ظللت طيلة عمر حراك الريف الجاري منذ ثمانية أشهر حريصا على قراءة المكتوب في الموضوع، منشغلا بتتبع مجريات سجالات كثيرة أوردتها حوامل إعلامية ورقية وإلكترونية ومرئية مختلفة، مواكبا تمثلاتِ الجماهيرِ وأوجهِ تفاعُلِها وتلقيها لمضامين الخطابات وبنياتِها وآثارِها. والحَقَّ أني رَفَلْتُ بمَسَرَّات كثيرة وأنا أطالع مقالات صحفيين وباحثين ومثقفين تنضح بمستويات عالية من النضج والموضوعية، مثلما ساء خاطري أن أكتشف تهافتا وجهلا كبيرا لدى فئة غير قليلة، لا تقتفي من الآثار إلا ما سارت إليه الجموع، ولا تميد بها الأفهام إلا حُيَال الاختزال وإصدار الأحكام، وإلقاء اتهامات حائلة مبتذلة. لا أريد أن أقيد نفسي، من خلال هذه الخاطرة، بقيود العلم الأكاديمي الذي يفرض حدودا قصوى من الحذر والالتزام المفاهيمي والمنهجي، فلا السياق ولا المخاطب يتحملان ذلك، ثم إنه ليس من الحصافة في شيء أن نبالغ في ممارسة التعالي La transcendance إزاء واقع مضطرب، وأن ننتظر مُسْتَقَرَّ الحراك كي نشرع في إحصاء الخسائر، وإعلان التضامن، ونظم المراثي، أو تحميل المسؤوليات وصك الشعارات الرنانة عن وصايا الشهداء، لأن الوقت حينها يكون قد فات وانصرم، ولن يكون من النبالة مديح الشماتة والرقص على الجراح، ولا من الصواب جبر الخواطر والأضرار. لكني لا أريد الاصطفاف، في المقابل، إلى جانب فئة أعتبرها صادقة منزهة من شرور الأهواء ضدا على فئة فاسدة لا هم لها غير تحصيل المكاسب الشخصية. الأمر أعقد بكثير، ومجريات الأحداث عبارة عن تكثيف شديد لسيرورات ومعطيات جرى بعضها في الماضيين البعيد والقريب، وبعضها يجري اليوم على مرمى ومسمع منا، والبعض الثالث يجري خلف سُتُرٍ وحُجٌبٍ شفافة أو صفيقة. قصة عبد المالك بن محيي الدين؛ المثال والعبرة: دعنا نبدأ من حيث انتهت نباهة حكومتنا، وهي تشهر تهمة الانفصال والعمالة في وجه المتظاهرين، مرددةً شريط المؤامرة الذي انشرخ من فرط اجتراره وتكراره. هل يسعى المتظاهرون الريفيون فعلا إلى الانفصال؟ وهل ثمة، جهة ما توجه الحراك وتفعل به ما يفعله شيخ الأراجوز بعرائسه، سائرةً به صوب غايات مكينة تهدد أمن البلد واستقراره؟ يبدو، متيسرا القول بجزم، إن التهمة باطلة، وإن اللجوء إلى المؤامرة لتفسير مجريات الأحداث مسلك ضعيف الحُجّية لا يصمد أمام حزمة من المعاينات والقرائن والشواهد العقلية والتاريخية المختلفة. ينبغي القول، استهلالا، إن سنة النظام العالمي القائم ماضيا وحاضرا أن تسعى البلدان وجماعات المصالح إلى حماية مكتسباتها واستدرار أخرى، وهي تحشر، لذلك، عيونها وأياديها في كل البقاع التي تعتقد أن بها مواردَ أرباحٍ وفوائدَ. ومثل هذا المسعى ليس حكرا على جماعة دون أخرى، ولا على دولة دون غيرها من دول العالم، فأنت تلاحظ حروبا باردة تخوضها دول وجماعات في قلب دول أخرى، متخذة كل مطية ممكنة، شرعية وغير شرعية، دينية، وطائفية، ولغوية، وإيديولوجية، ومطلبية احتجاجية؛ اقتصادية واجتماعية وسياسية إلخ. إن المغرب ساحة تتواجه بها قوى وجماعات خارجية في توارٍ أو وضوح، وهو في الآن نفسه "جماعة/جماعات" لا تدخر جهدا في سبيل الدفاع عن مصالحها الحيوية، قدر مستطاعها، من خلال تحريك عيونها وأياديها وقوى ضغطها في بقاع مختلفة من العالم. أفيكون الريف استثناء، إذا؟ الأمر ليس كذلك طبعا، والريف بدوره محضن مناسب لأجندات "غيرية" غير "وطنية"، وهي أجندات غير خارجية بالمعنى الذي يشيع لدى كثير من الصحفيين والباحثين (جهلا أو تجاهلا)، لأن جدلية الداخل والخارج في مسألة المصالح مضللة على نحو بعيد. وما يبدو "خارجيا" من منظور المجال والجغرافيا هو في أصل الوضع "داخلي" تتساوق فيه المخططات والمصالح. لنفتح شراع الذاكرة والتاريخ، ففيهما الزاد والعبرة. هل منكم من سمع قصة رجل يدعى عبد المالك بن محيي الدين الجزائري؟ من المؤكد أن قلة قليلة، فقط، من المنشغلين بتاريخ الريف الحديث من أحاطها بحثُها وتنقيبُها علما ودرايةً بسيرة الرجل ودوافع صولاته وجولاته بقبائل الريف خلال العقد الأول من القرن الماضي (1914)، وهو يشحذ همم الريفيين ويشد عضدهم بالمال والعتاد، معينا إياهم على مواجهة المستعمر الفرنسي ضواحي تازة وفي محيط ورغة، مستعينا بمقاومين أفذاذ في مقدمتهم عبد الكريم الخطابي (الأب) واعمار المطالسي وغيرهما. أما الكثرة الكاثرة من ساكنة الريف الذين عايشوه أو شاركوا في تحركاته فقلة منها، فقط، من كانت على بينة بأمر وقوفه بجوار دول الوسط وعمالته لفائدة الألمان والعثمانيين، وكيف أن منتهى غاياته كانت دفع الريفيين إلى مواجهة العساكر الفرنسية إشغالا وإنهاكا، وذلك كي يتيسر للدولتين المذكورتين أن تدحرا فرنسا في الحرب العالمية الأولى. ما هو الدرس المستفاد من هذه القصة؟ وهل أخطأ الريفيون وهم يقدمون على مواجهة المستعمر الفرنسي الغاشم؛ لأنهم قبلوا، عهدذاك، الانقياد لرغبة العميل (الأجنبي) وسايروا مصالح الألمان والأتراك؟ الجواب واضح، ومغزاي من سرد القصة واضح أيضا. غافل أو متغافل من يعتقد أن قرارات الشعوب ومسلكياتها شؤون تدار في غرف مغلقة لا تصلها الرياح التي تهب من جهات العالم الأربعة. وغافل أيضا من يظن أن جماعة ما قادرة على الإمساك ب"إرادتها" وجعلها "أصيلة" لا تتقاطع في شيء مع إرادات ذوات أخرى فردية أو جماعية. بالجملة، ما يجري بالريف إفراز موضوعي لاختلالات كبيرة في التدبير السياسي، واحتمال دخول أطراف في معمعان الحراك، بأجنداتها الخاصة، واتخاذه مطية لتحقيق منافعَ أمر متوقع وبديهي، وهذه الأطراف ليست "أجنبية" دائما، بل إن أكثرها داخلي، يسعى إلى تصفية حسابات بينية وازعُهَا المصالح والعائدات المادية والسياسية المختلفة، لذا فإن الحديث عن جهة تستغل الحراك يبدو لغوا يسعى إلى التمويه، ومن شاء الوقوف في وجه جوقة الساعين إلى الركوب على حراك المحتجين عليه الإنصات إلى الطالب والمطلوب، ومن ثم استئصال مسببات الاحتقانات الاجتماعية في جذورها، بحيث لا يجد المتربصون ما يركبون عليه من المطايا غير عيدان القصب. درس الفيزياء: لا شيء يضيع، كل شيء يتحول. ليس سهلا على عقل ألف الاختزال أن يفهم مجريات حراك الريف، وليس متاحا أمام عقل