الغلاف الهوائي والرياح بصفة عامة نحن على الأرض كركاب سفينة فضاء سقفها هو الغلاف الهوائي الممتد إلى علو نحو ألف كيلومترا عبر الفضاء الكوني الذي تسبح فيه الشمس. ولو أن مهندسا صمم ذلك السقف لجعل فائدته قاصرة على حماية ركاب السفينة من أهوال الفضاء الممثلة في: *الشهب التي تهيم في أسراب عبر الفضاء القريب. *الأشعة الكونية الفتاكة وهي تقتل الخلايا الحية في لمح البصر، ومن اللازم عدم التعرض لها. *الأشعة فوق البنفسجية المحرقة التي ترسلها الشمس، ويجب عدم التعرض لها بصفة مباشرة. *عزل الجو الداخلي الذي يعيش فيه الركاب عن الجو الخارجي أو الفضاء الكوني الذي لا يلائم الحياة، خصوصا من حيث درجة الحرارة والضغط. فالمعروف أن درجة حرارة الفضاء الكوني تقارب الصفر المطلق وتساوي (- 270م) أي مئتان وسبعون درجة مئوية تحت نقطة الجليد. أما الضغط الجوي فيكاد لا يختلف عن الصفر. ومعنى ذلك أن الضغط الجوي يتناقص سريعا بالارتفاع عن سطح الأرض، ويتبع ذلك تناقص مقادير الأوكسجين اللازمة للتنفس، فبينما يعادل الضغط الجوي عند سطح الأرض نحو (3013) مللبار، إذا به يختفي تماما على ارتفاع نحو (1.000) كيلومترا. ويعبر القرآن عن هذه الحقيقة الأخيرة بقوله: "وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ".[الأنعام:25] إشارة إلى قضية علمية عامة وحقيقة ثابتة فحواها: ان الصعود قدما في السماء يتبعه حتما نقص مقادير الأوكسجين التي تدخل إلى الصدر والتنفس، ومن ثم يشعر المرء بضيق صدره، حتى يصل إلى مرحلة الاختناق باستمرار الصعود قدما إلى أعلى. ونحن عندما ندرس الغلاف الهوائي دراسة علمية واعية، نجد أن له وظائف لا حصر لها، فالخالق سبحانه وتعالى لم يقصر فائدته على مجرد حماية أهل الأرض من الفضاء وأهواله التي ذكرناها باختصار، بل جعل مزايا أخرى عديدة. وجعل أجزاءه المختلفة تتحرك على هيئة رياح، فالرياح لغة هي الهواء المتحرك، ثم أسبغ على الرياح صفات ومزايا عديدة في سبيل منفعة البشر. وبينما نجد العلم يقف عند حد تقرير خصائص الغلاف الهوائي. وقوانين انسياب الرياح، إذا بكتاب الله يقرر أن هذا كله مسخر لمنفعة الناس، بطريقة يتجلى فيها العلم الكامل، والرحمة الشاملة، والإبداع من لدن الخالق العليم، ولا سبيل إلى اكتمال كل هذا عن طريق الصدفة والعشواء. ويمكن تلخيص مزايا الغلاف الهوائي والرياح، زيادة على ما ذكرناه، فيما يلي: *يسمح الغلاف الهوائي بنفاذ ضوء الشمس وحرارتها إلى سطح الأرض كاملين تقريبا، وبذلك يمد أهل الأرض بطاقات دائمة تتجدد كل يوم. *يضيء الغلاف الجوي أثناء النهار عن طريق تناثر أو تشتت ضوء الشمس فيه، بينما يبقى النصف البعيد عن الشمس مظلما كأظلام الفضاء الكوني المترامي الأطراف. ولضوء الشمس اتصال وثيق بالعمليات الحيوية التي تتم في عالمي النبات والحيوان كما هو معروف، والغاية من كل ذلك هو منفعة الإنسان مع التذكرة بقدرة الخالق. أنظر إلى قوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ". [فصلت:37] "وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ".