إن أفضل تعريف علمي للحضارة هو أنها "جملة الإنجازات الملموسة التي يقدمها مجتمع من المجتمعات خلال عهد معين، في شتى مظاهر الحياة من سياسية واجتماعية وعمرانية ودينية، نتيجة لتفاعل أبناء هذا المجتمع مع البيئة التي يعيشون فيها بشكل جيد". أي أن عناصر الحضارة الرئيسية هي: "البيئة الملائمة، والإنسان، والحياة الاجتماعية". وكلمة "حضارة" مشتقة في اللغة العربية من "الحضر" – وهم سكان المدن والقصبات بعكس البدو الذين هم سكان الصحراء. ونجد الكلمة في اللغة اللاتينية مشتقة من نفس المفهوم تقريبا، حيث أن كلمة "Civilisation" الفرنسية وكلمة Civilization الإنجليزية مشتقتان من كلمة Civitas اللاتينية ومعناها "مدينة". ومن هنا نستنتج أن مفهوم الحضارة مرتبط بظهور مجتمعات المدن الأولى، صغرت المدينة أو كبرت، دخلت في نطاق دولة متحدة أم لم تدخل، ولذلك لا نرى بأسا من قبول كلمة "تمدن" أو "مدنية" كمرادف لكلمة حضارة خاصة وأن بعض مؤرخينا القدامى قد استخدموها بهذا المعنى (جرجي زيدان في "تاريخ التمدن الإسلامي" مثلا). هذا مع العلم أن بعض مؤرخي الحضارة وفلاسفة التاريخ يرون – على العكس – انه هناك فارق بين كلمة "حضارة" وكلمة "مدنية" حيث ان المدنية – في رأيهم – هي "الحضارة بعد أن تجف وتتحجر وتتوقف عن العطاء والإبداع". ونحن من جهتنا إذا كنا لا نفرق بين كلمتي "الحضارة" و "المدنية" فيجب أن نفرق بين "الحضارة" و "الثقافة" حيث ان الثقافة هي الجانب المعنوي – الروحي والعلمي – النظري من الحضارة التي تشمل الجانبين المادي والمعنوي معا. وعلى هذا فالعلاقة بين الكلمتين ليست علاقة ترادف وإنما علاقة شامل ومشمول بحيث نجد كلمة "حضارة" تشمل كلمة "ثقافة" والعكس غير صحيح. وأول خلايا المجتمعات الإنسانية كانت هي "الأسرة" أو "العائلة" بلا ريب. وفي عصور التاريخ الأولى كانت الأسرة مستقلة بذاتها تماما. حيث كان الأخ يتزوج بأخته، ثم أصبح يتزوج بأخته غير الشقيقة، ثم لما اكتشفت الأسرة وجود أسر أخرى مجاورة لها دفع هذا الأسر للتزاوج بين بعضها، ومن هنا نشأت العشيرة. فالعشيرة هي – والحالة هذه – جملة أسر تترابط فيما بينها برباط الدم عن طريق المصاهرة والزواج. ثم حدث أن بدأت بعض العشائر تتجمع إلى بعضها وتتحد في سبيل مصلحة مشتركة معينة (صد هجوم، استثمار ينبوع، تنظيم الصيد المشترك، دفع خطر الفيضان...) فتشكلت "القبيلة". ومن هذا يمكن تعريف القبيلة بأنها جملة عشائر ترتبط فيما بينها بمصلحة مشتركة معينة، وهذا لا يمنع من أن تكون بعض العشائر التي تشكل القبيلة مرتبطة أيضا برباط المصاهرة فيما بينها بالإضافة إلى المصلحة المشتركة. ولما تم اكتشاف الزراعة بدأ الإنسان بممارستها، مما جعله يرتبط بالأرض بعد أن كان متنقلا، وارتباطه هذا يجعله يفكر بالاستقرار والإقامة تحت سقف وفي أحضان بيت. وبما أنه يعيش ضمن مجموعة (عشيرة أو قبيلة) فقد ظهرت كتل من البيوت في مختلف المناطق