مستأنس بمنطق الزمن القصير والسببية التاريخية (شرارة النار)، ومكتف بهما أن يستوعب تعقيدات الهَبَّة الجماهيرية الجارية راهنا بالمنطقة. إن أقصى ما يمكن أن يسير إليه هذا العقل هو التماهي مع تلكم التحليلات الصحفية الفنتاستيكية التي "تشخصن" الإرادات والرغبات، والتي تجعل من الجماعات قطعانا منفعلة لا فاعلة، تسوسها قيادات تجري بينها صراعات مادية أو علاقات "درامية" منبثقة عنها. ثم إن الغرق في الزمن القصير مدعاة للدجل والخرافة وحياكة الأصنام والقدسيات، ألم يقل فرناند بروديل عن هذا الزمن إنه أكثر المُدَدِ تقلبا وتضليلا. من المؤكد أن أفضل السبل إلى فهم هذا الحراك، وغيره من أشكال الفعل الجماهيري، هي قلب الآية والسير على الأثر المعكوس، أي البحث في ما يعتمل في الجماعات وما تموج به سوافل المجتمعات بالانحدار إلى الماضي، والكشف عن السببية السوسيولوجية (ضغط الغاز) التي تنتج في رحابها الوقائع والظواهر الاجتماعية، والذي تصبح، بموجبه، القيادات والزعامات الفردية نتيجة لا سببا، أي تحصيل حاصل لا تستطيع الفكاك من سطوته إلا بمقدار. بلسان المجاز نقول إن صناعة العربة ومسيرها بهذا المعنى يَتِمَّان، من أسفل إلى أعلى، وإن هي سارت من أعلى إلى أسفل، فمن باب توجيه المقود بهدف الانعطاف قليلا أو تخفيف السرعة ليس إلا. ليس ثمة أفضل من استدعاء الزمنين المتوسط والطويل لفهم مزاج الريفيين ومتخيلهم وأشكال تمثلهم للسلطة والتنظيم وعلاقتهم بالمخزن السلطاني. فبعض ما يجري اليوم شبيه بما جرى في لحظات تاريخية منصرمة، والبعض الآخر إفراز طبيعي لما تراكم على امتداد قرون بقوة الجغرافيا والمحيط البيئي والسياسي وما اتصل بها من عوامل متعالقة (أوبئة، حروب، زلازل، نشاط هجروي..). إن حدثا بقوة الحراك الريفي الذي يجري اليوم لا يمكن اختزال بواعثه في حادثة مقتل محسن فكري، لأن الحدث المذكور ليس سوى وجها حاصلا من وجوه كثيرة لم يكن من بُدّ سوى حصول أحدها ليشكل شرارة الاحتجاج والغضب، واللحظة كانت لحظة اشتداد وتوتر تتجاوز قوتها قوة إرادات فردية، بله لحظة ارتجاج انبثقت في رحابها روح تاريخية هي جماع تراكم من البنيات والأحداث القديمة والوسيطية والحديثة والمعاصرة. يعنينا كثيرا، أن نتحدث هنا عن مسمى "الريف" و"المخزن" وما جرى ويجري بينهما من صلات وعلاقات، كي ينقشع ضباب كثيف محيط بالموضوع يمنع الرؤية الموضوعية إلى الأشياء والأحداث. وسنبدأ من حيث انتهى البحث التاريخي الجاري في شجون الصلات بين الاثنين على مر العصور، دون استعراض تفاصيل كثيرة ليست نافلة، غير أن المجال لا يسمح باستدعائها في هذه الخاطرة الموجزة. إن اللفظين منتميان إلى فضاء التنظيم التقليدي الذي شهده المغرب منذ قرون، أو لنقل إنهما متجايلان من حيث إحالتهما على شكل قديم من أشكال التنظيم الاجتماعي التي ابتدعها المغاربة في سياق سعيهم إلى تدبير علاقاتهم الاجتماعية وحرصهم على تطويع البيئة والتكيف معها خدمة لحاجاتهم المختلفة. لكنها مختلفان من منظور جوهراني اختلافا بائنا، فالريف لفظ يحيل على مجال إثنوثقافي مائع