تعد الجهوية بمختلف أنواعها و أشكالها أسلوبا و آلية من آليات الممارسة الديمقراطية حيث من خلالها تمنح الدولة أو الإدارة المركزية سلطات وصلاحيات إلى وحدات ترابية محلية تخول لها تدبير وسياسة الشأن المحلي باستقلال مالي و إداري في إطار وحدة الدولة. والجهوية بشكل عام تعتبر وليدة الفكر السياسي الأوروبي والتحولات الذي عرفها المجتمع الأوروبي خلال عصر الأنوار بحيث أصبحت الجهوية نمطا من أنماط التدبير العقلاني للمجتمع و آلية لتصريف الصراعات العرقية و الإثنية وحسب لجنة الشؤون الجهوية للمجلس الأوربي عرفت الجهة «بالوحدات التي تتموقع تحت مستوى الدولة المركزية، وتتمتع بتمثيلية سياسية مضمونة بوجود مجلس جهوي منتخب». و المغرب بدوره عرف منذ القدم نظام الجهوية بشكلها "البدائي" من خلال نظام الجماعة و كذلك بلاد السيبة و بلاد المخزن . و بعد دخول المستعمر أصبح المغرب مقسم إلى مغرب نافع و آخر غير نافع و لتحقيق المستعمر لأهدافه و مآربه فقد قسم المغرب إلى جهات عسكرية و أخرى مدنية غير أن الجهوية في شكلها الحديث و العصري تبلورت من خلال ظهير 16 يونيو 1971 الذي أسس الجهات الاقتصادية السبع غير أن التحولات التي عرفها المغرب خلال سنوات التسعينات و ظهور ما يسمى بالمسلسل الديمقراطي فقد تم إعادة النظر في التنظيم الجهوي و بالتالي صدور ظهير 2 ابريل 1997 القاضي بتنفيذ القانون رقم 47_96 المتعلق بتنظيم الجهات و هو المعمول به إلى الآن في انتظار تنزيل مشروع الجهوية الموسعة التي تم الإعلان عنها في خطاب 3 يناير 2010 . و تلعب النخبة السياسية دورا رائدا و محوريا في أي مشروع مجتمعي باعتبارها "قشدة المجتمع" و بالتالي هي الوحيدة القادرة على إنجاح أي مشروع ، هكذا فان الحديث عن الجهوية الموسعة باعتبارها مشروعا استراتيجيا يقودنا اتوماتيكيا إلى الفئة الاجتماعية القادرة على تفعيل هذا المشروع ، فالنخبة أو "الأقليات الإستراتيجية" بتعبير باريتو هي وحدها القادرة على تنزيل هذا المشروع على ارض الواقع نظرا لموقعها داخل المجتمع و نظرا كذلك لامتلاكها للوسائل التي تؤهلها لبلورة و نمذجة مشروع الجهوية على ارض الواقع . ماهية الجهوية تتخذ الجهوية عدة أشكال و ذلك نظرا لاعتماد كل دولة لنظام جهوي يوافق خصوصياتها و يلاءم الشروط المتوفرة لديها ؛ و عليه نجد النظام الجهوي الفدرالي في ألمانيا أيضا نصادف أنظمة الحكم الذاتي في مجموعة من الدول كذلك نظام الجهوية السياسية أو الموسعة فضلا عن اللامركزية. فالنظام الجهوي الفدرالي بمقتضاه يتم تقسيم إقليم الدولة إلى وحدات إقليمية وطنية مع منحها استقلالا ماليا و إداريا و سياسيا مع بقاءها تحت سيادة الاتحاد حيث تمارس الجهة جميع السلطات التي تمارسها الدولة باستثناء السلطات التي تهم السياسة الخارجية و كل ما من شانه أن يمس سيادة الاتحاد كالعملة النقدية أو الطوابع البريدية مثلا. أما اللامركزية الإدارية فهي من الأساليب شبه الديمقراطية لإدارة الشؤون المحلية حيث تمنح للمواطنين إمكانية مشاركتهم في إدارة شؤونهم المحلية عن طريق إجراء انتخابات جماعية تكون في دائرة انتخابية ضيقة و بالتالي قرب المنتخب من المواطن هذا القرب الذي يمكن أن يؤدي إلى مراقبته من طرف المواطنين بشكل مباشر. كذلك فاللامركزية هي "أسلوب بمقتضاه يقسم إقليم الدولة إلى وحدات ذات مفهوم محلي ، يقوم على الإدارة في كل منها هيئة تمثل الإرادة الحقيقية للأهالي على نحو يتفق و مصالحهم المشتركة فتمارس الاختصاصات و السلطات المخولة لها بمقتضى الدستور و القانون" . بالإضافة إلى النظامين السابقين نجد الجهوية السياسية التي تتمتع فيها الجهة بسلطات سياسية