حموشي يقرّ صرف منحة مالية استثنائية لفائدة جميع موظفي الأمن الوطني برسم سنة 2025    "كان المغرب".. زامبيا تخطف تعادلا قاتلا من مالي (1-1) وصدارة المجموعة ل"أسود الأطلس"    موندو ديبورتيفو تشيد بحفل افتتاح كان 2025 بالمغرب    العرائش: العصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية ورابطة أساتذة التعليم العالي تنظمان: دورة تكوينية في مجال "التمكين الرقمي" بالعرائش    نشرة انذارية جديدة تحذر من تساقطات ثلجية كثفة وامطار قوية    الملك يعزي أسرة البروفيسور التونسي    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    إقليم ميدلت.. تعبئة ميدانية للسلطات تنقذ خمس عائلات من الرحل حاصرتها الثلوج بجماعة أيت يحيى    «لماذا يخطئ المثقفون» صامويل فيتوسي الانحياز الفكري والأخلاقي أمام امتحان الحقيقة    مجموعة «فوضى مورفي» للكاتبة خولة العلوي .. شغف ووعي ورغبة في كتابة نص مختلف    توقيع اتفاقية شراكة وتعاون للحفاظ على «الذاكرة القضائية للمملكة»        وزير الداخلية: مخطط "مكافحة البرد" يستهدف 2018 دوارا ويهم حوالي 833 ألف نسمة    نبض بألوان الهوية المغربية والإفريقية: عرس كروي رفيع المستوى في افتتاح الكان    الركراكي يستدعي بلعمري لتعويض سايس    تصنيف فيفا .. المغرب يحافظ على المركز 11 عالميا    اللّغة في بعدها الجماليّ والدّلاليّ في رواية "أعشقني" للدّكتورة سناء الشّعلان    ختام السنة برياض السلطان تروبادور غيواني بادخ    يومية "آس" الرياضية الإسبانية: براهيم دياز.. قائد جديد لجيل واعد    حسام حسن يشيد بالإمكانيات الرائعة للمغرب ويؤكد أن منتخب مصر سيعمل على الفوز باللقب القاري    تقرير: الاقتصاد المغربي يدخل مسار تعاف متدرج مع توقع تسارع النمو إلى 5.5% بحلول 2027    انتقادات حقوقية لتراجع تصنيف المغرب في تنظيم الأدوية واللقاحات    مقاييس الأمطار بالمغرب في 24 ساعة    تحقيق ل"رويترز": في سوريا الجديدة.. سجون الأسد تفتح من جديد بمعتقلين جدد وتعذيب وابتزاز    أزيلال .. القوات المسلحة الملكية تطلق خدمات المستشفى العسكري الميداني بجماعة آيت محمد    ريدوان يطلق أولى أغاني ألبوم كأس أمم إفريقيا "ACHKID"    توقعات أحوال الطقس غدا الثلاثاء    الذهب يسجل مستوى قياسيا جديدا مع توقع استمرار خفض الفائدة الأمريكية    خطر صحي في البيوت.. أجهزة في مطبخك تهاجم رئتيك    رغم انخفاضها عالميا.. المحروقات بالمغرب تواصل الارتفاع والمستهلك يدفع الثمن        بنكيران: "البيجيدي" استعاد عافيته ويتصدر المشهد.. ولم يبق إلا تثبيت النصر    نهائيات كأس إفريقيا للأمم تعيد خلط أوراق العرض السينمائي بالمغرب    المغرب يضع "الكان" في الصدارة عالميًا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    تيسة تحتضن إقامة فنية في الكتابة الدرامية والأداء لتعزيز الإبداع المسرحي لدى الشباب    ارتفاع أسعار النفط    إعلام إسرائيلي أمريكي: نتنياهو يسعى لتفويض من ترامب لمهاجمة إيران    اغتيال جنرال روسي في انفجار قنبلة    انقلاب حافلة يودي بأرواح 16 شخصا في جزيرة إندونيسية    سعر الذهب يسجّل مستوى قياسيا جديدا    ارتفاع حصيلة ضحايا فيضانات اسفي إلى 40 واطلاق برنامج ملكي لاعادة التاهيل    كيوسك الإثنين | مطارات المملكة تحطم كل الأرقام عشية انطلاق كأس إفريقيا    وفاة الممثل الأمريكي جيمس رانسون انتحارا