ابتكره الفراعنة والبابليون ووصل إلى قمته في الإسلام أيام العباسيين والفاطميين الزجاج.. هذه المادة الشفافة التي صنع منها الإنسان أجمل الأواني وأروع التحف، ما قصته ؟ وكيف بدأت صناعته؟ وأين ومتى نمت وازدهرت؟ هنا في قلب أرضنا العربية عرفنا صناعة الزجاج لأول مرة. ثم نقلها الغرب عنا.. أين نحن اليوم منهم! تعتبر مصر من أقدم دول العالم إنتاجا للزجاج حيث عثر المنقبون على أوان للعطور ومكاحل من الزجاج في حفريات تل العمارنة بمصر العليا (الصعيد)، ولقد تم صنع أول آنية من الزجاج بطريقة مبسطة حين كان الصانع يأخذ كتلة من الزجاج الساخن ويقوم بتشكيلها لتأخذ شكل القالب الذي وضع فيه السائل المنصهر ثم يحدث بها حفرة بواسطة الضغط عليها بعد أن تبرد. وقد اكتشف الإنسان الزجاج وأدرك مزاياه فهو لا يصدأ أو يبلى كالخشب أو يتآكل بالأحماض كالحديد والنحاس ولا يتأثر بالحرارة فيتمدد أو يتقلص بالبرودة فضلا عن صلابته ودرجة شفافيته وجماله. وأقدم قطعة من الزجاج عثر عليها حتى الآن هي قضيب من الزجاج ذي اللون الأخضر وجد في بابل تاريخه نحو عام 2600 ق.م كما عثر في مصر على حبيبات من الزجاج كحبات المسبحة يعود تاريخها إلى نحو عام 2500 ق.م ووجدت في المقابر المصرية القديمة تمائم وتعاويذ وأدوات زجاجية للزينة يزيد عمرها على أربعة آلاف عام تنسب إلى أيام الأسرة الثامنة عشرة. ومن مصر القديمة وبلاد الرافدين بالعراق القديمة انتقل فن صناعة الزجاج إلى جزر بحر ايجه وبلاد اليونان وذلك في القرن السابع قبل الميلاد. وفي عهد البطالمة حكام مصر أصبحت الاسكندرية في طليعة المدن في إنتاج الزجاج حيث طورت صناعته من السكب فوق قالب من الخزف أو الرمل على نواة معدنية إلى طريقة الكبس في قالب وهي ما عرفت في مصر والعراق القديمة. وطريقة الكبس في قالب تعتمد على صب مادة الزجاج المنصهر في قالب خزفي أو معدني مناسب للقالب وبهذا تأخذ الآنية شكل القالب المطلوب، أما طريقة القالب فهي استخدام كتلة من الخشب يحيط بها الرمل وتغمر كتلة الخشب والرمل في محلول ذائب الزجاج غمرا تاما حتى يعم الزجاج كل أجزائها. وبعد أن تبرد ينزع الخشب ويرفع الرمل ويبقى الإناء على هيئة الرمل الذي كان يحيط بكتلة الخشب. وهناك طريقة ثانية لصنع الزجاج حيث تقوم على أساس تحويل الزجاج إلى خيوط ثم تجمع هذه الخيوط في حزم، وتصهر حتى تتحول كل حزمة إلى قضيب واحد، ثم يقطع القضيب إلى قطع عريضة للحصول على أقراص مستديرة تجمع في كل قرص منها الألوان المستعملة في الحزمة. ومن هذه الأقراص كانت تصنع الأواني المختلفة الأشكال، وهذه الطريقة من ابتكار مدينة الاسكندرية في العصر البطلمي، وظلت سائدة إلى العصر الإسلامي. والطريقة الثالثة طريقة النفخ التي اهتدى إليها الصانع الشامي في القرن الأول قبل الميلاد، وذلك حين كان ينفخ الزجاج المنصهر بالفم بواسطة أنبوب النفخ في داخل قالب معدني فيتشكل الإناء حسب كمية الهواء التي أدخلت فيه بعد أن يبرد