الحدود سواء من زاوية النظر التزامنية أم التعاقبية، بينما يحيل المخزن على جهاز سلطة ونفوذ يماثله من حيث الوظيفة مفهوم الدولة الأوروبية الحديثة. أليس حريا بنا، أولا، التساؤل عن سر صمود الاثنين في ظل تحول جارف في نظم العيش المغربية؛ اقتصادية واجتماعية وثقافية مختلفة. لن نخوض في سر صمود المخزن لا بصفته دالا ولا مدلولا، فقد سبقنا إلى ذلك باحثون أفذاذ أَعْلَمُ منا بتاريخ المغرب وبنيات انتظامه السوسيولوجية والأنثروبولوجية، لكن وإن كان مفيدا بعض الاستطراد في هذا الجانب، فالحري بالقول إن المخزن أعقد مما تحاول بعض الكتابات الاختزالية إظهاره، ولاسيما تلكم الكتابات المنقادة للمرجعيات الإيديوسياسية. وفي طليعتها حزمة من الأدبيات السياسية التي تتوهم المخزن قوة "غيرية" تقع في مواجهة مع قوة ثانية هي "الشعب". المسألة أشد تعقيدا بكل تأكيد، والمخزن جسم تاريخي شارك المغاربة في نحته منذ عصور خلت، لأنه الشكل السياسي الذي كان يستجيب لاحتياجاتهم المختلفة؛ وسيلةً لجلب المصالح ودفع الضرر والتصدي للأعداء. وهو الشكل الذي ظل يتلون ويتطور مع تعاقب السلاطين وانقلاب الأحوال المحلية والإقليمية والدولية. أما القول إنه كان وسيلة شطط وتجبر في أحايين كثيرة، فقول صحيح بالنظر إلى ما كان يعتمل من قيم مماثلة في بنيات السافلة ومسلكياتها الاجتماعية، دون أن يعني ذلك سعيا منا إلى وضع المتجبر والضحية في كفة واحدة؛ لأن القوة والمسؤولية صنوان، ومن يملك السلطة مسؤول ومحاسب على سبل تصريفها. عود إلى الريف، وإلى دواعي صموده بوصفه انتماء هوياتيا رغم انصرام أكثر من نصف قرن على دخول التقطيع الترابي الجديد حيز التنفيذ (عمالات، جهات، قيادات..). وهل من العقل القفز على معطى من هذا القبيل بدافع الحرص على المشترك والوحدة الوطنية؟ ثم هل من الحكمة تبخيس ذاكرة الريفيين واختيار طريق التصادم مع من يتخذونهم قُدْوَاتٍ ورموزا؟ ليست الهوية غير مكان وذاكرة. والريف يملك هوية ذات خصوصية صقلتها اعتبارات كثيرة، جعلت مزاجه الجمعي منمازا قليلا عن أمزجة مجالات مغربية أخرى مجاورة أو بعيدة. لقد أثرنا آنفا على سبيل التمثيل تأثير عوامل جغرافية وتاريخية مركبة، وَلَرُبَّ قائل يقول إن نصيبا من هذه العوامل ليست حكرا على مجال الريف فقط، إذ نجد لها مثيلا بمجال جبالة والأطالس إلخ، لذلك ليس لنا من مناص سوى أن نعرض المحددات الرئيسة التي صمد بموجبها الريف رغم زوال موجبات تشكله السوسيوتاريخية. وهي محددات تقع، عموما، في تقديرنا، ضمن خانتين: أ- الاعتداد بالأنا الجمعية: وهو اعتداد ناشئ عن تجربة الريفيين الرائدة في مقاومة الاستعمار، وتأسيس الجمهورية الإتحادية لقبائل الريف سنة 1921، والتي استطاعت أن تصمد، لخمس سنوات، في وجه مستعمر غربي متطور العتاد الحربي يُحْدِقُ بها من كل الجهات، بل وأمكنها، أيضا، بناءُ مؤسسات دولتية رغم ضعف الإمكانيات وقساوة الظروف الموضوعية القائمة آنذاك، ومباشرةُ مشاريعَ متقدمةٍ سعت إلى تأهيل المجال. وهو اعتداد زاد من تضخيمه تهميش الدولة رموز المقاومة الريفية