العادات الغذائية هي مرآة التباين الاجتماعي وهوة اللامساواة في الولاياتالمتحدة أكثر مما هي الحال في البلدان الأخرى. ويُلاحظ أن نوعية الأنظمة الغذائية تتحسن مع زيادة العائدات ومستوى التعليم. وبعض الخبراء يحذرون من تعاظم الهوة الغذائية بين الميسورين وغير الميسورين عاماً بعد عام. وهذه الظاهرة لا تقتصر على أميركا، بل هي تبرز كذلك في أوروبا. وخير دليل على الظاهرة هذه في فرنسا هما حادثة التدافع لاستفادة من عرض «نوتيلا» بسعر أدنى، وما تلاها من نقاشات. ويُعزى التباين الاجتماعي تارةً إلى توزيع انتشار المتاجر الكبيرة توزيعاً غير عادل، وتارة أخرى إلى قلة التوعية في أوساط الأكثر فقراً. ولكنني في كتابي «مذاق اللامساواة: قيمة الغذاء الرمزية على السلم الاجتماعي– الاقتصادي» (بالإنكليزية، 2017)، دحضتُ مثل هذه التفسيرات. وسعيت منذ 2014 إلى جواب هذه المسألة جواباً على وجه أمثل، وأنجزت دراسة تناولت العادات الغذائية تحتسب القيمة الرمزية والثقافية التي يربط الناس بينها وبين الغذاء. وجلتُ طوال 3 أعوام في خليج سان فرانسيسكو، والتباين الاجتماعي فيه كبير وذائع الصيت، وقابلت 73 عائلة ووقفتُ على عاداتها الغذائية. وتابعت طوال شهرين، ومن كثب، تفاصيل حياة 4 أسر من أوضاع اجتماعية– اقتصادية متباينة، وشاركتُها مسارات حيواتها اليومية: رحلاتها إلى السوبرماركت أو حين تناول الوجبات والأعين مسمرة على شاشة التلفزيون. وخلصت إلى أن العادات الغذائية في العائلات الأكثر فقراً ليست من بنات شح المال والجهل فحسب، بل هي في مثابة ترياق يُلجأ إليه ضد «سموم» العوز والفاقة والفقر. والحق يقال سبق أن وثق خبراء الصحة العامة الطابع الاجتماعي- الاقتصادي للتباينات الغذائية، أي أن العائلات الميسورة تتناول غذاء صحياً أكثر من غذاء الأسر الأكثر فقراً. ولكن تعذر على هؤلاء تفسير سبب التباين هذا، والإحصاءات غير قادرة على تقديم صورة عن أوجه وأسباب اختيار الغذاء: أتُشترى هذه السلعة الغذائية لأنها متدنية السعر أو لأن مذاقها يعجب الشاري؟ وهل يقع الخيار عليها لأنها سهلة الإعداد والتحضير، أم لأنها مفيدة للصحة؟ ويبدو أن عاداتنا الغذائية لا تعود إلى سمة واحدة من هذه السمات/ العوامل (تدني السعر، طيب مذاقها، أثرها الصحي…)، بل إلى تفاعل هذه العوامل كلها وغيره من العوامل. وغالباً ما يقال إن التباينات الغذائية مردها إلى سوء اطلاع الأكثر فقراً على ما هو مفيد لصحتهم وما هو ضار. ولكنني خلصت إلى خلاف التفسير هذا: لا يخفي الأهل الذين تابعتهم، سواء كانوا ميسورين أو معوزين، أن الفائدة الصحية المرجوة من تناول الفاكهة والخضار كبيرة، ولا يخفاهم كذلك أن المشروبات الغازية ووجبات الطعام السريع غير مغذية. ولكن لماذا يترتب على المعرفة المشتركة هذه بين الميسورين والفقراء مسارات غذائية مختلفة. ولا شك في أن سعر المنتج الغذائي وازن في الخيارات الغذائية وأن وزنه هذا يختلف من طبقة اجتماعية– اقتصادية إلى أخرى. ولكن النظام الغذائي لا يعود فحسب إلى سعر المنتج الغذائي والوضع الاقتصادي- الاجتماعي، ففي الولاياتالمتحدة الغذاء الصحي باهظ الثمن، شأن تناول الوجبات السريعة المعروفة ب «جانك فود» (وقيمتها الغذائية ضعيفة ومعدل السعرات الحرارية والدهون فيها مرتفع). فوجبة كاملة في مطعم وجبات سريعة سعرها نحو 10 دولارات، في حين أن كلفة صحن أرز وفاصولياء منزلي الإعداد لا تتجاوز دولار واحد. وتابعتُ موازنة أسرة