(آخر مقال منشور قبل اعتقاله) تقديم : أصبحت مدينة بوعرفة وكل إقليم فجيج في العقد الأخير، قلعة من قلاع النضال الاجتماعي، انطلاقا من مؤشر كثرة الوقفات والمسيرات والإضرابات والاعتصام ، إلى درجة أنها صنفت ضمن تقرير لوزير الداخلية ضمن عشر مدن أكثر احتجاجا. لقد تناولت في مقال سابق دواعي الاحتجاجات ببوعرفة وبإقليم فجيج، أما الآن فسأحاول تفسير ما وقع يوم الأربعاء 18 ماي 2011 ببوعرفة، انطلاقا من ربط الأسباب بمسبباتها، واعتمادا على المنهج العلمي الذي يستدعي التحليل الملموس للواقع الملموس . إن أحداث بوعرفة ليوم الأربعاء لها ما قبل، أي أنها إفراز موضوعي لعدة تراكمات سابقة، كما سيكون لها بلا شك ما بعد، على اعتبار أنها ستحسم في مصير الحركة الاجتماعية: إما نحو المزيد من الصمود لتحقيق المزيد من المكاسب، أو نحو الانتكاسة والتراجع. عوامل الاحتقان الشعبي : العامل الأول : استمرار التهميش الممنهج لإقليم فجيج، والذي أرجعه دائما لعوامل سياسية، أي إلى العقاب الجماعي للإقليم، والذي يعود بالدرجة الأولى لكون إقليم فجيج هو الموطن الأصلي للجنرال أفقير، المخطط والمدبر للمحاولتين الانقلابيتين سنة 1971- 1972، وبالدرجة الثانية لكون الإقليم شهد أحداثا مؤلمة، سنة 1959 على اثر الصراع بين جناحي المهدي بنبركة وعلال الفاسي، وميلاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، تاريخيا فان الصراع بين الجناحين كان مسلحا وعنيفا ببوعرفة، وخلف ضحايا ومعتقلين ومختطفين بعد التدخل القمعي لوزير الدفاع اليزيدي آنذاك. كما نذكر أيضا أحداث مولاي بوعزة لسنة 1973 وارتباطها خاصة بالإقليم، خاصة وان الإحداث خلفت شهداء -الصنهاجي ويونس وإبراهيم الزايدي- ومختطفين وهما وزان بلقاسم ووزان حمو والعديد من المعتقلين. كما لا يجب أن نغفل العملية الواسعة لنزع السلاح التي عرفها الإقليم مباشرة قبيل وبعد إحداثه سنة 1974 هذه العملية التي راح ضحيتها المئات من المعتقلين، كما سقط على إثرها احد رجال الأمن بسلاح احد المواطنين، وقد فر على اثر ذلك إلى الجزائر لكونه يتوفر على الجنسية المزدوجة. إن ما أريد أن اخلص إليه هو أن هذا التهميش الممنهج الذي نعانيه بالإقليم، له جذور سياسية تاريخية، وهو لازال مستمرا في الزمان، بحيث لم تستطع توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ولا التعويض المادي للضحايا، ولا جبر الضرر الجماعي أن تمحيه العامل الثاني: إن الجفاف بإقليم فجيج بنيوي نظرا للطبيعة الصحراوية للمنطقة، فالإقليم يعاني من الجفاف لسنتين متتاليتين، وقد اصدر عامل الإقليم بهذا الصدد قرارا عامليا يعتبر الإقليم منطقة منكوبة. إلا أن هذا القرار لم تواكبه إجراءات ملموسة، أي برنامجا استثنائيا لدعم أبناء المنطقة الذين يعيشون على الكسب وتربية المواشي، لقد خصصت الحكومة دعما للجهة يقدر ب 5 مليار سنتيم، في شكل دعم أعلاف المواشي، إلا أننا نسجل بكل مرارة أن حصة الإقليم من العلف المدعم لانعكس حجم الإضرار، كما أن هذا الدعم يستفيد منه كبار الكسابين الذين يتوفرون على أسهم كثيرة بالتعاونيات، وأيضا مسيري التعاونيات، وبعض من لا تربطهم أصلا أية صلة بالكسب وتربية المواشي . العامل الثالث : إن هذا العامل له ارتباط بالخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة وسكن ونقل، فمختلف الخدمات بالإقليم في تقهقر دائم: - فعلى مستوى التعليم: هناك الاكتظاظ، الأقسام المشتركة، الضم، الخصاص في الأساتذة، النقص في الموارد البشرية، فما من مرة سجلنا تعيين الأساتذة في وسط الموسم الدراسي، إن هذه المعطيات لها ارتباط بتراجع التعليم وضعف المردودية طبعا. - على مستوى الصحة: أسجل تراجع الخدمات الصحية، فالمستشفى