مهمة، وتحتل مكانة متميزة داخل التنظيم الإداري والسياسي. "إنها الأساس الفعلي للدولة، فهي تتقاسم مع السلطة المركزية الوظائف السياسية في الميدان التشريعي والتنظيمي، وقواعدها محددة دستوريا" . وتعتبر الجهة السياسية أعلى مستويات اللامركزية الترابية، دون الوصول إلى مستوى الدولة الفيدرالية التي تتوفر فيها الجهة على سيادتها التامة مع احترام قوانين الاتحاد. و المغرب يراهن على الدخول إلى نظام جهوي اصطلح عليه في خطاب الملك بالجهوية الموسعة الذي ترك مفهومها مبهما رغم إشارته لأهم الخطوط العريضة لهذا النظام الجهوي المرتقب، فالخطاب الملكي حدد أربع مرتكزات للنظام الجهوي المقبل و هذه المرتكزات هي: التشبث بمقدسات الأمة وثوابتها والالتزام بالتضامن واعتماد التناسق والتوازن في الإمكانات والصلاحيات و انتهاج اللاتمركز الواسع. مع إلحاح الملك على ضرورة أن يكون هذا النظام الجهوي مغربيا مغربيا . غير أن النقاش الدائر حول هذا الموضوع قدم لنا مجموعة من التعاريف الإستشرافية أو بمعنى آخر تعاريف ما يجب أن تكون عليه الجهوية الموسعة. وفي هذا الصدد نجد من يعتبرها "مقاربة للتدبير المحلي، إلا انه تدبير يحوز على درجة متقدمة سواء في التمثيلية الشعبية أو في الاختصاصات والصلاحيات الجهوية التي قد تنظم بمقتضيات دستورية، أو في الوسائل و الإمكانات التي قد تصبح مقسمة بين كل من الدولة كوحدة مركزية و الجهات كوحدات محلية" كذلك فالجهوية الموسعة تعني حسب البعض الآخر "نهاية الدولة المركزية وإعادة توزيع السلطة والثروة والجاه ونظام فرز النخب على أسسٍ جديدة قائمة على توسيع قاعدة المشاركة، وتفويض الشأن المحلي إلى قانون القرب، وإعادة إنتاج القرارات من القاعدة وليس من القمة" . أيضا نصادف من يراها امتحان للكفاءات المحلية في إدارة شؤونها بنفسها إن هذه الرؤية تشكل قطب الرحى في موضوع الجهوية و ذلك نظرا لأهمية الموارد البشرية و مدى عبقريتها في إدارة شؤونها. انه سؤال بشكل عام يلامس النخبة القادرة على إبداع نموذج للجهوية و عبقريتها في تنزيل هذا النموذج على ارض الواقع. تعريف النخبة السياسية تعتبر نظرية النخبة من أهم موضوعات علم الاجتماع السياسي . والنخبة هي تلك الفئة من المجتمع التي تحظى بوضع اعتباري خاص و هي أقلية حاكمة و متحكمة في مختلف زمام الأمور، في مقابل ذلك أغلبية تابعة و منقادة وبعيدة عن صنع القرار السياسي. و يبقى مصطلح النخبة من المفاهيم التي لم يجد لها علماء السوسيولوجيا تعريفا موحدا . غير أنه يمكن اعتبار النخبة هي تلك الجماعة الأكثر قوة و نفوذا وتأثيرا في المجتمع أي النخبة الحاكمة التي تمسك بزمام الأمور والحكم أو التحكم، والتحكم لا ينسحب إلى السلطة السياسية فقط بل يتفرع إلى مختلف حقول المجتمع . و من بين أهم رواد نظري النخبة نجد: ولفريد باريتو و جيتانو موسكا و روبرتو ميتشال فالمفكر الايطالي باريتو اعتبر في كتابه "العقل و النخبة" النخبة أولئك الناس الذين يتفوقون في مجالات عملهم (كيفما كان نوع النشاط الذي يمارسونه) ، و الذين استطاعوا الوصول إلى أعلى مراتب التسلسل المهني ، أما التعريف الضيق للنخبة فباريتو يقوم بربط مفهوم النخبة الاجتماعية بقدرة هؤلاء المتفوقين على ممارسة وظائف سياسية أو اجتماعية تخلق منهم طبقة حاكمة ليست بحاجة إلى دعم أو تأييد جماهيري بحيث تقتصر في حكمها على مواصفات ذاتية تتمتع بها (القدرة على الإقناع و القوة ) وهذا ما يميزها و يؤهلها لاحتكار المناصب . أما جيتانو موسكا و في كتابه "الطبقة الحاكمة" فقد سلّم بوجود في أي نظام سياسي فئتين : فئة حاكمة و أخرى محكومة . فالأولى تتميز بقدرة التنظيم و