التي تمارس فيها الزراعة، وهذا ما ساهم في تكوين القرية. ثم ساعدت الظروف قرية معينة على أن تبرز وتتسع وتقوى على حساب قرى أخرى (كأن تتمتع هذه القرية بخصوبة زائدة في الأرض، أو كونها مركزا لسوق تجاري، أو وقوعها على طريق مواصلات رئيسية...) فظهرت المدينة، وكان المجتمع الحضاري الأول هو مجتمع مدن، فالحضارة وجدت مع نشوء المدن. وقد انضوت هذه المدن تحت لواء دولة واحدة (كما هو الحال في مصر الفرعونية)، أو بقيت مستقلة عن بعضها بحيث كانت كل مدينة تشكل دولة بنفس الوقت (مجتمع الدولة – المدينة) كما هو الحال في الحضارات الشامية القديمة، أو الأمرين معا كما هو الحال في حضارات بلاد ما بين النهرين القديمة (الحضارة السومرية، الأكادية، البابلية...). وعلى هذا يمكن القول بأن الخلايا البشرية التي مرت فيها الحضارات كانت حسبما يلي: الأسرة – العشيرة – القبيلة – القرية – المدينة – الدولة. متى نشأت الحضارة الأولى ؟ يصعب إعطاء جواب دقيق على هذا السؤال، ولكن يبدو لنا مع هذا أنه يمكن اتخاذ أحد التواريخ التقريبية التالية كنقاط علام أساسية لنتعرف على تاريخ نشأة الحضارة وهي: 8.000 ق.م : وهو تاريخ اكتشاف الزراعة. 3.500 ق.م : وهو تاريخ اختراع الكتابة. 3.200 ق.م : بدء التاريخ المكتوب. ومن أصل هذه التواريخ الثلاثة نعتقد أن الأصح هو ربط بدء الحضارات بالتاريخ الأول، أي عام 8.000 ق.م، وهو تاريخ اكتشاف الزراعة والدليل على هذا هو ارتباط كلمة "ثقافة" Culture الفرنسية بكلمة "الزراعة" Agriculture ونجد الأمر نفسه في أغلب اللغات الأوربية الأخرى. ويؤكد هذا الارتباط بين "الثقافة" و "الزراعة" الفيلسوف "ويل ديورانت" في كتابه قصة الحضارة حيث يقول: "وأول صورة تبدت فيها الثقافة هي الزراعة، إذ أن الإنسان لا يجد لتمدنه فراغا ومبررا إلا إذا استقر في مكان يفلح تربته ويخزن فيه الزاد ليوم قد لا يجد فيه موردا لطعامه. في هذه الدائرة الضيقة من الطمأنينة – أعني بها موردا محققا من ماء وطعام – نرى الإنسان يبني لنفسه الدور والمعابد والمدارس. وبعد أن حددنا الإطار الزماني للحضارة سنحاول تحديد إطارها المكاني، وأول سؤال يتبادر إلى ذهننا في هذا المجال هو : أين نشأت الحضارة أو الحضارات الأولى ؟ يتفق أغلب المؤرخين على أن الحضارات الأولى تمتد ضمن مثلث رأسه في اليمن، وقاعدته تمتد بين الصحراء اللوبية (ليبيا) في الغرب وجبال زاغروس التي تفصل بين بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس في الشرق، أي أن موطن الحضارات الأولى هو جزيرة العرب ومصر وبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين. وعلى هذا تكون الحضارات الأولى قد قامت في الشرق الأدنى قبل ظهورها في أثينا بوقت طويل. ويعترف المؤرخ الشهير ويل ديورانت بهذه الحقيقة فيقول: "إن قصتنا – قصة الحضارة – تبدأ في الشرق لا لأن آسيا كانت مسرحا لأقدم مدنية معروفة فحسب، بل كذلك لأن