على مقربة من منطقة الكوم الأخضر بشارع الهرم في الجيزة في مصر. استوقفني مقهى «كوفي شوب» تزينه الأضواء البراقة واللوحات المنقوش عليها رسوم لأطفال صغار ومكتوب عليها «جزيرة الأقزام». المقهى يبدو غريبا من اسمه، وأثناء وقوفي على الباب وجدت جميع العاملين من الأقزام، حتى أنه مصمم بترابيزات ومنضدات قصيرة حتى تناسب الأقزام العاملين فيه، الذين لا تتعدى طول قامتهم 85 سنتيمترا. «الراي» زارت المقهى ووجدت فيه بداية حالة من الدفء، تشعر بها داخل المكان بسبب المعاملة الطيبة من زبائن المقهى لهؤلاء الأقزام الذين تبلغ أعدادهم نحو 8 أقزام (بنتان و6 شباب). اصطحبني إلى إحدى الطاولات الفارغة محمود عزو الشهير ب«بوجي (23 عاما)، وكان يرتدي بنطلونا وتي شيرت برتقاليا، وهو زي المقهى الرسمي، حيث قال لنا في البداية إنه كان يخاف من العمل خوفا من سخرية الناس، ولكن الحل كما قال له والده ليس في العزلة والانطواء فالحياة مليئة بالصعوبات وأكل العيش مرّ والاستسلام ليس هو الحل. بهرتني جرأته وإصراره على العمل، وأثناء حديثه معي دخل علينا - محمد المصري - «مهمته في المقهى تقديم المشروبات والمأكولات» - حصل هذا العام على بكالوريوس إعلام - جامعة القاهرة بتقدير جيد جدا، وكل أمنياته كما قال لنا أن يصبح مذيعا وأن تكون «معاناة الأقزام» أول قضية يطرحها في برنامجه. وأضاف محمد ل «الراي» «نعيش في عالم مظلم تضيع فيه مطالبنا فلا أحد يهتم باحتياجاتنا على عكس المعاقين الذين يمثلون 5 في المئة من السكان، مطالبا المجتمع بأن يغير نظرته للقزم، فهو إنسان وليس كائنا غريبا يثير السخرية». وحكى لنا قصته قبل مجيئه إلى المقهى فهو يعمل منذ أن كان في الصف الخامس الابتدائي لمساعدة والده الذي يعمل نقاشا وأيضا إخوته الصغار. وأضاف «تشجيع أبي لي على العمل واحترام صاحب المقهى لنا ومعاملته بإنسانية معنا دفعني للتفاني في العمل»، مضيف «كوني قزما خلق لي نوعا من التحدي، فكنت أحلم بدخول كلية الطب ولكن القدر لم يمنحني هذه الفرصة بسبب صغر مجموعي». قصة محمد لم تكن الوحيدة، وإنما هناك العديد من المشاهد الإنسانية التي رأيناها أثناء وجودنا بالمقهى، ومنهم - هالة حمدي - الفتاة المغتربة التي أتت من محافظة الإسكندرية بحثا عن لقمة العيش، حيث قالت لنا ببساطتها إنها حاصلة على دبلوم تعليم متوسط وجاءت إلى المقهى من خلال أحد زملائها في المسرحية التي كانت تقدمها على خشبة المسرح القومي للطفل، مضيفة «ان تصميم المقهى شدها لأنه يتلاءم مع الأقزام، فالطاولات قصيرة تساعد على وضع الطلبات للزبائن عليها بسهولة، مشيرة إلى أن المقهى ربما يغير المفهوم السائد عن القزم بأنه شاذ عن المجتمع». وقالت ل «الراي» «أفادتنا هذه التجربة في التعامل الشخصي مع الآخرين بصورة مستمرة، خاصة أن الناس كانوا عندما يرونني في الطريق يصابون برهبة وكأنني أعاني من عيب خلقي!». أما عبدالرحمن إبراهيم الشهير ب «سلطان الشيشة» لم يكمل تعليمه واكتفى بالإعدادية فقال لنا «كنت أفضل العزلة وعدم الاختلاط بالناس لأنهم يسخرون مني ويضحكون عليّ، ولكني وجدت في المقهى أغلب الزبائن يتعاملون معنا معاملة طيبة». حاولت «الراي» أن تلتقي بصاحب هذا المقهى لمعرفة الأسباب الحقيقية التي دفعته لإنشاء هذا المقهى. وبالفعل التقيناه وهو يعمل مرشدا سياحيا في أواخر العشرينات من عمره ويدعى باسم عطية سالم، حيث قال لنا إنه من الإسكندرية ولن ينسى ما شاهده منذ 4 أشهر تقريبا، حينما رأى قزما يسير مع زوجته فتهجم عليه بعض الصبية وظلوا يقذفونه بالطوب ويسخرون منه. وأضاف «كان هذا أكبر دافع لي لإنشاء هذا المقهى، فضلا عن ارتباطي بصديق قزم عشت معه مراراته اليومية». وأكد أنه لم يفتح هذا المقهى للكسب التجاري، خاصة أن ميزانيته تغطي بالكاد رواتب العاملين، وقال إنه اتفق مع محامٍ لإشهار جمعية «قصار القامة» تتولى مساعدتهم على الاندماج في المجتمع بصورة إيجابية لتكسر حالة الخوف الرهيب التي تتملكهم عندما يختلطون بالناس ما يدفعهم في أحيان كثيرة للانعزال ورفض الخروج إلى الشارع الذي يستهزئ بهم حتى إن كثيرا منهم لا يستكملون تعليمهم أو يتسربون قهرا من التعليم. وحكى لنا باسم الصعوبات الكبيرة التي واجهته في تدريب الأقزام على خدمة الزبائن، فمتوسط أطوالهم تتراوح ما بين 76 و85 سنتيمترا، وهناك بعض الطاولات الطويلة على أجسامهم وأيديهم صغيرة، لذلك حاول تصميم طاولات قصيرة بحيث يستطيع القزم وضع ما يطلبه الزبائن أمامهم بسهولة. وأوضح أن الرواتب تتجاوز 500 جنيه شهريا، وأنه استطاع التأمين على 3 أقزام، مشيرا إلى أن القزم حساس وله كرامة، ومن خلال تواجده اليومي في المقهى وجد أن هناك انسجاما عاطفيا بين القزم والزبائن حتى أن كل مجموعة أصبح لها قزم يخدمها. نعمات مجدي