معوزة صغيرة، تعيش في شقة مشتركة مع آخرين، فالوالدة تبحث عن عمل: وكانت تبتاع الغذاء لابنتها حين عودتها إلى المنزل كل مساء. وكثير من الدراسات الكمية يفترض أن قيمة الغذاء مادية، وأننا نأكل لنغذي أجسامنا. ولكن الغذاء ليس وسيلة بقاء فحسب: فالطعام له قيمة عاطفية وثقافية وازنة. والغذاء هو جسرنا إلى القول من نحن، وإظهار أننا نبادل من نحب المشاعر ونعتني بهم، فقيمة الغذاء الرمزية تتباين مع تباين السياق الذي يربي فيه الأهل أولادهم: هل يربونهم في ظروف ميسورة فيها وفرة أو هم فقراء. ويضطر الأهل الفقراء إلى رفض طلب أولادهم شراء أشياء صغيرة مثل حذاء جديد، أو طلبهم أشياء أكثر أهمية مثل دخول الجامعة وتسديد أقساطها. ولكن رفض طلبات الأولاد عسير عاطفياً. وأمام سيل الرفض الجارف لما يطلبه الولد، وفي وقت يتعذر عليهم منحه ما يريد، في متناول الأهل الموافقة على طلبه وجبات غير مفيدة. والأطفال هم «هدف» الدعايات الأبرز للترويج للسكاكر وغيرها. وغالباً ما يسع الوالدين إنفاق دولار واحد على شراء سكاكر لولدهم أو كيس شيبس (رقائق البطاطا) أو عبوة مشروع غازي. فيشعر الأهل حين شراء مثل هذه الأشياء بالرضى عن أنفسهم لأنهم استجابوا طلب أولادهم. ويرى هؤلاء أن علامة اهتمام الأهل وعنايتهم بهم هي النزول على ما يطلبون، فالغذاء هو وسيلة فورية ومباشرة ومتدنية الكلفة لعيش أمر إيجابي في ظروف حياتية صعبة: فهو يخفف شعور الأطفال بالحرمان اليومي. وعلى خلاف الفقراء، يسع الأهل الأثرياء أو الميسورين حين تنشئة طفلهم قبول شطر راجح من طلباته… والطعام يكون مناسبة لنقل بعض القيم إلى الأولاد: الإمساك، والصبر، وحتى المكافأة حين الالتزام بما يطلب منهم. والجامع بين الأهل كلهم هو الرغبة في حماية مصالح أطفالهم، ومدهم بالغذاء والحب: ولكن أوجه بلوغ الرغبة هذه وثيقة الصلة بالوضع الاقتصادي. ويبدو أن الوالدين عموماً يميلان إلى مقارنة أنفسهما بنظرائهما، وخصوصاً حين يتحدرون من طبقة اجتماعية- اقتصادية ميسورة. وشاغل هؤلاء هو التغذية، ويتبادلون الكلام عن أفضل الأغذية وأمثلها، ويحسبون أن الآخرين يقدمون لأبنائهم ما هو أفضل مما يقدمون هم، ويسعون إلى مضاهاتهم. وعلى خلاف الميسورين، تقارن العائلات المتدنية الدخل حالها بعائلة عوزها أكبر. وتسعفها هذه المقارنة في الشعور بأنها ليست سيئة، في وقت أن المجتمع كله يوحي لها بأنها تسيء تدبير شؤون الأولاد وصحتهم. والفقر ليس فحسب غياب البحبوحة المالية، فعلى سبيل المثل في الولاياتالمتحدة يُفتقر إلى شبكات أمان اجتماعي. ومصير المرء متروك له: في تأمين رعايته الصحية والعيش في حي آمن، والتعليم. وبعض الأهل ينوء تحت ثقل مشاغل كثيرة، ليس بينها تناول ولدهم مشروباً غازياً، في حين أن الميسورين في مثل هذه الحال يبحثون عن سبل ثني الولد عن المشروب الغازي. وأرى أن السبيل إلى تغيير قيمة الغذاء الرمزية في أوساط الأهالي المعوزين، هو إخراجهم من هشاشة أحوالهم الاقتصادية، ومنحهم القدرة على تلبية حاجات أسرهم تلبية أكثر انتظاماً. ولا غنى عن إرساء الاستقرار الاقتصادي والمكانة الاجتماعية والكرامة. فلا يعود شراء كيس الشيبس السبيل الأوحد إلى إعلام الأهل ذريتهم بأنهم يهتمون لأمرهم. ولاحظت أن السكن في ظروف هشة ومدقعة يؤثر في العادات الغذائية: فإذا كان المرء يجهل مصيره في الشهر المقبل ولا يعرف إن كان سينام في العراء، يأكل ما يشعره برضى فوري ولا يفكر في صحته على الأمد الطويل.