الزجاج، وفي العصر الحديث تستخدم آلات لنفخ الزجاج أوتوماتيكيا في القوالب المعدة لذلك بسرعة كبيرة، وتصنع بهذه الطريقة المصابيح الكهربائية والأباريق وغيرها. والطريقة الرابعة طريقة الصب واللف حيث الزجاج المنصهر من الفرن لينساب بين أسطوانات تدور فتلف الزجاج بالهيئة المطلوبة ثم تتلقاه منها منضدة متحركة لتبريد صفائح الزجاج. ويصنع الزجاج من خليط الرمل وكربونات الصوديوم وكربونات الكالسيوم في الفرن الخاص بصهر الزجاج والذي يجب أن تكون درجة حرارته من 1300-1600° درجة مئوية. ويعتبر الرمل (السليكا) المادة الأساسية للزجاج حيث تبلغ نحو 70 جزءا، ومن كربونات الصوديوم نحو 15% ومهمة هذه المادة إنقاص درجة انصهار السليكا، كما تضاف مواد كربونات البوتاسيوم كعامل مساعد على صهر المعدن، وتضاف مادة الجير (كربونات الكالسيوم) بنسبة 10%، أما 5% فتؤخذ من مواد أخرى تكسب الزجاج خواصا معينة ومقاومة أكبر. كما يستخدم في صناعات مثل: المسابك والسيراميك وأيضا الصناعات الكيماوية كالدهانات، والكهربائية كالعوازل. اشترط يوليوس قيصر الحاكم الروماني على ولاية مصر أن تكون الأواني الزجاجية من بين ما تقدمه مصر إلى روما من الجزية المقررة عليها، ولما زار القائد بومبي مدينة الاسكندرية أعجب بما صنع فيها من الأواني الزجاجية وحمل كثيرا منها إلى روما، مما أثار دهشة الرومان ودفعهم إلى استدعاء عدد من الصناع المصريين ليؤسسوا هذه الصناعة في روما، كما استقدم الامبراطور نيرون عددا من صناع الزجاج المصريين وشيد لهم أول مصنع للزجاج في عاصمة الامبراطورية الرومانية. وبلغ من اهتمام البيزنطيين بالزجاج وتشجيع صناعته إلى سن القانون الذي أصدره الامبراطور قسطنطين الثاني (317-340 م). وأعفى به نافخي الزجاج من الضرائب. وعن طريق روما وصل سر صناعة الزجاج إلى فرنسا وألمانيا وغيرها من الدول الأوربية، ولازالت هذه الدول رغم مرور مئات السنين تنتهج نفس الأساليب التي ابتكرها صناع الشرق الأدنى وتقتبس الطرز الزخرفية نفسها مع تعديل يناسب العصر الحديث. وجاء الإسلام يدعو الناس إلى التعلم وتشجيع العلم والعلماء فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ونال الزجاج كغيره من الصناعات تشجيع الخلفاء ورعايتهم واستمرت صناعته في نهوض، واتخذ المسلمون من الزجاج الأواني المختلفة الأشكال وأقراصا متنوعة فوق القنينات للزينة أو لبيان مقدار أو نوع ما فيها، واستخدموه في عمل صنج الموازين لثبات وزنه، كما ابتكروا طرقا متنوعة متعددة لتزيين الأواني الزجاجية حتى وصل إلى درجة كبيرة من الإتقان والجودة. وقد اشتهرت مصر كعهدها السابق بإنتاج زجاج على قدر عظيم من النقاوة، كما حذق المصريون في صنع الأواني الزجاجية ذات بريق معدني نافسوا به الأواني الفضية والذهبية التي اعتبرها الفقهاء ترفا لا يقره الدين الحنيف. سار فن صناعة الزجاج في ظل الدولتين العباسية في العراق والفاطمية في مصر قدما إلى الأمام لما لقي من