضرة والأمداح. وفرقة (رحمة الكندرة)، وهي من المداحات أيضاء". بينما سجل الأستاذ محمد الحبيب الخراز أسماء بعضا من المريدات اللواتي كن يترددن على جلسات الأمداح النسوية ومنهن زوجات بعض أعيان الزاوية مثل السيدة فاطمة غطيس، وقامة بايص، وعائشة بنشخطير، وعشوشة بن ادريس وفاطمة بنت ادريس والحاجة خدوجة الصردو، والحاجة خدوجة مزواق وعشوشة الغازي ورحمة ،ماوان وقامة ابن الأشهب وأم كلثوم شقور وأمينة بوزيان، وآمنة الإدريسي وغير هن ممن ولعت بفضاء المديح بتطوان. ولعل تدوين كل هذه الأسماء أن يشكل اعترافا بأدوار المرأة في تطوير موسيقى تطوان على اختلاف أنواعها ومقاصدها الفنية. يحق لنا أن نقول إذن إن نساء تطوان ناضلن من أجل ظهور فني حقيقي في وقت كان يفرض فيه على المرأة المكوث في منزلها، ويصعب فيه أن تظفر بكثير من حقوقها المسلوبة، في محاولات جريئة للانفلات من قيودها، والتحرر من سلطة النظام الأبوي، إلى معانقة سحر الفن والإبداع والموسيقى والملاحظ أن موسيقيات تطوان كن من عائلات موسيقية أو أزواجا لموسيقييين، الأمر الذي يجعل من الأسرة مدرسة فنية تخرجت منها مغنيات وعازفات وملحنات. فالشريفة للا السعدية الحراق تعلمت العود على يد زوجها الشريف أحمد اشقارة وعالية المجاهد كانت زوجة المرحوم الطود (1928 – 2007م)، أما منانة الخراز فزوجها المرحوم عبد السلام الصباح (1913 -1986م) الذي لقنها العزف على آلة العود، ووالدها الراحل محمد الخراز المولع بالإنشاد في الزاوية العيساوية. والملاحظ أيضا أنه بالإضافة إلى موهبتهن في الغناء والعزف المتقنين إبداعهن في نظم الشعر وفي تلحين الأغاني، غير أن جهودهن التأليفية هذه غير معروفة بين عموم الناس للأسف الشديد، وهي تحتاج إلى أبحاث لحفظها وإخراجها إلى النور. نختم الحديث عن الأجواء الفنية لموسيقى نساء تطوان في سنوات القرن العشرين بالقول إن الصورة الكلية لتلك المبدعات تنطق عن ولعهن ومزاولتهن لهذا الفن بشغف وحب عميقين. والحقيقة أنهن استطعن زحزحة سيادة الرجل الفنية وفرض كينونتهن الموسيقية. وبفضل اجتهاداتهن وأنشطتهن الغنائية المتواصلة ستعرف موسيقيات تطوان مراحل فنية مغايرة تميزت بانتشار هن الموسيقي الكاسح ومنافستهن الرجال خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين. عنوان الكتاب: المرأة التطوانية وإسهامها في البناء الحضاري والمعرفي الكاتب: كتاب جماعي الناشر: مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات (مفاد) بريس تطوان يتبع...