عن 46 عاما    تفاصيل جديدة بشأن "مجزرة بونداي"    الجديدة تستضيف الدورة الأولى للمؤتمر الدولي حول الفيزياء الكمية والابتكار الطاقي    الاستيطان يتسارع في الضفة الغربية ويقوّض فرص قيام دولة فلسطينية    تصعيد خطير بعد دعوات لطرد الإماراتيين من الجزائر    مسلحون مجهولون يفتحون النار على المارة في جنوب إفريقيا    مشروبات الطاقة تحت المجهر الطبي: تحذير من مضاعفات دماغية خطيرة    العاصمة الألمانية تسجل أول إصابة بجدري القردة    السعودية تمنع التصوير داخل الحرمين خلال الحج    من هم "الحشاشون" وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟    منظمة الصحة العالمية تدق ناقوس انتشار سريع لسلالة جديدة من الإنفلونزا    سلالة إنفلونزا جديدة تجتاح نصف الكرة الشمالي... ومنظمة الصحة العالمية تطلق ناقوس الخطر    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصورة–الرؤيا عند الدكتور الطريسي أعراب من خلال كتاب: "الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب"


بقلم: سلمان الحساني
سبق لي أن قمت بتلخيص البابين الأولين من كتاب "الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب" لصاحبه الدكتور أحمد الطريسي أعراب, ويرتبط هذان البابان في كل من موضوع "الصورة الوثيقة" و"الصورة النموذج". والآن, قدر ليبعون الله تعالى متابعة مشوار تلخيص هذا الكتاب القيم الذي كان أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الأصل, بعد أن صدر بطبعات مختلفة وتهافت عليه الباحثون بنهم لما فيه من فوائد جمة تغني الموضوع وتوضحه وتجيب عن عدة تساؤلات كانت قد طرحت أو لازالت تطرح من لدن الدارسين الجدد للموضوع.
ولعل الكاتب قد جعل هذا الباب منقسما إلى فصلين أساسيين: الفصل الأول مخصص لدراسة مفهوم الرؤيا في نظر الشعراء والنقاد. أما الفصل الثاني فقد تطرق لتحليل الصورة الرؤيا من خلال عناصرها الفنية.
ولما كان من الضروري تعريف الصورة الرؤيا; فقد حددها الكاتب باعتبارها أعلى مقام للكلام الذي يبدعه الشعراء والأدباء, وفيها تبلغ العناصر الإيقاعية واللغوية ذروتها في الإتساق والإنسجام والإئتلاف. ومقامات الكلام ثلاثة; أولها مقام تقعد فيه اللغة على أرض الواقع الخارجي وتنقل الأشياء نقلا مباشرا وتقارن بين الموجودات مقارنة سطحية.
وثانيها مقام ترتقي فيه اللغة قليلا لتأخذ شكلا جديدا من التعبير الشعري المتأسس على عمود المعاناة والنجارب الشعورية. وثالثها مقام تتعدى فيه اللغة الشعرية الواقع الخارجي حتى تصل إلى حد الغرابة, فيبدوا التعبير الشعري رمزيا متجاوزا التعبير اليومي المباشر والتصوير النمطي القائم على التشبيهات والإستعارات وغيرها.., كما أنها تجعل الشاعر يتفاعل والعديد من الأشياء المتعلقة بالعالم الخارجي كالأفكار والمواقف والوجدان التي تخلق النص الإبداعي, حيث إن النص الشعري لا يولد من فراغ, بل يولد مما هو موجود في الحياة.
وإن كانت لغة شعراء الصورة-الرؤيا تركب المجاز في حدود ممكنة, فإن شعراء هذا التيار قد زحفوا بالمجاز إلى حدود المستحيلات وجمعوا بين المتناقضات. ولكن الشاعر لم ينسجها عن عمد, وغنما تأتي هذه الصور بكامل التلقائية والعفوية. وبالتالي يمكننا القول أن هذا النوع يرتفع إلى مقام أسمى في درجات التعبير الشعري, لكنه لا يصل إلى الصيغة الأسطورية التي هي أشمل وأعمق وأرقى مستوى من مستويات التعبير الشعري.
