بقلم: سلمان الحساني * الصورة النموذج عند الدكتور أحمد الطريسي أعراب في كتاب : "الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب" في كتابه النقدي "الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب"، تحدث الدكتور أحمد الطريسي أعراب عن ما سماه ب : "الصورة – النموذج"؛ وقد تحدث عنها في الباب الثاني من الكتاب، كما قسّم الباب إلى فصلين، وذلك كما يلي: – الفصل الأول: المفهوم الجديد بين الشعراء والنقاد: يعتبر الشعر من خلال الصورة – النموذج المثال الأسمى في هذه التجربة الشعرية، وقد بدأت هذه التجربة في المشرق مع مدرسة البعث والإحياء التي اطلع عليها الشعراء المغاربة، إضافة إلى بعض المدارس الجديدة هي مدرسة الديوان ومدرسة أبوللو ومدرسة المهجريين، الشيء الذي جعل الشعراء الشباب يكفرون بما عندهم بالمغرب من نماذج شهعرية بالية، كما عملوا على اقتفاء أثر رواد المدارس الجديدة، من أمثال: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإليا أبي ماضي وأحمد زكي وغيرهم. فمع الصورة النموذج نشعر أن شيئا ما يولد في الأدب المغربي لأول مرة وينشأ في ظل أفكار جديدة متطورة. ولأجل دراسة هذه القضية، عمل الكاتب على تفكيكها انطلاقاً من موقف الشعراء من جهة وموقف النقاد في الجهة المقابلة. أ- الشعراء: حيث ساهمت مجموعة من العوامل في بروز هذا النمط الجديد، ومن بينها نجد التطور الذي حدث في البنيات الاجتماعية والثقافية والفكرية بالمغرب، ثم اتصال المغرب بالمشرق عن طريق البعثات الطلابية والكتب والصحف والمجلات، ثم ظهور الصحافة الوطنية التي شجعت الناشئة المتأدبة، وكذا ظهور الحركة النقدية التي واكبت العملية الشعرية في جميع أطوارها، وبالتالي لم يعد الشعر كلاماً يقال في المناسبات الخاصة، فعادت للشعر أصالته وجودته وعاد الشعراء للطريق الصحيح. ولقد تزعم هذا التيار التجديدي مجموعة من الشعراء الشباب من أمثال محمد بن إبراهيم وعلال الفاسي والمكي الناصري وعبد الغني السكيرج وعبد الله كنون والمختار السوسي .. إلخ، فظل الشعر المغربي يستمد عناصره من المدرسة الإحيائية بالمشرق العربي، والتي كانت -بدورها- مرتبطة بالموروث العربي القديم، وكان الشعراء المغاربة أمام نموذجين شعريين في تجربة وحيدة؛ نموذج الإحيائيين المتمثل في شعر البارودي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي، ونموذج متمثل في جماعة المهجريين وجماعة الديوان وجماعة أبوللو، وبالتالي أصبح الشعر كلاماً يوحيه الخيال ويعبر عن العاطفة الإنسانية، وفي هذا السياق يقول الشاعر محمد القرى: الشعر وحي صادق // وعن الحقائق ناطق ما قاله إلا حكي // م ألمعي حاذق والشعر كم تحكي به // بين الشعوب خلائق والشعر وحي سائل // متناسب متناسق ما جاء جبريل به // بل جاء وهو السابق والشعر يوحيه الخيال // إلى العقول الرائق مهما صفت نفس الحكيم // صفا الشعور السابق إن الدواعي للكلام // تجيء وهي شقائق ويقول المختار السوسي: لم لا أقول الشعر كيف أريد // وأنا بنيران الشعور وقود ويقول إبراهيم الألغي: إيه يا شعر أين أنت // فما أهنأ لما أراك