وحدة الهدف الناتج عن صغر حجم الصفوة وبساطة وسائل الاتصال المتوفرة لديها مما يؤهلها إلى قيادة المجتمع . أما فئة المحكومين فهي عكس النخبة الحاكمة و غير منظمة. إلا أن موسكا يؤكد على الرغبة الدائمة للنخبة الحاكمة لكسب رضى الجماهير. أما بخصوص روبرتو ميتشال و الذي انطلق في تعريف النخبة السياسية من خلال واقع الأحزاب و قد قدم أفكاره في كتابه " الأحزاب السياسية". و قد اهتدى إلى وجود مجموعة من العوامل المتباينة تحدد عمل التنظيمات بدءا من الحزب إلى الدولة فهو يرى أن النشأة الديمقراطية تتحول مع مرور الزمن إلى تنظيمات خاضعة لحكم قلة من الأفراد . وهذه الأقلية تستحوذ على السلطة من خلال في مركز اتخاذ القرار . و لصحة هذه الفرضية فقد قام ميتشال بدراسة الحزب الاشتراكي الألماني . أما في المغرب فإن الحديث عن النخبة و حسب التعريفات السابقة فإنها تشير إلى مجموعة من الأقليات التي تتوفر لها إمكانات صنع القرار أو على الأقل المشاركة في بلورته، فالنخبة المغربية عبارة عن مجموعة من هذا النوع من الأقليات، فهي تلك الفئة من المغاربة الذين يستطيعون لأسباب مختلفة أن يؤثروا في سلطة القرار على المستوى الوطني ، كما في مقدورهم التدخل في توزيع منافع الدولة و فرض مطالبهم ، وقد يرتبط نفوذهم هذا بشبكات الأتباع و الأصدقاء و ذوي المناصب العليا. و هذا ما يجعل النخب عبارة عن شبكة من العلاقات التي تشتغل على السلطة المادية و الرمزية لدوائر إنتاج القرار الموجه للحياة العامة . و تتحدث الأستاذة أمينة المسعودي في دراستها"الوزراء في النظام السياسي المغربي" عن ثلاث شروط يمكن أن تؤدي إلى الإستوزار و بالتالي الوصول إلى النخبة و هذه الشروط هي : "الأصل النبيل" و" المال " و " الرضا المخزني". وعليه فإذا كانت النخبة هي الأقلية الحاكمة، و الجهوية الموسعة نمط من أنماط تدبير المجتمع فأية علاقة يمكن أن تربط النخبة بالجهوية ؟ علاقة الجهوية الموسعة بالنخبة السياسية تعتبر مسألة تجديد النخب مسألة محورية في مسار أي مجتمع إذ يترجم ذلك مدى حيوية المجتمع ومدى قابلتيه لبلورة مشروع حداثي لكون النخبة "مشتلا سياسيا يبلور منظومة من القيم ومشاريع الأفكار التي تطبع هوية ذلك المجتمع ؛ ذلك أن النخبة تبقى في نهاية المطاف مصنعا لإنتاج أفكار ومشاريع المجتمع" و نظرا لأهمية مشروع الجهوية الموسعة التي بادر الملك إلى الإعلان عنه في خطاب 3يناير 2010 باعتباره مشروع استراتيجي طموح و حداثي. فإنه لا بد مِن توفر من يبلور الأفكار و يحدد معالم الجهوية وكذلك لابد مِن توفر من يرسم خطوطها العريضة، و عليه فإن الإجابة عن سؤال من يحدد و يبلور ويرسم هي النخبة أي تلك القلة التي تتوفر لديها وسائل العمل و الإنتاج . من خلال هذه الأرضية تتضح العلاقة بين الجهوية و النخبة السياسية و هذه العلاقة يمكن اعتبارها علاقة تكاملية إذ يستحيل إنجاح أي مشروع حداثي عقلاني لتدبير شؤون الجماعة بدون وجود نخبة قادرة على تنزيله على أرض الواقع و نمذجته بما يخدم مصالح الجماعة. نفس الأمر بالنسبة للنخبة بحيث أن هذه الأخيرة يستحيل عليها إيجاد مكانها داخل المجتمع وفرض وجودها دون توفرها على أفكار و مشاريع مجتمعية تمكنها من السيطرة على الجماهير و بالتالي تحقيق أهدافها . أيضا يمكن الحديث في إطار العلاقة بين الجهوية و النخبة السياسية عن فرص النجاح و إمكانية الإخفاق لأي مشروع مجتمعي يمكن أن تسير فيه الدولة ، و بمعنى آخر فإنه لا يمكن لأي نظام سياسي السير إلى الأمام و تحقيق ما يصبوا إليه بواسطة المشاريع التي ينوي تفعيلها و تحقيق التنمية و الرفاه الاجتماعي عن طريق التدبير العقلاني و الديمقراطي