د. بشير موسى نافع بدأت قوات الجيش التركي، بصحبة قوات من المعارضة السورية، عملية كبيرة في منطقة عفرين، شمال غربي سوريا، منذ صباح السبت 20 كانون الثاني/يناير. هدف العملية، طبقاً لأنقرة، تطهير عفرين وجوارها من المسلحين الموالين لحزب العمال الكردستاني، ومعسكرات التنظيمات اليسارية التركية الأخرى، التي وجدت ملاذاً آمناً تحت مظلة الحزب. وتقول تركيا أن العملية ستمتد بعد ذلك إلى منبج، التي كان يفترض تطهيرها من السيطرة الكردية أثناء عملية درع الفرات، التي أطلقت في آب/أغسطس 2016، وتأمين منطقة بعمق 30 كيلومتراً على طول الحدود السورية التركية غرب الفرات. دفعت تركيا بقوة عسكرية كبيرة إلى عفرين، تقدر بأكثر من عشرين ألفاً من القوات المحمولة والمدرعة، القوات الخاصة، وآلاف آخرين من المعارضة السورية، والذين سبق أن لعبوا دوراً رئيسياً في عملية درع الفرات. إضافة إلى ذلك، شاركت 72 طائرة من سلاح الجو التركي في اليوم الأول من العملية، التي أطلق عليها، في دلالة لا تخفى، اسم «غصن الزيتون». قوة بهذا الحجم لا يجب أن تثير الاستغراب؛ لأن أهداف العملية لن تكون سهلة. فإلى جانب عشرات القرى العربية والكردية المأهولة، يعيش في مدينة عفرين عدة مئات الآلاف من السوريين، أغلبهم من السوريين الكرد، ولكن بينهم الكثير من العرب والتركمان، ونسبة ملموسة من المهاجرين من مناطق الحرب الأخرى، كذلك. بفضل صمت أو تشجيع نظام حافظ الأسد، اعتبرت عفرين منذ التسعينيات منطقة نفوذ للعمال الكردستاني، ومركز تجنيد هام لمسلحيه. ولذا، فإن كانت درع الفرات، التي استهدفت وجود داعش في مثلث جرابلس-إعزاز-الباب، استمرت لما يقارب الثلاثة شهور، فإن غصن الزيتون قد تتطلب وقتاً لا يقل عن ذلك. لن تقل عملية غصن الزيتون تعقيداً عن درع الفرات؛ وقد تكون خسائرها أكبر، سواء بين القوات المتحاربة، أو المدنيين. والمحزن أن هذه المواجهة هي بالمعنى السياسي فقط معركة بين الجيش التركي والمسلحين الأكراد. بالمعنى الإثني، تضم قوات الجيش التركي جنوداً أتراكاً وعرباً وكرداً، إضافة إلى وحدات المعارضة السورية العربية، يقف في مواجهتهم مسلحون أكراد، وعدد من مسلحي تنظيمات اليسار التركي، وربما بعض العرب المنضوين في ما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية. هذا صدام أهلي مشرقي بامتياز. فمن المسؤول فعلاً عن هذه العملية، وعن عواقبها؟ مهما كانت الانتقادات للطريقة التي أدارت فيها أنقرة الأزمة السورية، في سنواتها السبع، فالمؤكد أن تركيا لم يعد أمامها من خيار. يتعهد حزب العمال الكردستاني حرباً ضد تركيا وشعبها، بما في ذلك كل من يختلف معه من الكرد الأتراك، منذ 1984. وبالرغم من أن حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة تبنت مقاربة جديدة للمسألة الكردية، وأن عملية سلمية لحل شامل أطلقت بالفعل في 2013، كان العمال الكردستاني هو من انتهك وقف إطلاق النار في صيف 2015. وعندما بدأت الأجهزة الأمنية التركية حملتها من جديد ضد الإرهاب المسلح، أكتشفت أن العمال الكردستاني كان يكذب ويخادع طوال فترة العملية السلمية؛ وبدلاً من سحب السلاح والمسلحين من البلاد، استغل الحزب فترة الهدوء لتكديس المتفجرات ونشر الخلايا المسلحة. خلال العامين الماضيين، هزمت انتفاضة العمال الكردستاني المسلحة في جنوب شرقي تركيا، وفككت العشرات من خلاياه. كما أخفق الحزب، خلال فترة الاضطراب التي أعقبت صعود داعش، في تأسيس موقع صلب له في كردستان العراق. في سوريا، كانت حظوظ العمال الكردستاني، وفروعه، أفضل. تعاونت امتدادات الحزب السورية مع النظام في سنوات الثورة الأولى لتوكيد سيطرتها في عفرين وشمال شرقي سورية، منتهجة سياسة فاشية لاجتثاث كل القوى