بعيد وقول الشاعر الطيب العلوي: الشعر فكر على الأوراق منسكب // فاضت ينابيعه كالموج يضطرب وقول الحسن التناني: والشعر إن لم يكن التجديد يغمره // فإنما هو محض اللغو والصخب وقول إبراهيم أنيس: الشعر ما سمعته الروح فانتعشت // وصارت به كالشارب الثمل ويقول الوديع الآسفي: ربت الشعر أسعفي المعمودا // ألهمي شاعر الوفا المعهودا فالمفهوم الجديد عند الشعراء هو أن الشعر لم يعد صناعة للقول، بل أصبح قولاً شاعرياً مرهفاً تغمره العواطف، وأصبح عند الآخرين وحياً وإلهاماً وصورة للنموذج القديم، كما أن هؤلاء الشعراء لم يغفلواْ عنصر الخيال، كما جعلوه عنصراً أساسياً في الشعر، ولذلك لم يبق الشعر حبيس أغراض تقليدية، بل أصبح يوظف في خدمة الشعب ويسخر من أجل تحرر الوطن من الاستعمار. ب- النقاد: وفي مقابل الدينامية الإبداعية، كانت الأقلام النقدية تتحرك في توجيه ومراقبة الشعر بالمغرب، فبرز مجموعة من النقاد من أمثال عبد الله كنون بمقالاته وعبد الخالق الطريس بدراساته، إلى جانب محمد المكي الناصري وعلال الفاسي وغيرهم، كما ظهرت مجلة اهتمت بالقضايا الأدبية، هي مجلة "السلام" التطوانية. والملاحظ أن النقاد في هذه المرحلة بدؤوا يفهمون أن الشعر الحق هو الذي يعبر عن ذات الفخر وذات الجماعة، وهو الفن القائم على الصدق والصواب، لا الكذب والزيف. وأول عمل قام به ابن العباس القباج هو التصدي لشعراء المرحلة الأولى، لأن الشعر في نظره ليس ذاك القول الزائف المستخدم وسيلة لنيل المال والجاه. ومن المعلوم أن القباج أحدث ضجة كبرى في الأوساط النقدية المغربية، ولم يكن يقتصر على شعراء التيار السابق، بل كان يتناول الشعراء الشباب الذين عاصَروه، وكان له دور مهم في إثراء الحركة النقدية بالمغرب. أما باقي النقاد فقد كانوا يناقشون مختلف القضايا بحماس أدّى إلى صراع بين القديم والجديد من حيث المفاهيم والموضوعات والصياغة، وفي الأخير خلص إلى أن هذا التيار النقدي لم يكن دقيقاً في تحديده للأشياء. – الفصل الثاني: الصورة النموذج من خلال عناصرها الفنية: ظهرت تجربة الصورة النموذج في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي الماضي بالمغرب، وذلك بعد اطلاع الشعراء المغاربة على بعض الصور الشعرية الجديدة التي ظهرت في المشرق، إذ كانوا يرون في المدرسة الإحيائية النموذج الحي والقدوة الحسنة والمثال الأعلى، وذلك انطلاقاً من القراءات المكثفة للشعر الإحيائي، حتى تأثروا بهذا النموذج بطريقة مباشرة وغير مباشرة. ومعلوم أن هذه القصائد اهتمت بمواضيع محددة هي: -القصيدة الإصلاحية: وكان الهدف منها هو بث الحماسة في نفوس الناس، والمطالبة بنهوض المرأة وطلب العلم، وفي هذا الموضوع يقول علال الفاسي في بيتٍ يحفّز به الشباب: كل صعب على الشباب يهون // هكذا همة الرجال تكون وكذلك قول محمد المهدي الحجوي: إلى متى نترك التعليم مهجورا // ونحسب العلم في الإفرنج محصورا إلى متى نستلذ النوم واحزني // وغيرنا يطلب الدستور والشورى هبوا إلى المجد يا أبناء من رفعوا // للمجد صرحا بعلم كان منشورا – قصيدة الدعوة إلى مقاومة الاستعمار: والشعر في