الإقليمي الوحيد، الذي كان فيما مضى يتبوأ المراتب الأولى وطنيا على مستوى الجودة، احتل سنة 2010 المرتبة الأخير في ترتيب وضعه الوزارة الوصية. ودون الاسترسال في هذه النقطة فموضوع الصحة كان مؤخرا محركا لعدة احتجاجات. - على مستوى السكن: هناك اسر عديدة تسكن بأكواخ بدائية خاصة بحي الخيام والعين الزرقاء وحي نكال في الوقت الذي عرفت بوعرفة عدة توزيعات للأراضي . - على مستوى النقل: إن الطرق الوطنية والجهوية بالإقليم مهترئة، وتسببت في العديد الحوادث، خلفت العديد من الضحايا، علما بان الأشغال في طرق الإقليم – وهذه نقطة سوداء- لا تنتهي فيها ولا يريد لها المسؤولون أن تنتهي. العامل الرابع: يتمثل هذا العامل في أزمة البطالة، فالإقليم لا يتوفر على مؤسسات إنتاجية للتخفيف من هذه الظاهرة الاجتماعية، ويبقى الملاذ الوحيد بالنسبة لأبناء المدينة هي اوراش الإنعاش الوطني، التي لا تكفي لتلبية حاجيات الشغل، ناهيك عن الزبونية والمحسوبية والمحزوبية المتفشية بالنسبة للتشغيل. بالنسبة لعوامل الاحتقان لا يجب القفز على معضلة البطالة محليا، ففرص الشغل منعدمة باستثناء الفرص الهزيلة التي يوفرها الإنعاش الوطني، والتي تنعدم فيها الشفافية والنزاهة، وتتدخل فيها المحسوبية، أما القطاع الخاص فانه لا يشغل إلا النزر القليل وفي ظروف تنعدم فيها حقوق الشغل من حد أدنى للأجور وعطل وضمان اجتماعي... الخ أما أصحاب المقاولات الغير منحدرين من المدينةوالإقليم، فعندما تفوت لهم الصفقات لانجاز مشاريع معينة بالمدينة فأنهم يجلبون معهم اليد العاملة سواء المدربة أو غير مدربة من مناطقهم، ضاربين عرض الحائط اتفاقا بين النقابات والسلطة الإقليمية بنص على ضرورة تشغيل كل مقاول ل 70 في المائة من اليد العاملة المحلية. العامل الخامس : يتمثل هذا العمل في انعدام التواصل الفعال بين مختلف الإطراف، صحيح انه تعقد لقاءات واجتماعات بين المسؤولين والفاعلين الاجتماعيين، من نقابات وجمعيات وهيئات سياسية. بيد أن هذه اللقاءات قليلا ما تفضي إلى خلاصات تجد ترجمتها على ارض الواقع، وفي أحيان كثيرة تكون إما لامتصاص الغضب أو التسويف والمماطلة وربح الوقت، أو تفضي إلى وعود يتبدى مع الأيام زيفها، أو تؤدي إلى اتفاقات تخرق مباشرة بعد الاجتماع . العامل السادس : انه العامل الذي يشعر المواطن ببوعرفة / فجيج بالغبن والحكرة ويتمثل قي اقتصاد الريع، فتصوروا معي في بوعرفة 16 رخصة سيارة صغيرة 14 منها في ملكية أشخاص لا تربطهم أي صلة بالإقليم. أما بالنسبة لرخص استغلال المعادن – الإقليم منطقة منجمية تتوفر على النحاس والمنغنيز والرصاص والزنك والذهب – فلا تسلم إلا لماما للفئات المسحوقة، إنها تسلم للمحظوظين - مغاربة وأجانب - وأسوق هنا مثالا لأحد المستثمرين الايطاليين الذي سلمت له رخصة استغلال منجم المنغنيز ببوعرفة من طرف المندوبية الجهوية للطاقة والمعادن، وقد مكنه هذا الامتياز الاستحواذ على الآلاف الأطنان- سطوك- من المنغنيز تركتها شركة مناجم المغرب خارج المنجم بعد إغلاقه. وقد ذهب الايطالي ولم يعد، تاركا أبناء المدينة يتحسرون من الأسى. إن سكان بوعرفة ينطبق عليهم المثل الشعبي: خيرنا يديه غيرنا أي رغم أن الإقليم يتوفر على خيرات وافرة على المستوى المعدني فان هذه الخيرات لا تساهم في تنمية الإقليم، وتستفيد منها جهات معروفة. العامل السابع: هذا العامل له ارتباط بنهب المال العام ، فمما لا شك فيه أن نهب المال العام يعد جريمة منتشرة في كل المغرب، إلا أن الواقع أفظع ببوعرفة – فجيج، نظرا لعامل البعد، فالإقليم لم يشهد زيارات لجان الفحص، ولا اثر لمجهودات المجلس الأعلى للحسابات، وحتى إن برمجت زيارات لجان المراقبة والفحص فإنها لا تقوم