تشجيع الخلفاء ورعايتهم، كما أن العرب كانوا يعنون بالعطور خاصة قبل الصلاة، وكان شغفهم بالعلوم الكيميائية كبيرا، كل هذا جعل الحاجة إلى الأواني الزجاجية لحفظ العطور والأحماض ونقل السوائل وإجراء التجارب أمرا ضروريا. كما استهوت الأواني الزجاجية المسلمين برونقها ونقائها ولأن قدور الزجاج أفضل من قدور الخزف والحجر، فهي لا تصدأ ولا تندى ولا يتخللها شيء يذهب بجمالها، وتوصل الصانع المسلم إلى ابتكار مادة المينا التي تتكون من مسحوق الزجاج الذي يخلط ببعض الأكاسيد ثم يذاب المخلوط في مادة زيتية حتى يتحول إلى سائل بواسطة التسخين إلى درجة حرارة معينة ويصبح صالحا لتنميق الزجاج وتجميله. ابتكر الفنان الأواني الزجاجية بزخارف تتكون من "جامات" مستديرة تضم أقراصا ورسوم حيوانات أو كتابات كوفية بواسطة آلة تشبه الملقاط أو أختام عليها نقوش محفورة، كما استخدم الصانع أسلوب الزخرفة بالأقراص والخيوط المضافة إلى أسطح الأواني، وهذه الخطوط إما متعرجة أو على هيئة أشرطة متموجة أو أقراص أو نقاط بلون الإناء نفسه أو بلون مختلف، وكانت الخيوط الزجاجية تسحب وهي ساخنة بآلة تشبه المشط في اتجاه واحد أو اتجاهين متضادين فتتكون منها أشكال عديدة مختلفة كأسنان المنشار. ابتكر الصناع طريقة التذهيب والطلاء بالمينا وكانوا يضعون الزخارف المذهبة على التحف بواسطة الريشة عند رسم الخطوط الخارجية وبالفرشاة في المساحات الكبيرة، وبعد أن يحرق الصانع الإناء في الفرن للمرة الأولى يحدد موضوع الرسم باللون الأحمر ثم يطلى بالمينا المختلفة الألوان. وكان طلاء المينا نصف الشفاف يتكون من ذائب الرصاص ثم يلون بالأكاسيد المعدنية فإذا أريد اللون الأخضر أضيف إلى الزجاج أكسيد النحاس، بإضافة أكسيد الحديد يحصل على اللون الأحمر، والأصفر من حامض الأنتيمون، والأبيض من أكسيد القصدير والأزرق بإضافة مسحوق اللازورد. ازدهرت صناعة البلور الصخري Rock Crystal في مصر أيام الفاطميين، وهو حجر طبيعي له شفافية جذابة ويوجد على ساحل البحر الأحمر، وقد اتخذت منه القوارير والمكاحل والدوارق والكؤوس، وامتدح الرحالة ناصرو خسروا الأواني الزجاجية التي رآها عند زيارته لسوق القناديل على مقربة من جامع عمرو بن العاص ووصفها بالجمال والإبداع فضلا عن صلابتها ومنظرها الخلاب. ومعظم التحف المصنوعة من البلور انتقلت إلى قصور أوربا وكنائسها حيث أعجب بها الأوربيون وأقبلوا على اقتنائها ودفعوا فيها أثمانا باهظة، ولازالت محفوظة في كاتدرائية سان ماركو بالبندقية، وقوام زخرفتها رسم أسدين بينهما شجرة وبين رقبة الإبريق وبدنه كتابة كوفية نصها "بركة من الله للإمام العزيز بالله". وهناك تحفة أخرى على شكل هلال في متحف نورمبرج بألمانيا وعليها كتابة كوفية "لله الدين كله – الظاهر الإعزاز دين الله أمير المؤمنين". وتحفة ثالثة بكاتدرائية مدينة فرمو بإيطاليا على بدنها زخرفة من طائرين متواجهين بينهما فروع نباتية غاية في الدقة والإتقان، وفوق