وقال الحاج عبد الله بن الصباح المدجن (-بعد 1347م/750ه): «ثم وصلنا إلى مدينة سبتة في البر المتصل بملك بني مرين المتسع المبارك بالخصب والاتساع وكثرة الحرث والنسل والانتفاع. وعلى مدينة سبتة جبال عامرة وأهلها من ذرية حمير الأحرار فيهم الكرم الكثير والإيثار والشجاعة والبراعة، وجبالهم كثيرة العنب والثمار، خصهم الله بالضياف والخطار، في كل مسجد قصاع اللحم بالثريد من خبز الحنطة مع الإبزار، مدينة سبتة كأنها حاضرة من حضار الأندلس في الكسوة واللباس والسيرة والعادة، ومن لم أر من يقيم الجمعة مثل الأندلس كأهل سبتة وأحوازها يقيمونها عيدا وموسما كبيرا كما تأمر السنة الواجبة في حق الجمعة التي جعلها الله عيدا للمسلمين في هذه الأمة. ولم أر في جميع البلاد من يقيم الجمعة ويزينها مثل الأندلس وسبتة. سبتة مدينة الناس الأخيار وأظرف الحضر نظاف الأثواب وخير أولي الألباب، تمشي في أسواق النحاس الاصفر الذي يضيء مثل الذهب، وثم رجال وعتاد وشبان ورماة ومرسى وفرجات في البحر ومنازه وعلالي وعلماء وقراء ومساجد ومزارات كأنها الأندلس الصغيرة في هوائها وطباع أهلها أندلسية؛ الرجال والحريم واللباس والاعياد والمواسم مثل الأندلس حرسها الله». وقال لسان الدين ابن الخطيب (776-713ه/1374-1313م) في سبتة وبليونش: «عروس المجلى، وثنية الصباح الأجلى، تبرجت تبرج العقيلة، ونظرت وجهها من البحر في المرآة الصقيلة، واختص ميزان حسناتها بالأعمال الثقيلة. وإذا قامت بيض أسوارها مقام سوارها، وكان جبل بليونش شمامة أزهارها، والمنارة منازة شوارها، كيف لا ترغب النفوس في جوارها، وتخيم الخواطر بين أنجادها وأغوارها. إلى المينا الفلكية، والمراسي الفلكية، والركية الزكية، غير المترورة ولا البكية، ذات الوقود الجزل، المعد للأزل، والقصور المقصورة على الجد والهزل، والوجوه الزهر الشحن، المضنون هما عن المحن. دار الناشبة، والحامية المضرمة للحرب المناشبة، والأسطول المرهوب، المحذور الألهوب، والسلاح المكتوب المحسوب، والأثر المعروف المنسوب. كرسى الأمراء والأشراف، والوسيطة، لخامس أقاليم البسيطة، فلا حظ لها في الانحراف، بصرة علوم اللسان، وصنعاء الحلل الحسان، وثمرة امتثال قوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان». الأمينة على الاختزان، القويمة المكيال والميزان، محشر أنواع الحيتان، ومحط قوافل العصير والحرير والكتان، وكفاها السكني ببليونش في فصول الزمان، ووجود المساكن النبيهة بأرخص الألمان. والمدفن المرحوم غير المزحوم، وخزانة كتب العلوم، والآثار المنبئة عن أصالة الحلوم، إلا أنها فاغرة أفواه الجيوب للغيث المصبوب، عرضة للرياح ذات الهبوب، عديمة الحرث فقيرة من الحبوب، ثغر تنبو فيه المضاجع بالجنوب. وناهيك بحسنة تعد من الذنوب، فأحوال أهلها رقيقة، وتكلفهم ظاهر مهما عرضت وليمة أو عقيقة، واقتصادهم لا تلتبس منه طريقة، وأنساب نفقاتهم في تقدير الأرزاق عريقة، فهم يمصون البلالة مص المحاجم، ويجعلون الخبز في الولائم بعدد الجماجم، وفتنتهم ببلدهم فتنة الواحم، بالبشير الهاجم، وراعي الجديب بالمطر الساجم، فلا يفضلون على مدينتهم مدينة، الشك عندي في مكة والمدينة». ومما قاله فيها شعرا: الله بليونش تحكي منازلها *** كواكبا أشرقت في جنح ظلماء صح النسيم فما يعتل من أحد *** إلا النسيم وما يرتاع من داء ومن كرامتها أن الشمال إذا *** رامت زيارتها تمشي على الماء. وله أيضا: دعانا إلى بليونش وهي جنة *** شريف تولّى الله تطهير مجده فأذكرنا مثواه بالجنة التي *** وعدنا لها والله منجز وعده نعيماً وريحاناً وروحاً وكلما *** يعد لمن حاباه سابق وعده فقلنا ظفرنا اليوم من أجل أحمد *** بهذي، ونرجو تلك من أجل جده ومن بديع نظم ابن الخطيب فيها: بليونش أسنى الأماكن رفعة *** وأجل أرض الله طرا شانا هي جنة الدنيا التي من حلها *** نال الرضا والروح والريحانا قالوا: القرود بها. فقلتُ: فضيلة *** حيوانها قد قارب الإنسانا وقال الشريف أبو العباس الحسيني (696 ه تقريبا-1374/5776-1296م) وأمر بنقشه بالقبة الكبيرة في بستانه المشهور بجنة الحافة: وثقت بالله ربي *** وحسبي الله حسبي والله كاف وواق *** ودافع كل خطب ولست أخشى إذا ما *** وثقت بالله ربي بلغت فيها مرادي *** مهنأ مع صحبي والخميس تفقأ عينا *** لكل حاسد ندب وقال الإمام القاضي أبو محمد، عبد الله بن حاتم بن البنا المالقي رحمه الله، وهو من أعمام الإمام القاضي ابن العددي المراكشي، من موشحة يمدح القرية البليونشية: عند جبل موسى *** حط الرحل يا راحل تجتلي ذاك عروسا *** أقعدت على الساحل كم دعت رؤوسا *** لمحلها الحافل. الكتاب: سبتة وبليونش "دراسة في التاريخ والحضارة" للمؤلف: د. عدنان أجانة منشورات تطاون أسمير/ الجمعية المغربية للدراسات الأندلسية (بريس تطوان) يتبع...