ولتوضيح المسألة, لجأ الكاتب إلى الشرح عن طريق إستحضار الأمثلة الأكثر تداولا في التصوير الرمزي الرؤيوي, نحو تحول الشجرة إلى ماء يختزل فيه الشاعر رمز دورة الحياة, والحرية التي تتحول إلى الشمس التي تشرق على آفاق النقس الإنسانية…وغير ذلك كثير. ثم إن الشاعر لا ينجح في عملية الرؤيا دوما, وهذا في صالح القصيدة, لأن النجاح يعني النهاية والموت, بينما الفشل يعني التكرار والمعاودة في التجارب التي تنتج لنا شعرا متميزا.
ولا ننسى أن المؤلف قد وجه إنتقاداته لأولائك الذين يرون الغموض والغرابة في هطا النموذج, معتمدين في ذلك على فهم النص الشعري وتفسيره حسب قوالب جاهزة, وفي إطار تصورات داخل مدرسة نقدية معينة. ثم إن الشعراء الذين برزوا في هذه المرحلة لا ينتمون إلى الصورة الرؤيا بكل ما صدر عنهم من شعر, فقد تنوع إنتاجهم ما بين قصائد الصورة النموذج وقصائد الصورة الرؤيا التي وصلت لمستوى الرمز, وهو المستوى الذي قلنا أنه دون الأسطورة.
الفصل الأول: مفهوم الرؤيا في نظر الشعراء والنقاد:
تطرق الكاتب في هذا الباب لتوضيح مفهوم الرؤيا التي هي بيت القصيد لهذا الفصل, وبالتحديد عند الشعراء والنقاد المغاربة.
أ-الشعراء :وقد تغير مفهوم الشعر عند الشعراء المغاربة منذ بداية الأربعينيات من القرن الماضي, حيث لم يعد محصورا في مفهومه الوطني والواقعي, بل أصبح كونا يحتمل كل التجارب والمواقف الإنسانية. والعوامل المساعدة على تطور المفهوم الشعري كثيرة, من بينها: الإستمرارية المطلقة في إحتكاك المغاربة بإخوانهم المشارقة, حتى تعرفوا على المدارس الشعرية الجديدة مثل جماعة أبوللو ومدرسة المهجر (تيار الرابطة القلمية) وجماعة الديوان, كما استفادوا من تجربتهم الشعرية, ثم المواصلة في نشر الدراسات الأدبية والنقدية بشكل أعمق وأشمل, إلى جانب ظهور صحف ومجلات أخرى تساند العمل الأدبي, الشيء الذي أدى إلى ظهور جيل من الشباب كان يكتب فيها باستمرار.
ويعد الشعر عاطفة قوية وشعورا عارما لدى شعراء هذه الفترة, ويتأسس على الخيال الذي ينطلق حرا دون أن يكترث للحدود والفواصل التي تقف سدا منيعا أمام الرؤيا. والخيال هو المنفذ الوحيد إلى جوهر الحياة, والشاعر هنا يرى العالم بقلبه وخياله, وتصبح اللغة على ألسنتهم صيغا رمزية تحتمل أكثر من معنى, الشيء الذي جعل متلقي القصيدة يتحول من ناثر إلى فاك للرموز للوصول إلى بنية الدلالة العامة للنص الشعري.
ولعل أشهر رواد هذه المرحلة هم: الشاعر بن علال الفيلالي الذي قال:
فتهاوت آلهة الشعر صرعى — من صدى الروح ضاع في غير جدوى
من خيالي صغت الجنان فقالوا — شاعر شاء للتقاليد محوا
والشاعر أحمد عبد السلام البقالي الذي قال في ديوانه "أيامنا الخضراء" :
أرى في العيون الدامعات أصائلا — سجا لسجاها النهر وامتقع البحر
وفي العبرة الحيرى على الخدجنة — مهدلة فاحت خمائلها الخضر
وأيضا الشاعر عبد المجيد بن جلون صاحب ديوان "براعم", حيث قال فيه:
غن واصدح في الوجود الزاهر
انعش الكون بلحن ساحر
أنسه معنى الأسى يا شاعري
واختصر عالمنا في نغمة — واعتصرها من شقاء ونعيم
ثم الشاعر عبد الكريم بن ثابت الذي قال في ديوانه الموسوم ب"الحرية":
كنت مذ جئت إلى الأرض أغني للجمال
ولقد كان بعيدا فوق آفاق الخيال
فتطلعت إليه وتمنيت الوصال
وإذا القيد في فمي رغم النضال
أين ذاك القيد أين؟
أتراه اليوم عين؟
إلى جانب الشاعر مصطفى المعداوي الذي قال:
يا أيها الطيف المرفرف فوق أهداب الخميلة
يا نسمة العطر المموج في ابتسامات الجميلة
يا طيف سعد عابر
هلا مررت بخاطري؟ !