بعد الاستقلال، ونزوعها إلى إخراس صوت التاريخ الاجتماعي. وهو ما كان من نتائجه أن تَمَلَّكَ الريفيون، لوحدهم، أيقونية الأمير مولاي موحند. ب- الانتقام المؤسسي لجهاز الدولة: لا نعني هنا مجموع الحَرْكات التي كان يبعث بها المخزن السلطاني لإخماد ثورات القبائل الريفية وتمرداتها على ممثليه المحليين، والتي كانت تنشأ عن شطط القُواد وثقل الضرائب التي كان الفلاحون ينأون بحملها سنوات الجدب والجوائح، ولا نعني، كذلك، طوابير المحلات التي كانت تتجه صوب الريف لإجبار قبائله الساحلية على الامتثال لمضامين معاهدات تجمع البلد بدول أوروبية في قضايا الملاحة والتجارة وغيرهما، فمثل هذه الحركات والمحلات كانت تلاحق المتمردين على أوامر السلاطين وأهوائهم، وتبطش بالقبائل في كل ربوع المغرب، وبخاصة سنوات اشتداد عضد السلطة المركزية. إن ما نعنيه هنا هو أحداث الريف الدامية التي جرت سنتي 1958-1959، والتي نُكّل فيها بمحتجين ريفيين مسالمين رفعوا مطالب اجتماعية مشروعة، ثم ما تلاها من عقاب جماعي طال البشر والشجر والحجر، تم بموجبه إبطاء عربة التنمية إلى أقصى الحدود الممكنة، مما اضطر كثيرا من الريفيين إلى الهجرة إلى أوروبا أو العمل بمسلكيات اقتصادية غير مشروعة (تهريب، اتساع دائرة مزارعي الكيف..). كما نعني أيضا أحداث انتفاضة عام 84 التي كانت نتيجة وسببا في آن معا؛ نتيجة لما روكم من تهميش خلال عقود ثلاثة، وسببا إضافيا زاد من منسوب المظلومية لدى ساكنة المنطقة. هذه الأحداث وما واكبها من صنوف التهميش، زادت من شحذ الذاكرة الجمعية، وأشاعت في النفوس إحساسا بالانتماء إلى مجال واحد، مضطهد من المنظور التنموي، ومتروك لإرادوية غير مؤسسية، مثلما زاد من تكريس الوضع، أيضا، ضعف تمثيلية الريفيين في مؤسسات الدولة (المدنية والأمنية والعسكرية)، سواء بالمصالح والمرافق المحلية أم المركزية، وكذا تغييب اللسان الأمازيغي (الريفي) وحوامله الفنية تغييبا مطلقا في الإعلام المرئي العمومي. علاقة الريف بالمخزن في مغرب ما قبل الاستعمار: أو عندما يتعب الطارد والطريد. بعيدا قليلا عن محددات الخانتين المذكورتين آنفا، ثمة أمر يجب أن يثار بموجب إشراطات السياق، وهو لجوء المخزن إلى مسلك المرونة في تعامله مع مجال الريف خلال مراحل طويلة من تاريخه، ولاسيما بعدما خبا وميض مرسى بادس المتوسطي، وانتقل النشاط الملاحي المغربي إلى السواحل الأطلسية (منذ العهد السعدي)، وهي مرونة انبثقت في سياق علاقات الشد والجذب التي كانت تقوم بين الاثنين لأسباب مختلفة، إذ كثيرا ما كان يتوافق الإثنان، تصريحا أو تلميحا أو بقوة التدافع، على صيغة من صيغ تدبير المجال، بعد أن يأخذ منهما الصراع مأخذه (يوح'ر ووشّن، يوح'ر ووشّاي- تَعِبَ الذئب وتعب السلوقي)، على نحو يظهر منه أن علاقة الريف بالمخزن لم تكن علاقة خضوع تام كما كان حاصلا بالمجالات القبلية المحيطة بمراكز النفوذ المخزنية، ولا علاقة قطيعة تامة يتصرف بموجبها الريفيون باستقلال عن أجندات المخزن ومصالحه الحيوية. يستشف مما سبق ذكره أن خصوصية المجال