على نحو ما ارتبطت نشأة العلم بالقرآن الكريم في أقطار الإسلام المشرقية ارتبطت به كذلك في أقطار الإسلام المغربية، ومنها حاضرة سبتة التي شملها الفتح الإسلامي آخر القرن الهجري الأول ودخلها كتاب الله تعالى على يد ابن أبي زرعة. وسواء أصحت رواية أبي العباس العزفي عن شيخه أبي محمد الحجري إفراد أبي زرعة بشرف أولية نقل القرآن إلى سبتة أم شاركه في ذلك نفر من التابعين الذين رافقوا الفتح ووكلوا بتلقين القرآن الكريم أهل البلاد المفتوحة فإن أهل سبتة حفظوا لأبي زرعة هذا الجميل معبرين عنه باتخاذهم قبره مزارا يتبركون به حسب ما أورد محمد بن القاسم الأنصاري السبتي. ومهما يكن من أمر فمن الثابت أن نشأة العلوم بسبتة ارتبطت بوصول المصحف الشريف مع رجالات الفتح الإسلامي، ومن الثابت أن الحفظة منهم جلسوا يفتقون ألسنة المسلمين بآيات بينات من الذكر الحكيم، وأنه تخرج من حلق حفظهم جم غفير كان نواة لما عرفته سبتة من حركة علمية توالت عند أهلها بخدمة القرآن العظيم رواية وكتابة، وإقراء وتأليفا . ولم يزل وعي القائمين من أهل العلم على هذه الحركة يتنامى حتى ثبتت أصولها وتطاولت فروعها متمثلة في الكتاب الذي بدأ يعطي بواكير ثماره في غضون القرن الرابع يوم وصفت سبتة بكونها "دار علم" على حد قول عبد العزيز البكري. وفي هذا السياق نقدر أن سبتة إن لم تكن عرفت يومئذ خزائن علمية فمن المؤكد أنها عرفت للكتاب حراكا ورواجا يدفع بالمشتغلين بالدرس والتحصيل إلى البحث عن الكتب التي لها صلة بما ينتحلونه من العلومو يجيدونه من الفنون. وقد زاد من استقواء حركة الكتاب جملة عوامل كان لها أثر بعيد في تشكل الخزائن العلمية بسبتة وتنامي رصيدها العلمي وازدهاره. وأبرزها الرحلة إلى الحواضر العلمية بالمشرق والمغرب ينشدون طلب العلم ولقاء شيوخه والتزود من مؤلفاتهم ومصنفاتهم، ويعودون من رحلتهم وقد حملوا معهم ما تيسر لهم من كتب شكلت أهم الروافد العلمية لحلق الشيوخ وخزائنهم. ونذكر منهم على سبيل التمثيل عبد الرحيم بن أحمد الكتامي الذي رحل في الثمانين وثلاثمائة إلى القيروان، ولازم الفقيه أبا محمد بن أبي زيد القيرواني وسمع منه كتبه النوادر والمختصر) وجاء بهما وبغيرهما من مؤلفات ابن أبي زيد ومخطوطات أخرى إلى سبتة. ومنهم أبو الحسن الشاري الذي رحل في طلب المؤلفات والدواوين واقتنى منها شيئا عظيما، ونافس فيها وغالي في أثمانها، وكانت حصيلة هذه العناية الفائقة بالكتاب جمعه أصولا عتيقة ومؤلفات عظيمة أغنى بها رصيد مكتبته المحبسة على أهل العلم وأكسبها سمعة علمية قرونا متوالية . ومنهم القاسم التجيبي الذي ذكر في رحلته (مستفاد الرحلة والاغتراب) العدد الكتب التي درسها ورواها في مختلف الحلقات والمجالس بمختلف الأمصار والأقطار، ومنها كتب القراءات والتفاسير وعلوم القرآن إلى علوم أخرى شملت الفقه والأصول والفرائض، والنحو واللغة والأدب وغيرها. وإلى جانب الرحلة أسهم طائفة من الوراقين المشهورين ببراعة الخط أمثال أبي عبد الله بن هاني اللخمي الشهيد، وأبي عبد الله الزرعي الجدميوي السبتي وغيرهما في تمكين شيوخ العلم من المؤلفات والمصنفات التي ازدهرت بما حلقهم ورفوف خزائنهم العلمية كما اهتمت طائفة من الكتبيين بنشر الكتاب وإذاعته بين أوساط أهل العلم من شيوخ وطلاب. فإذا أضفنا إلى هذا وذاك اشتغال العلماء بالتصنيف والتأليف والتقييد في غير مجال ومنها محال علوم القرآن مما كانت حصيلته نشأة خزائن علمية ما زالت تتكاثر حتى عدت في القرن الثامن بالعشرات. ونكتفي بالتمثيل لها بنماذج خاصة وأخرى عامة. أما الخاصة فنذكر منها خزانة عبد الرحيم بن أحمد الكتامي جمعها من المغرب ومما جلبه من الأندلس وإفريقية كما أفاد ابن فرحون والأنصاري، وخزانة عبد المهيمن الحضرمي وكانت تحتوي على أزيد من ثلاثة آلاف سفر كلها مقابلة مضبوطة، وخزانة الفقيه الزاهد أبي عبد الله محمد بن عبد الله الأموي شيخ سبتة وقاضيها ومفتيها. الكتاب: السنة النبوية في سبتة العالمة الكاتب: أ.د. حسن الوراكلي: أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة وجامعة عبد المالك السعدي بتطوان (بريس تطوان) يتبع..