لي في حماك قصيدة
غنيتها بمشاعري
ب-النقاد: وإدا كان الناقد مراقبا للمبدع, فإن هذه الفترة قد عرفت تعددا وكثرة للأقلام النقدية, عنيت بالإهتمام المطلق بالنص الأدبي عموما والنص الشعري خصوصا. ومن أبرز الأسماء نجد : عبد الكريم بن ثابت وعبد السلام العلوي وعبد الله إبراهيم وعبد الكريم الطبال ومحمد زنيبر. حيث إحتدم الصراع بين هؤلاء النقاد وغيرهم من خلال طريقة تناول النص الشعري, فمنهم من تناوله من مفهوم الواقعية, ومنهم من تناوله من مفهوم الذاتية. لكن تينك الإتجاهين ينطلقان من مسلمة مشتركة هي أن العملية الشعرية من الشعور والعاطفة والخيال والأحلام, لكن وجه الإختلاف بينهما بسيط نوعا ما, لأن الذاتيين يرون أن الشعر صورة عن حياة الإنسان وذاتيته, فترسمه النفس ويمليه الخاطر بكامل الحرية, والعكس عند الواقعيين الذين يرون أن الشعر إرتباط بالواقع وتجرد من الإستغراق في الذات.
ولتوضيح الأمر أكثر, قام الدكتور الطريسي بشرح تصور كلا اللاتجاهين مع تبيان سبب محاولة دحض كل فريق آراء خصمه. فيرى الأمر عند الذاتيين منطلق من كون الشعر تعبيرا عن الوجدان وأسرار الذات, حيث لوحظ تأثرهم بالنزعة الإحيائية بالمشرق العربي, لذلك غيروا وجهة نظرهم للشعر والشاعر, فلم يعد –الشعر- مجرد ثقافة مكملة لشخصية العالم والفقيه, بل أصبح "لغة القلب والعاطفة مقابل لغة العقل في العلم" كما قال عبد المجيد بن جلون.
وبالتالي فإن الشاعر يركز على الذات الإنسانية, لكن هذا التركيز لا يعني الهروب من الواقع المعاش, بل يعني الانطلاق من الذات للوصول إلى الواقع الخارجي وملامسته وفهم الظواهر واكتناه أسرار الطبيعة, لأنه رسول ترسله الطبيعة مزودا بالنغمات كما يقول عبد الرحمن شكري.
ولعل تأثر بعض النقاد بالشعراء الفرنسيين أمثال "لامارتين" و"فيكتور هيغو" جعلهم ينزلون بالشعر العربي والصياغة العربية إلى درجة متدنية, باعتبارهم أصحاب المحسنات والبديع, وأنهم ليسوا كالفرنسيين أصحاب النظرة الإنسانية. وهنا نجد الذاتيين قد أخذوا منحنى جديدا بعد التأثر بالأدب الفرنسي ومحاولة المتح منه باعتباره منبعا للقيم الفنية الجديدة.
هكذا كان هذا الإتجاه منتصرا للذات ومعتمدا على الشعور والإبداع في العملية الشعرية. وهو بذلك مخالف للنقاد الواقعيين الذين يرون أن الشاعر هو الشخص المرتبط بالحياة الواقعية والواصف لهموم الناس والمشارك إياهم المشاكل اليومية, والشعر بما أنه تجربة ذاتية, فلا يمكن أن نفصلها عن الواقع الحي للإنسان.
وقد دأب النقاد الواقعييون إلى توجيه الشعراء نحو إنتاج شعر يعبر عن الواقع, إنطلاقا من التجارب العميقة والمعاناة الشخصية.
وفي الأخير, أعرب الكاتب عن إنكاره للوقوف في موضوع القضايا الوطنية عند حدود الوصف بلغة خطابية بعيدة من لغة الإبداع الفني, بينما العكس هو المطلوب.
