قام النظام السياسي التركي الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك مع إعلان الجمهورية التركية عام 1923 على تحفيز الروح القومية التركية بشكل كبير، مقابل إقصاء بعدين أساسيين هما: الهوية الإسلامية والتعدد القومي. وقد نص هذا الأمر بشكل واضح في أول دستور تركي تم إقراره عام 1924، ومنذ ذلك الوقت اصطدمت كل حركة سياسية ترمي إلى الإصلاح والديمقراطية بالثوابت الدستورية لهذا النظام، إلى أن تمكن حزب العدالة والتنمية من الوصول إلى السلطة عام 2002 ونجح عبر سلسلة خطوات تكتيكية من تفكيك بنية هذا النظام، إلى أن أصبح حزبا يتحكم بالرئاسات الثلاث (الجمهورية والبرلمان والحكومة)، في حين بقيت قضية الإصلاح السياسي من أهم القضايا التي تحتل ساحة الحراك السياسي في البلاد. ضرورة التعددية تعد التعددية السياسية بمفاهيمها الدينية والقومية والاجتماعية والسياسية والثقافية من أهم خصائص الدول الكبرى، لا سيما تلك الدول التي تتمتع بعمق حضاري كالدولة العثمانية والعربية والصفوية عبر التاريخ. ومع أن هذه التعددية كانت من أهم سمات تركيا في عهد الدولة العثمانية تاريخيا، فإنها في عهد الجمهورية تعرضت للإقصاء والتهميش والمحاربة إلى درجة أنها كانت مستهدفة سياسيا ودستوريا. وقد تجلى هذا الأمر في المرحلة التي سبقت حكم حزب العدالة والتنمية على شكل صراع بين العلمانية والإسلام، قبل أن ينتقل في مرحلة حكم حزب العدالة والتنمية إلى صراع بين الحزب والقوى الاجتماعية والسياسية المعارضة اتخذ شكل صراع على السلطة والهوية والدستور بحثا عن النموذج. لعل المشكلة الأساسية التي تتميز بها تجربة حزب العدالة والتنمية هي أنها تعتمد على صندوق الانتخاب وحده كمسار ديمقراطي، على حساب الديمقراطية كمفاهيم وسلوكيات وممارسات تُراكِم من التجربة الديمقراطية وترسخها. وبسبب هذا المسار فإن قضية الإصلاح أخذت طابع الانقسام السياسي والمواجهة الاجتماعية والحزبية والصراع على الهوية في بلد تشكل الهوية هاجسا أساسيا ودائما، لأسباب تاريخية وجغرافية وسياسية ظلت تحكم الخيارات السياسية لتركيا طوال القرن الماضي. دون شك، فإن ضرورة التعددية بمفاهيمها المختلفة، تنبع من الخصوصية الاجتماعية المفتوحة على هويات تاريخية عجز حتى الآن الوضع السياسي السائد عن الاعتراف بها كهوية أصيلة قائمة في الصيرورة الاجتماعية، وعليه فإن التحول الذي أحدثه حزب العدالة والتنمية في إعادة الاعتبار للهوية الإسلامية بقي عاجزا حتى الآن عن إحداث التحول المطلوب تجاه الهويات القومية، ولا سيما القومية الكردية التي تعرضت للكثير من التهميش والإقصاء في مرحلة أتاتورك. وكذلك ما أنتجته المرحلة الأخيرة من قوى صنفت بالعلمانية ولها ثقل ومؤسسات مختلفة في بنية النظام السياسي وخاصة المؤسسة العسكرية التي أناطت بنفسها طوال العقود الماضية مهمة الحفاظ على الأسس العلمانية التي تأسست عليها الجمهورية التركية. وعليه، فإن قضية الإصلاح السياسي الذي يحقق الاستقرار لتركيا والهوية القومية للكرد والاعتبار السياسي للقوى الحزبية والاجتماعية المختلفة، فضلا عن توفر الآليات الدستورية التي تعكس هذا التحول، تعد من أهم التحديات التي تواجه حزب العدالة والتنمية في مرحلة ما بعد توطيد أركان حكمه وقيادته مؤسسات الدولة وتطلعه إلى بناء تركيا جديدة. الخوف من التعددية لعل الخوف