واقع عنيد لن تزيحه شعارات المتذاكين من فئة السياسيين والصحفيين، الذين أعمى بصيرتهم نموذج الدولة-الأمة القائم على مبدإ الهيمنة وصهر التنوع، وإسكات صوت الاختلاف، والحديث المخاتل عن المواطنة والمساواة. فهؤلاء يعتبرون الإقرار بالتمايز الإثنوجهوي دعوة إلى تكريس الميز بين المواطنين، بينما الحقيقة الساطعة هي أن الإمعان في القفز عن الخصوصيات الإثنوثقافية للجهات هو ما يزيدها اتساعا، تضيق بموجبه دوائر التعبيرات الثقافية المشتركة بين جهات الوطن المختلفة. يستشف أيضا أن الصيغة الخاصة التي توافق عليها الريف والمخزن لتدبير شؤون المجال هي التي سمحت بتثبيت حد من الاستقرار بالمنطقة، وبموجبها أيضا أمْكَنَ الريفَ والريفيين أن يتشبعوا بحس الانتماء إلى الوطن، وأن يتلبسوا بما يحتاجونه من البأس والعتاد والضراوة اللازمة لمواجهة الأطماع الاستعمارية لدول لشمال المتربصة بالمغرب منذ القرن السادس عشر. فما مآل هذه الصيغة بعد الاستقلال؟ اختلال ميثاق التوازن التاريخي بين الريف والمخزن: توغل السلطة المركزية وبؤس خيارات التنمية. تحدثنا آنفا حديثا عابرا عن التهميش الذي تعرض له الريف منذ استقلال المغرب، وأثرنا ما ظهر في سياق هذا التهميش من نزوح هجروي وسبل اقتصادية غير مشروعة، فُرض على ريفيين كثر أن يقتفوا أثرها لسد الرمق والعيش بقدر من الكرامة، وإذا شئنا أن نضيف عوامل أخرى من عوامل ارتفاع منسوب الضغط الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة، فهي بالتأكيد فَقْدُ خيار الهجرة بريقه بفعل الأزمة الاقتصادية التي مست الدول الأوروبية، ونقص الأرباح المتحصلة عن التهريب المعيشي، وحصر زراعة القنب الهندي وانخفاض الطلب الدولي عليه لأسباب مركبة. سنشرح الآن من زاوية سوسيوسياسية مجريات الأمور في ظل التهميش المؤسسي الذي تعرض له الريف، وصلة ذلك بالتعاقد التاريخي (غير المعلن) بين الريف والمخزن السلطاني. إن الحاصل أن تَنَفُّذَ المخزن وتغلغلَه عن طريق مؤسسات الدولة، بعد الاستقلال، واستبداده ورفضه إشراك الريفيين في تدبير شؤونهم، كان أمرا طارئا لم تعهده المنطقة من قبل، نتج عنه اختلال مفاجئ لميثاق تاريخي عَمَّرَ طويلا بين الاثنين. أما ما زاد من تكريس الوضع فهو ما ذكرناه من عقاب مؤسسي جماعي استمر عقودا طويلة. أصبح معه سلوك المخزن (الدولة)، سواء في سعيه إلى تطبيق (القانون) أم في إقدامه على خرقه وانتهاكه، كسلوك من حبس شخصا وتركه بغير زاد، فلا هو أطعمه ولا هو تركه يأكل من خشاش الأرض. والذي يحضرني في ختام هذه الخاطرة تعبير كان يتردد على ألسنة الريفيين قبل الاستعمار، يخصون به "أمغار" الجماعة إذا بدر منه ما يستحق الامتداح، فقد كانوا يقولون: (ايتييش ءاغروم، ايتعان ءاعموذ)، أي ما معناه بالتقريب: (إنه قاسٍ وجَوَاد)، والحق أن تَينَك الصفتين ليستا حكرا على الأمغار الممدوح، بل هما صفتان منسحبتان على جهاز الدولة الحديثة (احتكار العنف، وخلق سبل التنمية). فهل تلبست دولة ما بعد الاستقلال بالصفتين كلتيهما في تعاملها مع الريف؟ باحث وأكاديمي مغربي