هذا المقال كنت كتبته في السنة الماضية في مثل هذا الوقت تقريبا، تضامنا مع سكان الأطلس المتوسط الذين كانوا تحت رحمة موجة برد قارس، وأراه ما يزال صالحا للنشر( للأسف الشديد)، مادامت محنة هذا الجزء الغالي من أجزاء الوطن مستمرة مع البرد، وقد تجددت هذه الأيام بحدة مع وفاة عدد من الرضع بمنطقة انفكو التي شهدت قبل خمس سنوات مأساة وطنية حين قضى ستة وعشرون رضيعا، بسبب هذا البرد الذي يبدو أنه يقتل في المغرب فقط. نسجا على منوال الكاتب المصري طه حسين ، الذي عنون أحد كتبه ب" المعذبون في الأرض" وقد قص فيه معاناة المصريين الفقراء والبؤساء والمحرومين والمعدمين... نسجا على منواله عنونت هذا المقال ب "المعذبون في الأطلس"، لما رأيت أن لهم مكانة "محترمة" بين معذبي طه حسين. وإن كان من فضل لهذه الحالة المناخية الموسمية، فهو تذكير الناسين أو المتناسين ، أن هناك أقواما منا ، شاءت لهم الأقدار أن يروا النور في المغرب العميق أو المغرب غير النافع بلغة المستعمر الفرنسي ، يعانون من الإقصاء والتهميش و"الحكرة" ليس فقط في فصل الشتاء والبرد ،وإنما طيلة الفصول الأربعة، نظرا لانعدام أدنى ضروريات الحياة الإنسانية الكريمة ، حيث تفتقد المنطقة إلى أبسط الخدمات الأساسية والبنيات التحتية الضرورية ، وحتى إن توفر بعضها، فإنه لا يعدو أن يكون وجوده شكليا، مثل مدرسة وحيدة معزولة في رأس جبل ، متروك أمرها لضمير أستاذ مغلوب على أمره، أو مستوصف وممرض وحيد لا حيلة له في غياب أدنى الإمكانيات...هذا في الوضع الطبيعي ، أما في فصل الشتاء، حيث يحل الصقيع والبرد القارس وتزحف الثلوج على المكان فتسد كل المنافذ وتشل حركة الساكنة، فإن الحياة تتعطل بشكل كامل تقريبا.فكل واحد يغلق باب بيته أو باب كوخه على الأصح ، بعد أن يكون قد جمع من حطب التدفئة ما قدر له أن يجمع. تصوروا معي حال امرأة يفاجئها مخاض الوضع في ليلة ليلاء من ليالي يناير أو فبراير، وهي بين مطرقة ألم الوضع الذي يعصر جسمها النحيف و سندان لسعات البرد الذي يجمد الدم في العروق والثلوج التي تحاصرها من كل اتجاه... من لها غير زوجها الحيران التائه العاجز، وقد ملأ أنين الزوجة وصراخها المكان ... اسألوهم عن الدولة أو التنمية البشرية التي صدعوا رؤوسنا بها ...، وستسمعون الجواب: "ماعندنا غير الله" تصوروا حال طفل متجمد الأطراف يخرج باكرا إلى مدرسة بعيدة جدا، وهو يمشي وحيدا مثل جندي مخذول.. بالكاد يحمل رجليه ، يحذر أن تخذله إحداهما فينزلق، بينما هو ينتقل من مسلك وعر إلى من هو أشد منه وعورة...... تصورا حال فتاة لم يتجاوز عمرها 16 سنة ، قد تزوجت وأنجبت وانتهى الأمر... وهي الآن منهمكة في عملها، تحمل طفلا على ظهرها وتجر آخر... إن الناظر في هؤلاء، من ناحية ملبسهم ومأكلهم ومشربهم ونمط حياتهم ، لن يتردد لحظة في اعتبارهم بقية من مونوغرافيات المغرب القرن 19 الذي وصفه الرحالة والمغامرين الأوربيين في إطار عملية استكشافهم له تمهيدا لاحتلاله . هذا هو حال جزء مهم من مغرب القرن 21 ، أما مغرب الواجهة، فمنشغل بالمهرجانات التي لا تنتهي إلا لتبدأ، والحفلات الفنية الباذخة، حيث الأموال تصرف بسخاء على فنانين تافهين يحسنون كل شئ إلا الغناء...كما تصرف على محطات سياسية مزيفة، تستعمل أساسا للتمويه والتدجين وإعادة إنتاج نفس الوضع الكارثي الذي تعيشه البلاد... هذا هو الأطلس الذي لا يتذكره أحد إلا في معرض الحديث عن تنوع وغنى المغرب التراثي والفولكلوري....أو أثناء الحملات الانتخابية ، حيث يستعيد تجار السياسة نفاقهم عفوا نشاطهم، فتسرج لهم الحمير والبغال، فيطوفون على المساكن المتناثرة في الجبال والسهول ، وبعدما يوزعون على البسطاء ابتسامات النفاق والشقاق، ويغدقون عليهم الوعود والأماني... يعودون أدراجهم إلى أحيائهم الراقية و فيلاتهم الفخمة ، ولا يحتفظون بشئ من تلك الذكرى غير الصور التي التقطوها مع "المخلوقات العجيبة" من أجل التسلية وربما للتباهي بها أمام الأصدقاء والأعداء بصفتهم مناضلين حقيقيين،استطاعوا الوصول ذات يوم إلى عمق المغرب غير النافع. إن الاحساس الذي يتولد عن مثل هذا الوضع، هو الشعور ب"الحكرة" والظلم، ظلم ذوي القربى الذي قال عنه الشاعر : وظلم ذوي القرب أشد مضاضة على المرء من الحسام المهند وغير خاف تداعيات هذا الأمر على وحدة النسيج المجتمعي، وكذا في إيقاظ النعرات الجهوية والاثنية .. على من يهمهم الأمر أن يتقوا الله في هذا الوطن، كفى ترييشا ونتفا لمقدراته... لقد صارعاريا تماما وانكشفت عورته للعالمين. إن الله يمهل ولا يهمل .