من التعددية بتركيا ينبثق أساسا من الخشية من الانفصال الكردي في ظل التطلعات الكردية المطالبة بدولة مستقلة والصعود الكردي في المنطقة وخاصة في العراق وسوريا، إذ يمكن القول إن الكرد كانوا أكثر المستفيدين من "ثورات الربيع العربي"، فخلافا لحالة العرب حيث الحروب والفوضى والتفكك.. نجد أن الكرد استفادوا من هذه الثورات في بناء كيان أو كيانات قومية وأقاموا حكومات محلية لها مؤسسات عسكرية وإدارية واقتصادية على شكل بناء أسس دولة أو الاستعداد لإعلانها. ومع أن تركيا خارج دول الربيع العربي فإن الحلم الكردي بدأ يشق طريقه إلى هناك، عندما أعلن مؤتمر المجتمع الديمقراطي الذي عقد في ديار بكر (حضره قرابة ألف شخصية من عشرات المنظمات والأحزاب الكردية) قبل نحو شهرين عن نيته إقامة حكم ذاتي، بل إن زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديمرداش ذهب إلى حد التلويح بإقامة دولة كردية مستقلة، وهو ما أثار ردود فعل عنيفة من الجانب التركي وصلت حد مطالبة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمحاكمته على تصريحاته، قبل أن تطالب شخصيات وقوى سياسية برفع الحصانة البرلمانية عنه وتقديم دعاوى ضده إلى المدعي العام تمهيدا لمحاكمته بتهم خرق الدستور والسعي للانفصال. ولعل مثل هذا التطور على الساحة الكردية فجر الخوف التركي الدفين إزاء القضية الكردية في الداخل وأثار من جديد غبار اتفاقية سيفر 1920 التي كانت أول اتفاقية دولية تقر بإقامة دولة كردية في جنوب شرق تركيا. وما يزيد القلق التركي هنا، هو اعتقاد أنقرة أن ثمة لاعبين إقليميين ودوليين -خاصة إيران وروسيا- يريدون استخدام الكرد ورقة في الصراع معها على الأزمة السورية وغيرها من القضايا الخلافية. وعليه، فإن قضية التعددية على هذا الصعيد لم تعد بالنسبة لأنقرة قضية متعلقة ببنية النظام السياسي في البلاد، بقدر ما هي قضية تخص مستقبل الدولة نفسها، إذ إن التحدي الكردي بات يطل برأسه من الزاوية الجغرافية لا من زاوية تصحيح المظالم والسياسيات الإقصائية التي مورست ضد الكرد. والمعضلة الأساسية هنا تكمن في كيفية إطلاق عملية سلام أو مصالحة تفضي إلى تحقيق الاستقرار لتركيا والهوية للكرد، إذ في كثير من اللحظات تبدو تركيا متشنجة أكثر مما تمتلك خطة واضحة وعملية للدفع بهذه العملية إلى قطار الحل، وهو ما يجلب لها المزيد من التوتر في الداخل ومع الخارج، فالحرب ضد حزب العمال الكردستاني تحول إلى حصار لمدن وبلدات ووقوع ضحايا مدنيين وتدمير لمناطق، وهو ما جلب لها انتقادات كبيرة من مؤسسات ومنظمات حقوقية وإنسانية، فضلا عن مؤسسات ثقافية وفكرية كان أبرزها بيان الأكاديميين (1180 أكاديميا من داخل تركيا وخارجها)، وهو البيان الذي أثار جدلا كبيرا داخليا وخارجيا، خاصة بعد انتقاد أردوغان الشديد له واتهامه الموقعين عليه بالجهل ودعم الإرهاب. الخلاصة هنا، أنه إذا كان الخوف من التعددية القومية مبرَّرا من الجانب التركي، فقد باتت هذه القضية -في الوقت ذاته- تتطلب شجاعة كبيرة للاقتراب منها، بعدما أصبحت قضية مزمنة غير قابلة للتأجيل، وبحاجة إلى حل سياسي مقبول، خاصة أن التجربة التاريخية لهذه القضية تؤكد أن الحل العسكري لا يمكن أن يحقق نتيجة في المستقبل. بحثا عن النموذج ربما يعتقد الرئيس أردوغان أن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة وفرت فرصة للانتقال إلى النظام الرئاسي الذي يتطلع إليه منذ زمن بعيد، وأن هذا النظام سيوفر فرصة كبيرة للوصول إلى تركيا قوية مؤثرة تحت رئاسته، نظرا لأنه سيعطيه صلاحيات قوية ومباشرة في كل ما يخص السياسة التركية داخليا وخارجيا. ومنذ لحظة الإعلان عن نتائج الانتخابات، يجري الحديث عن الانتقال إلى نظام رئاسي كأولوية، إلى جانب أولوية وضع دستور جديد للبلاد يضع نهاية للدستور الذي وضعه العسكر عقب الانقلاب العسكري عام 1980. ولكن المشكلة هنا هي أنه رغم الفوز الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية، فإن حصوله على 317 مقعدا برلمانيا لا يعطيه الصلاحية الدستورية لإقرار النظام الرئاسي أو إقرار دستور جديد للبلاد من داخل البرلمان، فهذا الأمر يحتاج إلى 367 صوتا من أصل 550، أو إلى 330 صوتا برلمانيا للدعوة إلى استفتاء شعبي على أي مشروع قرار بشأنه. ومما يزيد من صعوبة تحقيق رغبة أردوغان هذه، رفض الأحزاب التركية الممثلة في البرلمان الانتقال إلى النظام الرئاسي مقابل تمسكها بالنظام البرلماني بوصفه ضامنا لقواعد اللعبة الديمقراطية في البلاد. بيد أن هذا الواقع لم يمنع أردوغان من التمسك بالنظام الرئاسي والسعي للمضي نحوه، فالرجل وضع إستراتيجية مركبة من خطوتين أو مرحلتين لكيفية تحقيق هذا الهدف، على شكل معركة جديدة لا تقل صعوبة عن معركة الانتخابات: الأولى- إطلاق مشاورات واسعة مع أحزاب المعارضة وخاصة حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية، من أجل التوصل إلى صيغة توافقية بشأن الدستور الجديد والانتقال إلى النظام الرئاسي. واللافت أنه يتم وضع هذه الخطوة في إطار الإصلاحات السياسية لتطوير النظام السياسي في البلاد. كما أن أردوغان يحمّل أحزاب المعارضة مسؤولية الفشل إذا لم تنجح المشاورات في التوصل إلى اتفاق، إذ يعتقد أن الشعب حين صوت له بنسبة 52% في الانتخابات الرئاسية، ولحزب العدالة والتنمية بنحو 50% في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فإنه صوّت عمليا لأجندته السياسية، إلا أن الذي يمكن ملاحظته بهذا الخصوص أن جهود حزب العدالة والتنمية أخفقت حتى الآن في إقناع أحزاب المعارضة بالانتقال إلى النظام الرئاسي أو حتى الموافقة على الدستور الجديد. فالمعارضة ترى أن الكثير من البنود المطروحة في هذا الدستور تكرس أيدولوجية حزب العدالة والتنمية، وتساهم في أسلمة المجتمع والدولة، على حساب الأسس العلمانية التي تأسست عليها الجمهورية التركية، فضلا عن كونها ترى أن النظام الرئاسي يكرس حكم الفرد ويمهد لنوع من الدكتاتورية في الحكم. الثانية- ثمة من يرى أن فشل المرحلة الأولى من خطة أردوغان سيدفعه للتوجه إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، ولكن الطريق إلى هذه الانتخابات لن يكون سهلا، إذ يقوم على كيفية الحصول على أصوات القوميين الأتراك والكرد من أجل الحصول على الأصوات المطلوبة لإقرار مشروع النظام الرئاسي في البرلمان. في الواقع، يمكن القول إن ما بين التطلعات السلطوية من بوابة صندوق الاقتراع وبين الديمقراطية كمفهوم وممارسة، تكمن مشكلة النموذج السياسي في البلاد الذي له علاقة ببنية وطبيعة النظام السياسي من جهة، وبالخيارات السياسية للبلاد من جهة ثانية، في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ تركيا والمنطقة.