الرسم شريط من الكتابة الكوفية نصها "بركة وسرور للملك المنصور أي الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور". هذا بالإضافة إلى تحف أخرى في متحف اللوفر وفكتوريا والبرت بلندن وفي قصر بتى بفلورنسا وغيرها. لقد ازدهرت صناعة الأواني الزجاجية في العهد المملوكي في مصر والشام وتجلى إتقان الصناعة وجمالها في إنتاج المشكاوات المموه بالمينا، وقد أخذ اسمها من الآية الكريمة "اللَّهُ نور السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّي يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ".[النور:35] صدق الله العظيم والمشكاوات أغطية مصابيح بداخلها قنديل (مسرجة) تثبت بسلك في حافة المشكاة ولكل مشكاة مقابض بارزة أو عنق تتصل بها ثلاث سلاسل أو أكثر من الفضة أو من النحاس الأصفر، تجمع كلها عند كرة مستديرة تتصل بسلسلة تعلق بها المشكاة في السقف. وزجاج المشكاوات أبيض مائل إلى الصفرة أو الخضرة، ويدهن الزجاج بالمينا ذات الألوان كالأحمر والأزرق والأخضر والأبيض واللون الوردي. وتزين المشكاة بأشرطة بها كتابات أو مناطق في وسطها شارات سلاطين المماليك فضلا عن أسمائهم وألقابهم، بالإضافة إلى رسوم نباتية وهندسية وعبارات دعائية أو كتابات معظمها آيات من الكتاب الحكيم بخط النسخ الذي ساد العصر المملوكي. أما المشكاوات التي تهدى للمساجد الجامعة فكانت من زجاج جيد مذهب ومموه بالمينا تقديرا لمكانة بيوت الله في نفوس المؤمنين. وقد أقبل البنادقة الإيطاليون وغيرهم على تقليد الأواني الزجاجية الإسلامية في أسلوب صناعتها وطريقة زخارفها ورسومها إعجابا بها، ولازالت موضع تقدير مؤرخي الفنون لدقة رسومها وبديع زخارفها وجمال ألوانها. ويعتبر العصر الحاضر عصر الزجاج حيث توصل العلماء بأبحاثهم إلى إنتاج أنواع تتحمل الحرارة صالحة لأواني الطهي وأنابيب النيون والمصابيح، ومنها الزجاج المصقول صافي اللون والزجاج غير القابل للكسر فلا يتناثر إذا تهشم، وزجاج العدسات للنظارات الطبية وآلات التصوير العادية والسينمائية والمنظار المكبر، وزجاج الشاشات التلفزية والحواسب... إلخ، ومنها الزجاج العازل للكهرباء، والذي يقاوم الأحماض لصنع المكاييل الطبية وأدوات المختبرات والمحاقن وغيرها. وأصبح الزجاج بعد إضافته للفولاذ مادة أفضل تصنع منها ناطحات السحب والمباني الضخمة ولا يستغنى عنه في أي مكان، ولا ننسى ما قدمه أجدادنا من ابتكار منذ آلاف السنين وما ابتدعوه من أساليب في طريقة صناعته وأسلوب زخرفته مما خلد أعمالهم وجهودهم. ولكن أين نحن من الغرب الذين نقلوا عنا هذه الصناعة التي كنا نزهو بها ونفخر.. أين نحن من هذه الحرفة التي توارثناها وكنا أساتذة العالم فيها.. لقد تركناها وأهملناها فتخلفنا، ونبغ الذين نقلوا عنا هذا التراث فعملوا على تطويره وتجويده حتى أصبح اليوم يبدو تراثا جديدا لا يمت إلى الأصل الذي ولد هنا في أرضنا العربية. **-**-**-** والله الموفق 2015-06-08