الفصل الثاني: الصورة الرؤيا من خلال عناصرها الفنية:
وبالنسبة لهذا الفصل, فقد تناول الكاتب موضوعات القصيدة الرؤيوية التي لا يقف عندها الشاعر موقف الواصف, وإنما يتعدى ذلك للوصول إلى أعماق الكون. لأن الموضوع الواحد عند هؤلاء الشعراء يحمل أكثر من دلالة, ولذلك قام الكاتب بشرح الموضوعات الخمسة لهذا التيار الشعري, والمتمثلة في قصيدة المرأة وقصيدة الطبيعة وقصيدة الحياة وقصيدة الحرية وقصيدة النفس.
فبالنسبة للمرأة, فنجدها تختلف كليا عما ألفناه في الفترات السابقة, لأنها أصبحت موضوعا منفردا في الشعر قبل أن كانت تأخذ الحيز الإفتتاحي على شكل مقدمة غزلية في القصيدة, وأصبحت تحمل عدة دلالات إنسانية قبل أن كانت محصورة في الجسد الأنثوي.
أما الطبيعة فهي الأخرى قد إستقلت بموضوعها وصيغت في صور من الرموز المحملة بالدلالات الكثيرة, كما تخلصت من قيود الواقعية الجافة.
وبخصوص الحياة, فقد جعلها الشعراء ملجأ ليتأمل في الوجود والإستفسار الشاعري حول القضايا الإنسانية.
كما جاءت الحرية في لون جديد من البناء الفني, حيث تتخذ اللغة فيها صفة الرموز أثناء التغني بالحرية والانعتاق.
أ-البنية اللغوية:ولما إنتهى المؤلف من توضيح موضوعات القصيدة الرؤيوية, إنتقل إلى تحليل العناصر الفنية لهذا التيار الشعري. فبدأ بالبنية اللغوية التي تعامل معها الشعراء معاملة خاصة, حيث إنها ليست وسيلة لنقل الأفكار والمضامين, بل هي مادة تحمل العديد من المعاني في الآن الواحد, وهي قابلة للتفجير في كل موضوع متى وُجدت التجربة والمعاناة. كما تجدر الإشارة إلى أن اللغة الشعرية هنا لم تصل الذروة في التعبير, بمعنى أنها لا زالت في صيغة الرمز ولم تتجاوزه إلى الأسطورة. وتتضح ماهية الرموز في قصيدة المرأة من خلال انسلاخها من المفهوم الذي كان متداولا في شعر الفترات السابقة, حيث كانت ىية من الحسن والجمال فقط, فأصبحت فتنة الشاعر, وأصبحت ذاك السر الذي يلفه الغموض إلى الأبد… ولذلك فإن الكلمات تفلت من شرنقتها المعجمية محاولة تكوين معجمها الخاص المرتبط بمعاناة الشاعر. أما بالنسبة للرمز في قصيدة الطبيعة, فقد أخذ شكله الخاص عند هؤلاء الشعراء أيضا, والطبيعة هي المجال الثاني بعد المرأة في شعر الأربعينات, ولم تعد الطبيعة ورودا ووديانا وسحبا… بل أصبحت عناصر كونية تكشف عن رؤى الشاعر وهي محملة بالعديد من المعاني والدلالات الإنسانية.
وفي هذا الصدد, صرح الكاتب بتأثر الشعراء المغاربة بالشعراء الرومانسيين المهجريين بشكل خاص, والأمر هنا لا يتعلق بتقليد أو محاكاة, بل يتعلق بالمعاناة النفسية للشعراء ومدى إرتباطها بالأحداث والظواهر. كما تجدر الإشارة إلى أن القصيدة هنا غالبا ما تبنى على صيغة من الإستفهامات والنداءات والتعجبات. خذ مثلا, قول الشاعر علال الهاشمي الفيلالي :
يا زورقي الحيران في وادي المنى – – – أين الظلال وشاطئ الأحلام؟
ما هذه القيثارة الولهى التي – – – أضحت حطاما في كهوف ظلام؟
إن هذه اللغة تطرح عدة قضايا وجودية ذات علاقة بالنفس الإنسانية, وستظل أسئلتها علامة بارزة في الشعر المغربي الحديث, ويسظل الشعراء الذين مروا من هذه التجربة الفنية رموزا حية تكشف عن تطور مسيرة الشعر وفهم أسرار الفن والأدب.