المعارضة، سيما تلك المنضوية في المجلس الوطني الكردي. ومنذ بداية عملية تحرير عين العرب – كوباني في 2014 – 2015، وضع الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني تحت رعاية أمريكية. بفضل هذه الرعاية، تسلمت الوحدات الكردية عشرات شحنات السلاح الأمريكية، سواء عبر مطارات سورية صغيرة، سيطر عليها الأمريكيون، أو عبر شمال العراق. لم يصل السلاح الأمريكي للوحدات التي تقاتل داعش وحسب، بل وإلى كافة مناطق تواجد المسلحين الأكراد، بما في ذلك عفرين. وسرعان ما بدأ السلاح الأمريكي في التسرب إلى داخل تركيا نفسها، لتستخدمه خلايا حزب العمال في هجماتها الإرهابية ضد الدولة والشعب التركيين. إضافة إلى ذلك، قام الأمريكيون، حتى الآن، بتدريب الآلاف من الأكراد على القتال. في بعض المواقع المهددة من تركيا أو المعارضة السورية المسلحة، دفع الأمريكيون قواتهم أو رفعوا أعلامهم لتوفير الحماية الضروية للوحدات الكردية. ومن أوهام القوة، التي وفرتها الحماية والإمدادات الأمريكية، مضى الديمقراطي الكردستاني السوري وأذرعه المسلحة، بتوجيه مباشر من قادة العمال الكردستاني في جبال قنديل، نحو إقامة منطقة حكم ذاتي كردية، تمتد من حدود العراق إلى ساحل المتوسط، على طول الحدود مع تركيا. لتحقيق هذا الهدف، تعهدت وحدات حماية الشعب الكردية حملة تطهير عرقي للعرب والتركمان، طالت عشرات القرى العربية والتركمانية في كافة المناطق التي وقعت تحت السيطرة الكردية المسلحة. بيد أن المسؤولية لا تقع فقط على كاهل العمال الكردستاني. الولاياتالمتحدة مسؤولة أيضاً. ليس ثمة متابع لشؤون المشرق، كردياً كان أو غير ذلك، لا يعرف العلاقة العضوية بين العمال الكردستاني، التركي، والديمقراطي الكردستاني في سوريا، بكافة المسميات والمنظمات التابعة له. الأمريكيون، الذين يصنفون العمال الكردستاني منظمة إرهابية، وتربطهم بتركيا صلات تحالف تاريخية، وحدهم من يدعي أن التنظيمات السورية مستقلة عن العمال الكردستاني. ولأن تركيا أصبحت من القوة بحيث يصعب إخضاعها لإرادة واشنطن، وجد الأمريكيون في الأكراد السوريين أداة مناسبة لتحقيق أهدافهم في المنطقة. يسعى الأمريكيون لتأسيس وجود بعيد المدى في سوريا، يستند إلى حلفاء طيعين، يؤمن لهم شراكة آمنة في تقرير مصير سوريا. كما يعملون على قطع طريق التواصل الإيراني نحو المتوسط، وتقليص نفوذ إيران وحلفائها في الإقليم. منع داعش من العودة لإقامة منطقة نفوذ آمنة، بات في الحقيقة هدفاً ثانوياً. ولتحقيق هذه الأهداف، لا يكترث الأمريكيون كثيراً بأمن تركيا، ولا بوحدة سوريا. خلف كل هؤلاء، ثمة مسؤول أولي عن هذه الفوضى الدموية التي تغرق سوريا وشعبها، يجب أن لا يجري تجاهله أو نسيانه: الأسد وحلفاؤه الإيرانيون. الأسد وحلفاؤه في طهران هم من قرر مواجهة حراك الشعب السوري السلمي ومطالبه المتواضعة في الإصلاح بالسلاح وسفك الدماء. وهم من دفع ثورة الشعب من أجل الحرية والعدالة إلى هوة الحرب الأهلية؛ وهم من انتقل بالثورة من مستوى الأزمة الداخلية إلى الحرب الإقليمية. وبعد أن عجزوا عن هزيمة الشعب وقواه، لم يبالوا بتحول الأزمة إلى نزاع دولي، متعدد الأطراف. ستضطر أنقرة لعقد صفقات وتقديم تنازلات سياسية، لروسيا أو غيرها، لإنجاز أهدافها من عملية عفرين ومنبج. وليس من المستبعد أن تتعرض تركيا لضغوط أمريكية، أو حتى لانتقام أمريكي. ولكن المؤكد أن الشمال السوري لن يصبح دولة كردية، لا تحت سيطرة العمال الكردستاني ولا السيطرة الأمريكية. لم ينته عصر تدخلات الدول الكبرى، ولكن انتهى بالتأكيد العصر الذي تقرر فيه القوى الأجنبية مصير المشرق وشعوبه. وإن كان لعملية عفرين من دلالة، فهي أن سوريا لم تزل بعيدة عن رؤية الضوء في آخر النفق.