[الأنبياء:32] والسماء ما علانا وارتفع فوق رؤوسنا، وعلى هذا الأساس يعتبر الغلاف الهوائي أول ما يصادفنا من السموات. وما القبة الزرقاء إلا من ظواهر الضوء التي تحدث في جو الأرض بسبب التناثر أو التشتت. وهي تبدو زرقاء لسببين هما: 1- أغزر الطاقات التي ترسلها الشمس هي اللون الأزرق. فمن المعروف أن ضوء الشمس الأبيض يتركب من ألوان عديدة، تبدأ بالأحمر، فالبني، فالأصفر، فالأخضر، فالأزرق فالنيلي، فالبنفسجي. وهذه هي ألوان الطيف الرئيسية. ولا تتساوى مقادير الطاقات التي ترسلها الشمس لكل لون منها. وطول الموجة التي يرسل عليها الجسم المشع أغزر طاقاته هو: 2940 :7. حيث 7 هي درجة حرارة السطح المشع بالدرجات المطلقة (= درجات مئوية + 273)، ووحدة طول الموجة هذه هي جزء من عشرة آلاف جزء من السنتيمتر، ويقال لها في كتب العلوم (ميكرون)، ولا بأس من أن تألف هذه الألفاظ المستعملة على مقياس عالمي ونحن نعيش في عصر العلم. وعلى هذا الأساس فإن طول الموجة التي ترسل الشمس عليها أغزر طاقاتها، علما بأن درجة حرارة سطح الشمس الخارجي هي 6.000 درجة مطلقة، وهو 2940: 6000 = 0,49 ميكرون وهذا هو طول موجة اللون الأزرق أو أخضر الأزرق. 2- هناك قانون طبيعي يقول إن كمية الضوء المتناثر في الهواء إنما تتناسب عكسيا مع الأس الرابع لطول الموجة، بمعنى أنه كلما قصر طول الموجة كلما زادت مقاديرها المتناثرة. ولما كان اللون الأزرق ضمن الألوان ذات الأمواج القصيرة فهو يتناثر بغزارة ووفرة في جو الأرض. وتوجه الآية الكريمة أنظارنا إلى ما في السماء – ذلك السقف المحفوظ – من آيات ولقد حفظ الله هذا السقف برباط الجاذبية، وإلا ضاع وفنى في خضم الفضاء اللانهائي. وهذا قد طبق كذلك على سائر أجرام السماء. ومن أروع آيات السماء الشفق والغسق، وهما أيضا من ظواهر الضوء التي تحدث في جو الأرض السفلي القريب من السطح، والذي تكثر فيه الأتربة العالقة والسحب المنعقدة. وتعمل هذه الشوائب على زيادة الضوء المشتت أو المتناثر من اللون الأحمر والبني والأصفر، أي الموجات الطويلة. ولهذا السبب يبدو الأفق أحمر اللون، يتبعه لون بني، ثم أصفر عند الشروق أو الغروب، حيث تمر أغلب أشعة الشمس في الطبقات السطحية من الغلاف الجوي. ويقسم الخالق العليم بالشفق. ويؤكد القسم إذ يقول: "فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ".[الانشقاق:16-18]، فما هي الغاية ؟ الغاية بيان عظمة الخالق وقدرته، إذ أنه وسط ظلام الليل الدامس، أو ظلام الفضاء الكوني السرمدي. ورغم عدم ظهور الشمس يحدث الشفق في روعة وجلال، ويتم ضوء القمر ويكتمل بدرا. وثمة نتيجة أخرى هامة فحواها حقيقة قصر حدوث النهار على جو الأرض، فإن الظلام هو الأصل، وانه يعم الفضاء الكوني، وأن الأرض مكورة، وكذلك غلافها الجوي بطبيعة الحال، هذه الحقيقة، أو تلك الحقائق كلها يمكن أن تستمد من مثل قوله تعالى:"يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ".[الزمر:5] "ألمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ".[لقمان:29] "وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ". [يس:37] "أأنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. [النازعات:27- 30] وهذه الآيات الأخيرة إنما تشير إلى عظم سمك الهواء ثم امتداد الفضاء وما فيه من أجرام السماء إلى ما أراد الله وشاء. وأغطاش الليل أظلامه. وفي واقع الأمر من الحقائق الثابتة أن اظلام الفضاء لا يعادله إلا سواد الآبنوس !! من مزايا الهواء المتحرك، وأعني به الرياح. أولا: الرياح هي التي تثير السحاب، وهي التي تمده وتلقحه ببخار الماء ونوى التكاتف اللازمين لنزول المطر. وفي هذا المعنى العلمي الرائع الذي سبق به القرآن ركب العلم نجده يقول: "وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ".[البقرة:164] "اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا".[الروم:48] "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ".[الحجر:22] ثانيا: الهواء هو الوسط الذي تتم فيه الدورة المائية ما بين السماء والأرض، تلك الدورة التي لم تعرفها الناس إلا في عصر العلم. ولكن القرآن أماط عنها اللثام، وأشار إليها، وخطا مزاعم الحضارات القديمة بأن الماء العذب تخزنه الآلهة في السماوات، أو هو مخزون في المحيط الأعظم الذي تفيض منه الأنهار. وفي ذلك يقول القرآن في بساطة لفظية وإعجاز علمي أخاذ: "... وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ". ثالثا: تلقح الرياح بعض النباتات، وهذا هو السر في أن الأقدمين اعتمدوا على هذه الحقيقة في تفسير قوله تعالى: "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ...". إلا أن الربط بين جزأي الآية الكريمة يحملنا على تفضيل تفسيرنا الأول وهو تلقيح السحب ببخار الماء، ونوى التكاتف لتجود بالمطر كما قلنا. رابعا: تدفع الرياح السفن الشراعية في عرض البحر. ويذكرنا القرآن بفضل الله علينا إذ يمدنا بهذه الطاقة دون جهد أو عناء فيقول: "وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ". [الشورى:32-33] خامسا: تعمل تيارات الهواء المختلفة، وما يطلق عليه العلماء اسم (دورة الرياح العامة) على توزيع الطاقة الشمسية التي تكتسبها الأرض توزيعا عادلا على المناطق المختلفة. فمن المعلوم أن أكبر الطاقات إنما تفد في المناطق الاستوائية، حيث يكاد الإشعاع الشمسي يتعامد على سطح الأرض طوال عام، وأقلها إنما يصل إلى القطبين، حيث تكاد الأشعة تمر موازية لسطح الأرض. والمعروف علميا أن الأشعة المتعامدة يكون تأثيرها أضعاف أضعاف تأثير الأشعة الموازية للسطح. ونحن عندما ننظر إلى قوله تعالى: "وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ".[الجاثية:5] "وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ".[الأعراف:57] "وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا...". [الروم:51] نجد الآية الأولى هي التي توجه العقول إلى دراسة الرياح ودوراتها ومساكنها وهبوبها، وتشير الآية الثانية إلى الهواء الرطب البارد المحمل ببخار الماء، والذي يجود بالمطر، أما الآية الأخيرة فهي تشير إلى الهواء الساخن الجاف الذي يقبل من قلب الصحاري محملا بالأتربة والرمال. ومن المعروف علميا الآن أن هذه التيارات إنما تكون الكتل الهوائية الرئيسية التي تنجم عنها تقلبات الجو وتوزيع الطاقات فيه، حتى لا تتراكم الحرارة في مكان معين على الدوام، ولا تستمر الدورة في التزايد إلى الأبد. فجو الأرض يكاد يكون مكيفا داخل حدود معينة، حتى تبقى الحياة، وتستمر على الأرض، وإلا أهلكها الجليد الزاحف أو قتلها القيظ والجفاف المتزايدان. لعل أروع ما يشير به القرآن إلى الأعاصير المدمرة قوله: "فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا". [الأحقاف:24- 25] وقد يكون المراد تلك الأعاصير المدمرة التي منها(التورنادو)،و(النكباء)، و(الهاركين) إلخ.. والله أعلم. وقبل أن نختم هذا المقال عن الغلاف الهوائي كما ورد في القرآن الكريم نود أن نقول: إن الهواء – وخاصة الأوكسجين الجوي – يذوب في الماء. ولذوبانه هذا أهمية عظمى، إذ تستنشقه الكائنات البحرية. فهل يا ترى يستطيع أي مهندس أو طائفة من المهندسين تجميع كل هذه الفوائد والمزايا في شيء واحد !! سبحان الخالق المبدع الذي يقول: "إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ". [فاطر:28] صدق الله العظيم والله الموفق 7 رمضان 1436 ه/24 يونيو2015م محمد الشودري Mohamed CHAUDRI