وبخصوص الرمز في قصيدة الحرية فقد أخذ مساره ابتداءا من شعر ابن ثابت ومن جاء بعده من شعراء معاصرين كعلالبن الهاشمي الفيلالي ومحمد الحلوي ومصطفى المعداوي ومحمد الوديعالآسفي…إلخ. والملاحظ أن المعجم اللغوي الأكثر استعمالا لا يخرج عن قيد القيد والجسد والروح والكون والغيب…. إلى جانب ملامسة الهموم الوطنية التي كانت تشغل بال الشعراء آنذاك, وللحديث في هذا الموضوع, لابد من ذكر قصيدة النفس التي تعد من أهم الموضوعات الأساسية في شعر الأربعينات, حيث كان من الضروري على الشعراء أن يجعلوا شعرهم تعبيرا عن النفس الإنسانية بكل حالاتها, ولأجل ذلك استخدموا لغة مشحونة بالرموز, فتكون لديهم معجم مبني على صور من العلامات والإشارات الدالة على النفس, ويحتاج معها القارئ إلى الكشف عن دلالاتها الغنية وفك رموزها.
ب-البنية الإقاعية:نلاحظ أن صاحب الكتاب إنتقل إلى تحليل العناصر الفنية لهذا اللون من خلال العنصر الثاني المتمثل في البنية الإقاعية, وقد سبق القول أن الإقاع الموسيقي هو العنصر الذي يجعلنا نميز بين النظم والنثر. والإيقاع في شعر الصورة-الرؤيا يتسم بروح من الانسجام بين جميع عناصره, وقد تطرق الكاتب لدراسة هذا الأخير من خلال الأوزان العروضية والقوافي والكلمات والمقاطع الشعرية, ثم الموسيقى الداخلية للنص المنثور, موضحا كل جزء على حدة, بغية توضيح خصائص البنية الإقاعية لدى شعراء هذا التيار. وبالنسبة للأوزان العروضية فإن الشعراء قد تناولوا تجاربهم في شكل موشحات أو بحور تتصف بالحركة والخفة والسرعة, والبحور العروضية هنا لا تخرج عن الخفيف والرمل ومجزوءي الوافر والبسيط, والبحور الطويلة والمديدة تكاد تنعدم في قصائد الحرية والنفس والطبيعة والحياة, والسبب أن التجارب لا تصادف هواها ولا تنسجم إلا في هذه الإيقاعات الموازية للنفس. أما الكلمات والمقاطع الشعرية فقد أكد عنها المؤلف من حيث جرسها ونغمها الموسيقي, وكذا دور المقاطع وقياسات الصوت الذي ينطلق في مسافات متوازية. والشعراء المغاربة حاولوا الملاءمة بين الجرس واللغة, وقد نجحوا في ذلك, ومما ساعدهم على ذلك فضاء الموضوعات المتناولة آنذاك.
ومن جانب آخر فقد لعب التوازي دورا هاما في خلق موسيقى الشعر, كما هو الحال عند ابن ثابت في جل قصائده. وفيما يتعلق بالموسيقى الداخلية في النص الشعري المنثور, فإن شعراءنا حاولوا التخلص من الأوزان العروضية والقوافي, ولكن ذلك كان في نطاق محدود, لأنه لم ينطلق من تجارب حقيقية, بل كان مجرد محاكاة لشعراء مهجريين, كما ظل هذا اللون عند المغاربة دون المستوى الفني, ولعل أبرز نموذج لهذا النمط الشعري هو القصيدة المعروفة "بائع الذكريات" لصاحبها عبد الكريم بن ثابت.
وفي الأخير, إنتقل الدكتور أعراب للمستوى التطبيقي في أطروحته, حيث قام بتحليل قصيدة"حياة" لابن ثابت, وعمل على تفكيك رموزها وطلاسمها الشعرية, كما عمل على إستقراء بنيتها اللغوية والإيقاعية.
وخلاصة القول أن الدكتور أحمد الطريسي أعراب قد وُفق في عمله هذا ونال من خلاله شهادة الدكتوراه, ولا ننسى أنه قد أجاب عن عدة تساؤلات كان قد طرحها في المقدمة. وبغضها مرتبط بالتصور العام للأطروحة, وبعضها الآخر مرتبط بالمستوى التطبيقي. وإن كان مسك الختام هو المبتغى, فقد ختم الكاتب كتابه بخالص الشكر للأساتذة الفضلاء الذين أشرفوا وناقشوا أطروحته, إنه بحق نموذج للباحث المغربي الناجح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.