للجماعة، دونما أن يتوفر هذا النظام على نخبة قادرة على تجديد تصوراتها و إبداع آليات و ميكانيزمات لتسيير الجماعة مع احترام شروط و خصوصيات المجتمع المراد تطبيق عليه هذه الآليات. فالجهوية في اسبانيا مثلا لم تكن ليكتب لها النجاح لولا وجود نخبة حاكمة تؤمن بالمبادئ الديمقراطية، و كفاءة النخب المحلية التي تمكنها كفاءتها من تسيير الشأن المحلي و تدبير شؤونها بنفسها مع احترم خصوصيات المجتمع الذي تعيش فيه. أما في المغرب فإن التخوف يكمن في ما مدى قدرة النخب المحلية في تدبير شؤونها في إطار الجهوية الموسعة التي تمكن الجماعات المحلية من صلاحيات واسعة بل تتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي عن المركز ، و يجد هذا التخوف مصدره انطلاقا من واقع الحال التي تعيشه الجماعات المحلية و في التدبير اليومي للشأن المحلي . فالأقليات الإستراتيجية التي تمسك بزمام الأمور لم يكن محدد الكفاءة هو الذي أوصلها إلى مركز سلطة القرار بل كانت محددات أخرى وراء ذلك و هذا ما يسقطنا في ذلك التدبير المصطلح علية ب " التدبير الديماغوجي للشأن المحلي" أي وجود نخب بمستويات ثقافية و علمية ضعيفة و في بعض الأحيان لا تحسن الكتابة و القراءة. من خلال ما سبق يتضح أن مشروع الجهوية الموسعة من بين العناصر التي يتوقف عليها نجاحها نجد النخبة السياسية . فنجاح أو بالأحرى تفعيل و تنزيل مشروع الجهوية على ارض الواقع يستدعي وجود نخبة سياسية وصلت إلى الفئة المجتمعية الحاكمة بواسطة كفاءتها، و ليس بسبب أصلها النبيل أو الرضا المخزني ،كما حددتها الأستاذة أمينة المسعودي . إن مشروع الجهوية الموسعة التي ينوي المغرب تحقيقها لتدبير الشأن المحلي و حلحلة قضية الصحراء. يعد فعلا مشروعا واقعيا قادرا على تحقيق التنمية و سبل العيش الكريم للمواطن المغربي. لكن هذا المشروع في المغرب يبقى رهين النخبة السياسية القادرة على بلورته، و نمذجته في صورة ديمقراطية بواسطة الإيمان بالمبادئ الديمقراطية و بعيدا عن الوسائل التي تعكر صفو الممارسة الديمقراطية . ------------ 1 - عبد الرحيم العطري، صناعة النخبة بالمغرب، دفاتر وجهة نظر (9) الطبعة الأولى 2006، ص 11. 2 - محمد زين الدين، "الجهوية الموسعة و سؤال النخب السياسية بالمغرب"، منشور بتاريخ 20سبتمر 2010، مرايا بريس http://www.marayapress.net/?act=press&id=4816 . 3- ابراهيم شلبي ، المرفق المحلي ، دراسة مقارنة ، دار الفكر العربي ، ط 1 ، 1977 ، ص 23. 4- حزب اليسار الأخضر المغربي، الجهوية، ورش دائم ومفتوح للتطور الديمقراطي والتنمية المستديمة، مساهمة في تأطير المذكرة المزمع رفعها إلى اللجنة الملكية الاستشارية الجهوية. 5- للاطلاع أكثر على مقصود هذه المرتكزات . راجع: محمد زين الدين ، " أي جهوية لمغرب اليوم" ، الحوار المتمدن - العدد: 2965 ، 2010. 6- مهتدي بوزكري، "تساؤلات حول الجهوية بالمغرب من الجهوية الادارية الى الجهوية الموسعة"، مجلة نوافد، الرباط، العدد 45-46 ، 2010 ص 98. 7- عكاشة بن المصطفى، نفس المرجع السابق. 8- حبيب عنون، "وجهة نظر حول الجهوية الموسعة في المغرب" مقال منشور في الموقع الاليكتروني 'مغرس' . 9- عبد الرحيم العطري، صناعة النخبة بالمغرب: المخزن و المال و النسب و المقدس طرق الوصول إلى القمة، مطبعة النجاح الجديدة، الرباط ،ط الاولى، 2006 ، ص 21. 10- الموسوعة الحرة ويكيبيديا "النخبة" 11- محمد الرضواني ، المرجع السابق. 12- نفس المرجع. 13- عبد الرحيم العطري، صناعة النخبة بالمغرب ، مرجع سابق. 14- محمد زين الدين، سريان النخب بالمغرب ، الحوار المتمدن، العدد1611 ، تاريخ 14/07/2006.