يضم هذا العمل دراسات في أنواع من النصوص الأدبية، من منظور معرفي حديث: الخطاب الأخباري، والخطاب التاريخي، والخطاب الترجمي، وخطاب السّيرة الذاتية، والخطاب الرّحلي، والخطاب الديني، والخطاب السياسي، إلخ. وباستثناء الخطاب الديني والخطاب السياسيّ اللذين −وإن كانا يخبران بدورهما، ويرويان بطريقتهما الخاصة أيضا− لا ينحصر هدفهما في دائرة الإخبار بالمفهوم المعهود بل في دائرة الإقناع الجمهوري، فإن الخطابات الأخرى يمكن إرجاعها إلى نمط واحد من الخطاب يشبع الفضول الإنسانيّ الطبيعي إلى التواصل والمعرفة، ألا وهو ''الخطاب الإخباريّ‘‘. وليس ذلك غريبا على موضوع هذا الكتاب، عندما نعلم أن الإشكال المعرفي الأساس الذي يتصدّى له –من الفصل الأول إلى الفصل العاشر والأخير− إنما يقع أصلا في صميم هذا النمط من الخطابات بالذات دون غيره: أي العلاقة بين العيان والخبر، بنية ووظيفة. بيد أن هذا العمل لا يروم مقاربة هذا النمط الثقافي السّائد من زاوية منهاجية حديثة فحسب، وإنما هو بالأحرى محاولة في حفريات المعرفة الإنسانية تنطلق من جنس إخباري عربي عريق، أي السّيرة النبوية؛ ومحاولة تجتهد لمعرفة المبدأ المحرّك الخفيّ والفعّال الذي يقوم عليه كل خطاب لغويّ لا ينتهي هدفه التواصلي بإحداث الأثر المؤثر في المُستمَع لحظة التلفظ ولا تنطفئ جذوته الدلالية بإيجاد السبيل المقنع إلى قلب المتلقي وعقله في السياق الزمني والمكاني المحدّد للحديث والخبر أو الخطابة والإقناع، وإنما يستمر في إنتاج آثار المعنى داخل النسيج النصيّ ورشح الشكل (البسيط أو المعقد) بالدلالة بعد السّياق الأول للكلام والحكاية: أي الناظم السرديّ. هذا الناظم يعمل في كل الثقافات والآداب والفنون بأشكال وصور وألوان متنوعة لإنتاج معارف إنسانية مختلفة تنتج إمّا عن الاحتكاك (أو الاصطدام) بالواقع الموضوعي المتغير دوما (ظواهر الكون العظيم، مجال الأحداث والمتغيرات، جدلية العالم المادي، إلخ) أو الرجوع إلى قناعات الذات الثابتة والنكوص إلى مستحبات الكون الأليف (هوية الفرد والجماعة، صور الأنا والآخر في مرايا التفاعل الاجتماعي المتقابلة، عادات الشخص الحميمة وإرث العائلة الصغيرة، أمثولة العشيرة أو أسطورة القبيلة الحاضنة، إلخ)، وتتناسل من الجدلية السيميائية القائمة بين العيان والخبر، وتتطوّر حسب حاجات الحضارات والأمم والشعوب إلى أنواع من الخبرة والمحاكاة والنقل. *** ما يميز إذا الناظم السرديّ، في الواقع، ليس الجمع بين الجمل السردية المتباينة في النصّ الإخباريّ من المبتدأ إلى المنتهى في صيرورة منطقية فحسب، وإنما أيضا وخصوصا، كما أشار آرثور دانتو، الربط بين طرفي العملية الإدراكية والتفسيرية في الملفوظ السرديّ: * أ) يحوّل العيان (المُشاهَد) إلى ملفوظ أو مجموعة من الملفوظات السردية المترابطة (خبر)؛ * ب) وعندما يربط الخبر بمبدأ احتمال الصدق والكذب، فإنه يضع ناقل الرواية بين خيارين: * إمّا أن يتحقّق ويتأكد −في ''عالم التجربة‘‘ كما صنع البيروني في تحقيقه ببلاد الهند وجون ديوي في تنقيبه عن فلسفة الشارع أو في ''عالم الممكن والمحتمل‘‘ مثلما فعل ابن إسحاق والجاحظ بعد بيدبا والمعلم الأول− من الخبر والمُخبِر، ثم يعلق على الخبر بما يؤكّده أو ينفيه، ويربطه بسياق وأسباب وشروط، فيكون مُحقِّقا مدققا (محدّثا، مؤرّخا، عالما، منقّبا، مفتّشا، طالبا للعلم، إلخ)؛ * وإمّا أن يردّد الخبر على مرّ الأيام ويرويه على مدى السنين كما سمعه وقيّده، فيكون مجرّد راوٍ أو ناقل يؤكد ما يجهله وينفي ما لم يألف امتحانه على محك التجربة والمعاناة (حافظا جامعا، قصّاصا بكاءً، خطيبا مُحاجِجاً، مكرّرا للخبر أو مترجما لمعانيه السطحية، إلخ). * الأوّل، يفحص الرواية، لأن التجربة والمعاناة علمتاه اللجوء إلى العيان وضرورة الشك في المسموع والرّائج؛ يبحث عن أجزاء الحقيقة في المرويّ والمنصوص قدر الاستطاعة والإمكان، ويحذر من الميل العفوي نحو الأشياء وأشباه الأشياء وصورها الجاهزة والمرغوبة التي تسرّبها المألوفات