تلك المدنيات كونت البطانة التاريخية والأساس للثقافة اليونانية والرومانية، وفي هذه اللحظة حيث تسرع السيادة الأوربية نحو الانهيار، وحيث تنتعش آسيا بما يبعث فيها الحياة، وحيث الاتجاه كله في القرن العشرين يبدو كأنه صراع شامل بين الشرق والغرب، في هذه اللحظة نرى أن التعصب الإقليمي الذي ساد كتابتنا التقليدية للتاريخ – التي تبدأ رواية التاريخ من اليونان وتلخص آسيا كلها في سطر واحد – لم يعد مجرد غلطة فحسب بل ربما إخفاقا ذريعا في تصور الواقع ونقصانا فاضحا في ذكائنا". وقد تعددت المذاهب التي تحاول أن تفسر خط نشوء الحضارات والأطوار التي تمر بها كل حضارة، ولكن بوسعنا أن نعطي فيما يلي أهم الآراء حولها وهي أربعة: *نظرية فيكو: حاول العالم الإيطالي فيكو أن يحدد الصفات المشتركة العامة لنمو جميع الحضارات وتطورها أي قوانين التاريخ المستقلة عن كل تدخل خارق للطبيعة، وقد استخلص من ذلك أن كل حضارة تمر في تطورها التاريخي بثلاثة عصور: عصر الآلهة – عصر البطولة – عصر الناس. وفي هذا العصر الأخير (عصر الناس) تضمر الحضارة ثم تضمحل وتنتهي. *نظرية اشبنغلر: يرى الفيلسوف الألماني اشبنغلر في كتابه "انحلال الغرب" أن الحضارة تشبه أي كائن بيولوجي من حيث حياتها، فهي تمر بثلاث مراحل هي: المولد – النمو – الانحطاط. ويقول في ذلك بالحرف الواحد "تولد الحضارة في اللحظة التي فيها تستيقظ روح كبيرة وتنفصل عن الحالة الروحية الأولية للطفولة الإنسانية الأبدية، كما تنفصل الصورة عما ليس له صورة، وكما ينبثق الحد والفناء من اللامحدود والبقاء، وهي تنمو في تربة بينة يمكن تحديدها تمام التحديد، وتظل مرتبطة بها ارتباط النبتة بالأرض التي تنمو فيها وأن جميع الحضارات تمر بالأدوار نفسها التي يمر بها الكائن الحي: فلكل طفولتها وشبابها ونضجها وشيخوختها". *نظرية توينبي: أما الفيلسوف الإنجليزي ارنولد توينبي فيرى في كتابه "دراسة التاريخ" ان نشوء الحضارة مرتبط بالنظرية التي سماها "بالتحدي والاستجابة"، فهو يرى أن البيئة الطبيعة تتحدى الإنسان ، فإذا استجاب الإنسان لهذا التحدي بشكل جيد وموفق نشأت الحضارة وإلا على العكس. ويضرب على ذلك مثلا بسكان المنطقة الافراسية (وهي المنطقة الكائنة في شمالي افريقية وجنوبي غربي آسيا) حيث تعرضوا لحملة تحد من الطبيعة على صورة جفاف كامل وطويل الأمد، فاستجاب قسم منهم للتحدي بشكل ملائم حيث هاجروا إلى حوض وادي النيل ومنطقة ما بين النهرين وأنشأوا الحضارات التي غمرت هذه البلاد ورضخ القسم الآخر للجفاف فكانت استجابته للتحدي غير ملائمة، ولذا بقي من البداءة بلا أية حضارة. وعلى هذا إذا لم يكن هناك تحد من الطبيعة لا تظهر بالمقابل أية حضارة، وفي هذا المجال يقول توينبي: "الرخاء المفرط هو عدو الحضارات اللدود ولذلك ظلت الشراذم البشرية في نياسالاند وغيرها من المناطق الاستوائية الدافقة بالخيرات الطبيعية بدائية في حياتها. *نظرية