بوظيفتها على الوجه الأكمل، ولا تفعل المساطر. ومن بين الأمثلة الملموسة لنهب المال العام أشير إلى: - مشروع الفيدا الذي كلف 45 مليار سنتيم لتنمية المجال الرعوي. - مشروع ميدا المدعم من طرف الاتحاد الأوروبي لتمدرس أبناء الرحل- 13 خيمة وكل خيمة بمبلغ 12 مليون سنتيم -. وتهريب مليار و200 مليون من نيابة التعليم من طرف الأكاديمية في عهد النائب ومدير الاكاديمية السابقين. - مشروع ميدا لإعادة هيكلة مستشفى الحسن الثاني ببوعرفة. - مشاريع التشجير والقناطر والطرقات. - انعدام الشفافية في تفويت الصفقات العمومية ... الخ، ودائما وفي إطار نهب المال العام يجب أن أشير إلى الترامي على الأراضي الجماعية، أو ما يسمى بالأراضي السلالية، وهي في ملك ذوي الحقوق. للإشارة يتم تفويت أراضي الجموع، بمباركة من السلطات وفي واضحة النهار، وبمبررات واهية وهي الاستثمار، واضع هنا كلمة استثمار بين مزدوجتين، لأننا لم نشاهد بأم أعيننا احد هؤلاء المحظوظين الذي استفادوا من التفويتات، يبني معملا أو يساهم في النسيج الاقتصادي والتخفيف من البطالة، أقول إن البعض يترامى على ارض جماعية، ضدا على أصحاب الحقوق، وذلك باستغلال نواب الأراضي، وهم رجالا طاعنين في السن، بعضهم تجاوز الثمانين على مستوى العمر، وبمباركة بعض رجال السلطة الذين يعرفهم العام والخاص، نظرا لان الوعاء العقاري أخد يتقلص، وهم بتهافتهم على هذه الأراضي يهدفون طبعا إلى تحويلها في المستقبل هذه القطع إلى تجزئات في إطار الضاربات العقارية. إن لوبي الفساد المحلي يستغل هذه الأمور طبعا، للاغتناء الغير مشروع ولسرقة الأراضي الجماعية مستغلين أيضا الصراعات والتطاحنات بين بعض القبائل، وتزكية بعض النخب السياسية الفاسدة. كما لا يجب أن نغفل انه في الوقت الذي يترامى البعض على أراضي الجموع بدون وجه حق، هناك الآلاف من الأسر بدون سكن، فهناك أزيد من 1000 أسرة تسكن في كهوف بدائية ومغارات شبيهة بسكن إنسان ما قبل التاريخ، سواء في حي الخيام وحي الواد وحي العين الزرقاء وحي نكال. وهناك العديد منهم لديهم ملفات على مستوى القضاء بتهمة البناء بدون ترخيص، واغلبهم هدمت مساكنهم وفرضت عليهم غرامات مالية. وهنا تكمن المفارقة الكبرى ففي الوقت الذي تقوم السلطات بزيادة الشحم في ظهر المعلوف، أي لوبي الفساد المحلي، فان نفس السلطات هي التي تحارب الفقراء وتفبرك لهم الملفات القضائية، أي البناء بدون ترخيص. العامل الثامن : يتمثل هذا العامل في الحكرة والقهرة وتعسف السلطة، فالمواطن ببوعرفة – فجيج لا يلمس أي وجود لشعار المفهوم الجديد للسلطة، كما لا يلمس أي مصالحة بين المواطن والإدارة، فأغلب الإدارات تسير بعقليات قديمة وبائدة. كما أن المواطن لا يلمس ما نسميه بالحكامة الأمنية، والتي تعتبر من أهم توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وخير دليل ما عرفته مدينة بوعرفة يوم الأربعاء الأسود 18 ماي 2011، حيث سجلنا خروقات عديدة: - في طريقة فض الاحتجاج. - في طريقة اعتقالات المواطنين والتي كانت عبر المداهمات للبيوت، واعتقال الأطفال وحرمانهم من الأكل، والمس بكرامتهم. - انتهاك السلامة البدنية للمواطنين ضدا على اتفاقية مناهضة التعذيب وسوء المعاملة المصادق عليها من طرف الدولة المغربية سنة 1993. - الاعتداء على الممتلكات الشخصية. - تبادل العنف والسب والشتم بين المواطنين والقوات العمومية... الخ. خلاصة: هذه وجهة نظر متواضعة، أردت المساهمة بها في هذا الظرف بالذات، لنتمكن من وضع الأصبع على الاختلالات، بغية فهم واقعنا المحلي والإقليمي، وأتمنى أن يحذو حذوي غيري من الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين والمثقفين وعموم المواطنين ببوعرفة.