وتسهلها الأهواء والشائعات والدعايات؛ يَتعلّم التأمّل ويُعلّم التفكير، ويترك للناس بعد ذلك الحرية في قبول الروايات أو رفضها. لذلك كله، يحاول هذا أن يعالج جوهر التجربة التي يحكيها الخبر على ضوء الواقع الموضوعي في عصره وفضائه؛ لا يهتم بما بين الخبر والعيان من اتصال أو انفصال نقليين أو منطقيين فحسب، وإنما ينظر فيما وراء العيان والخبر من مفاهيم وحقائق أو مغالطات وتمويهات؛ وفي هذا المسعى الإدراكي، يروم الإصلاح والتجديد اللذين تمليهما غريزة البقاء، ويدفع إليهما الإيمان الصحيح أو الحسّ السليم، ويذكيهما العقل المكتسب في مسارات الوجود. * أما الثاني، لا يتعلّم ويُعلّم، بل يحفظ ويكرّر ويلقّن، يرجو من تكرار الرواية تصديق الآخرين بصور الذات وتهيّؤاتها وقناعات الجماعة وأفكارها المتوارثة دون شرط أو تحيين للمعطيات البصرية والحسّية، لا يهمه في نهاية المطاف إلا جمع الحشود بالضرب على الوتر العاطفي، وكسب التأييد الجماهيري السّريع باللفظ المتضخم أو الكلام المغالط. ولهذا السبب بالذات، لا يقف هذا الأخير على الخبر إلا ليحفظه ويسرده ويمليه ويكرّره بلا فحص ولا سأم؛ وبسرده وإملائه وتكراره، يقرّره حقيقة نهائية لا تقبل النقاش والرأي المخالف، ويحاجج به الآخرين في كل مناسبة أو سياق، يؤكّد كل مرّة −لمن استمع له واستجاب له ووثق به− أن جميع المُخبرين أثبتوا سنده وصحّته ومنفعته، وبتأكيده للآخرين في مقامات الخطابة ومواسم الاحتفال والفرح أو جموع المآتم والأحزان يعرب عن إعجابه بالرّاوي القديم ويزداد اقتناعا بالخبر المرويّ. وتنتج عن هاذين الموقفين المختلفين من العيان والخبر، من التجربة والموروث، من العمل والكلام، عادات وممارسات تترسّخ في البيت والشارع والمؤسسة العمومية والفضاء العام والكون الخاص، عادات ثقافية وممارسات اجتماعية تغذو سلبية في التواصل الاجتماعي ومعطلة للنشاط المبدع حينما تحدّد −في سياق الكسل الفكري ومناخ التراجع والانكماش− الرؤية العامة للفرد الأنانيّ في الجماعة الخاملة وسلوكه اليومي النفعي من تسهيلات المعرفة المألوفة وموقفه النمطي من مستجدات الواقع الموضوعي. *** القسم الأول، من الكتاب، ''في الخطاب التاريخي‘‘، يعود −في فصليه الأوّلين− إلى رسالتنا للدكتوراه التي قدّمناها بفرنسا منذ أكثر من عقدين عن فصول من حياة النبي محمد في السّيرة النبوية من مصادرها العربية الأولى؛ بينما يرجع الفصلان الثالث والرابع إلى فضولنا التاريخي اللاّحق الذي نتج عن سلسلة من القراءات والمطالعات في أمهات المصادر العربية والغربية القديمة والحديثة ومجموعة من الحوارات واللّقاءات والندوات العلمية والأسفار داخل المغرب وخارجه. ويعالج القسم الثاني، ''في الترجمة للغير والسّيرة الذاتية‘‘، أجناسا وقضايا معرفية ومنهجية وأدبية لصيقة بما تناولته فصول القسم الأول المختلفة، مثل العلاقة بين العيان والخبر في النصّ الإخباريّ، وبعض أهم أنواعه المشتقة أو المنحدرة منه −شكلا وموضوعا− مثل الترجمة للغير، والرّحلة، وبعض أنواع الكتابة الاسترجاعية. بينما تطرّق القسم الثالث، ‘‘في الخطاب السياسي‘‘، إلى كيفية استثمار الخطاب الإقناعي للخبر من أجل إعادة بناء نموذج للواقع (السياسي) غير الواقع الفعلي، ليس بالضرورة بهدف المغالطة وتطويع الجمهور لسياسات غير ناجعة وقرارات غير شعبية، بل لطمأنة الرأي العام الهائج بعد الانتفاضات والثورات التي هدّدت الاستقرار الاجتماعي، وخلق التوازنات السياسية اللازمة، وإعادة ترتيب الأدوار والأوراق حماية للنظام القائم أو حفاظا على الدولة الناشئة وضمان استقلال البلد وحياده. أمّا القسم الرابع والأخير من هذا العمل، ''في الخطاب الرّحلي وفي الخطاب الديني‘‘، فقد درسنا فيه بعض صيرورات تشكل الهوية الثقافية المتغيرة في مسارات الخروج والعبور والمغامرة والهجرة والرّحلة والحج وطلب العلم خارج البلد المألوف. واخترنا لفحص التحولات الهوياتية المتواصلة التي تصاحب الفرد داخل جماعته أو خارجها نموذجين سرديين مختلفين زمنا ومكانا.