ابن خلدون: ويرى علامتنا ابن خلدون نظرية تشبه إلى حد ما نظرية فيكو واشبنغلر معا، حيث يرى أن كل أمة تكون أصلا بحالة بداوة ثم تدفعها الروح العصبية – التي تلازم البداوة عادة – إلى التوسع فتنشئ ملكا (دولة)، والملك ينتهي إلى عمران (حضارة) بما يرافقه من علوم ومعاش. ثم يدور الزمن دورته فيذهب العمران لصالح أمة أخرى تمر بحالة البداوة والعصبية. ونحن لا نريد هنا أن نتبنى أي رأي من هذه الآراء الأربعة بحذافيره، ولكن يهمنا أن نؤكد هنا أنه مهما كان واقع الحال فإن الحضارات الإنسانية يمكن أن تتعايش مع بعضها بنفس الوقت، بمعنى أنه ليس من الضروري زوال الحضارة القائمة لكي تقوم حضارة جديدة محلها في مكانها أو في مكان آخر من العالم. كما تعددت الآراء في كيفية نشوء الحضارة تعددت كذلك في زوالها وانحلالها وأسباب ذلك. وقد اخترنا رأيين من هذه الآراء لأننا وجدناهما أكثر عقلانية من غيرهما وهما رأي توينبي ورأي اشبنغلر. *رأي توينبي: تزول الحضارة، حسب رأي توينبي، بتأثير أحد العوامل التالية : أولا: الانشقاق في كيان المجتمع حين ينشق كيان المجتمع على ذاته بتأثير عدم التوافق بين السلطة الحاكمة وبين الشعب المحكوم، أو نتيجة لصراع أهلي داخلي. ثانيا: بتأثير البروليتاريا الداخلية أي حين تحوي الحضارة جسما غريبا في داخلها يسبب باستمرار ضغطا عليها من الداخل، فمثلا طبقة العبيد في روما لعبت دورا كبيرا في الإطاحة بالدولة الرومانية والحضارة الرومانية معا (ثورة سبارتاكوس). ثالثا: بتأثير البروليتاريا الخارجية حين تعمل شعوب مجاورة على الضغط على الحضارة من الخارج وسحقها (العثمانيون بالنسبة لبيزنطة مثلا). *رأي اشبنغلر: تموت الحضارة حسب رأي اشبنغلر – حين تكون الروح قد حققت جميع ما بها من إمكانيات على هيئة شعوب ولغات ومذاهب دينية وفنون ودول وعلوم، ومن ثم تعود إلى الحالة الروحية الأولى. وعندما تنحل الحضارة إما لاختناقها تحت تأثير روح أخرى أقوى منها، أو لأنها حققت صورتها النهائية، يجف دمها ويتحجر كيانها فتصبح مدنية بعد أن كانت حضارة. وقد تظل أزمنة طويلة في هذا الدور إلى أن يدركها الموت". وعلى هذا يكون هناك عاملان لزوال الحضارة حسب رأي اشبنغلر بتأثير روح أقوى من روحها، أي قيام حضارة أقوى منها – أو لأنها حققت صورتها النهائية. ونحن نميل إلى تبني الرأي الثاني وذلك لأنه حين ننظر متأملين للعوامل التي أدت إلى سقوط حضارة مصر وبابل الانحلالي، نجد أنه عندما ضعفت روح المغامرة في هاتين الحضارتين اسلمتا الصولجان لمن يغامر عنهما ويبني فوق ما وصلتا إليه. أي عندما حققت الحضارة نزعة الأمة ذاتها خلال المطلق والرمز وتنظيم الكون والمجتمع، وحصلت على الثراء والرفاه الاجتماعي، وصلت إلى شعور الفتور العدمي أمام انجازاتها، وتحللت الرغبة في الكشف والفتح واستمرار الحماس للمثل الاجتماعية". ==.+==.+==.+== والله الموفق 2015-07-11 محمد الشودري Mohamed CHAUDRI