هذا الموضوع قد يأتي في صورة مستقلة، وقد يأتي ضمن القصيدة المدحية. – قصيدة المنفى: وتمثل الشعر الذي عبر فيه أصحابه عن معانات السجن والنفي، وأحياناً قد تحمل قصيدة المنفى طابعاً مأساوياً بفعل المعاناة. – القصيدة المادحة المعبرة عن الوطنية: وقد كانت تلقى أمام الملك كل عام بمناسبة عيد العرش، ولم يكن الهدف من المدح التكسب، بل كان الهدف هو إبراز الصفات الوطنية والتعبيرية عن الوحدة الوطنية. – قصيدة الطبيعة: لم يكن التعبير عن الطبيعة بشكل تقليدي، بل أصبحت تعبر عن نظرة الإنسان في الحياة من خلال مظاهرها المختلفة. – قصائد أخرى تضم أغراضاً مغايرة، ومنها الفخر والغزل والخمرة والرثاء. ولأجل دراسة الصورة النموذج، فقد عمل الباحث في ذلك عن طريق دراسة البنية اللغوية، ثم البنية الإيقاعية: 1-البنية اللغوية: لم يبق الشعر في هذه الفترة حبيساً للصناعة اللغوية، فقد استطاع هؤلاء الشعراء الشباب التخلص من البناء اللغوي القديم، لكنهم ضلّوا محاصرين ببعض الأساليب التي كان يطغى عليها الحماس والوضوح نتيجة ارتباط الشعر بالقضية الوطنية، ويعترف الكاتب أن الانسجام الذي ينبغي أن يهيمن على القصيدة الشعرية ويجمع بين عناصر بنيتها اللغوية، ينعدم في الصورة النموذج، ولأجل توضيح ذلك، فصّل الكاتب القول في القصيدة الوطنية والقصيدة المادحة وقصيدة الطبيعة. فالقصيدة الوطنية بنوعيها "النضالي" و"الإصلاحي" تضل لغتها ذات سمة حماسية استرسالية، وتغلب عليها العاطفة الوطنية، وبث الحس الوطني وإثارة الحماس في النفوس، كما تتميز بوضوح المعنى وصفاء العبارة، ولكنها ما تزال بعيدة عن خلق الرمز والسمو إلى مقام مناطق الرؤيا. والقصيدة المادحة استطاعت -بوجه عام- أن تتخلص من تلك المقدمات المفتعلة في النموذج السابق، ولم تكن تشتمل على غرض تكسبي، بل كان المدح تعبيراً عن الروح الوطنية ولحمة الشعب المغربي، كما تضمنت عدة أفكار فرعية، من بينها: مكافحة المستعمر وتحرير الإنسان المغربي. أما قصيدة الطبيعة فقد أصبحت موضوعاً بحدّ ذاته، ويعبر بها الشاعر عن نظرته تجاه الحياة، واللغة في هذا الموضوع تستمد عناصرها من فضاء الشعر المهجري على أسلوب إليا أبي ماضي، وتدخل في حوار مع عناصر الطبيعة، والشاعر هنا يناجيها ليكشف عن جوهر الحياة. وتأسيساً على ما سبق، يمكن القول أن البنية اللغوية للصورة النموذج مرتبطة بالشعر الإحيائي في المشرق ارتباطاً قوياًّ. وبالتالي فإن اللغة وصلت إلى مرتبة فنية ناضجة، لكنها لم ترق بعد إلى مستوى الإدراك كما هو الحال في الصورة الرؤيا. 2-البنية الإيقاعية: أحاط النقاد العروض الخليلي بتقديس كبير، ولم يضيفواْ له جديدا، بل قيّدوه بعناية وجعلوه دائرة ضيقة على الشعراء المبدعين، كما جعلوه حاجزاً مفروضا ومصطنعاً لا يجوز مخالفته، وهنا يأتي الرد من أحمد الطريسي، إذ يعتبر أن الشعر باستطاعته أن يختار من الأوزان ما يراها كفيلة لنقل رؤاه دون أن يعود إلى وزن معين أو تفعيلة بذاتها، كما لاحظ أن الموسيقى في الصورة النموذج تتسم بالسلاسة في البحر العروضي الذي يسمح للشاعر بالتدفق، كما كان يتسم بالاضطراب بين عناصره.