إذا صٌحّت الرواية التي تصف موت الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي ، فسيكونان ، على حد علمي ،من طلائع المثقفين العرب بالتعبير المعاصر الذين دفعوا الثمن غاليا عن الإيمان بحتمية الصدام بين المثقف والسلطة... فقد كان غيلان الدمشقي ، صاحب الجعد و شريكه في الوعي و النهاية ، قد صلب على أبواب دمشق أياما قليلة بعد ذبح صاحبه ، لا لشيء إلا لأن الرجلان رفضا أن يُحوّلا الفكر والثقافة إلى مهرج و راقصة في بلاط الخليفة ....حيث تروي كتب التاريخ والسير أن اليزيد بن عبد الملك كتب إلى واليه على العراق خالد القسري ، يحثه على وضع نهاية للجعد بن درهم . فاعتقله الوالي وقيده إلى قوائم المنبر ثم قام ليخطب خطبة العيد . فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : " انطلقوا عباد الله فضحوا ضحاياكم ، و سأبدأ بأضحيتي ، فاني مضحّ اليوم بالخائن المارق الجعد بن درهم " . ثم نزل من على المنبر و أحضر له حراسه سكينا ، فذبح ذاك "المثقف" ، و الجماهير تهلل و تصيح بحياة الخليفة حامي الحمى . و لا يمكن فهم حقد الخليفة على غيلان و الجعد ، دون الرجوع قليلا إلى الوراء ، إلى الأيام التي سبقت توليه الخلافة يوم قرر سلفه عمر بن عبد العزيز أن يعيد لبيت مال المسلمين ، ثروات أقربائه اللذين استغلوا بطش السلطة لجمعها بالباطل . فانتدب لذلك غيلان الذي كان يجمع أمتعة القصور و ينادي : "تعالوا إلى متاع الخونة ! تعالوا إلى متاع الظلمة !". و كان اليزيد يسمعه ، فكتمها في صدره حتى آلت إليه الخلافة . فكان أول قرار اتخذه هو التخلص من غيلان الدمشقي و الجعد بن درهم و أصحابهما اللذين بدءوا يشكلون خطرا حقيقيا على دولة الخلافة ... و يقال ، و على ذمة الرواة دائما ، أن اليزيد صلب غيلان و قطع يديه و رجليه ، فاستمر الرجل ، مع ذلك ، يخطب و يحرض الناس على سلطة السلطان حتى أرسل له اليزيد من يقطع لسانه ... و من يومها وُسمت بالدم علاقة السيف بالقلم . و أدرك المثقف ( الفقيه أو العالم بلغة ذاك الزمان ) أنه أمام خيارين كلاهما صعب : الوقوف بباب الله أو الوقوف بباب السلطان . فظل موٌزّعا بين موقفين على طرفي نقيض : التقرب من الحاكم فيضمن سلامته و يزيد عليها الرزق و الجاه والرعاية ، أو أن يزهد عن ذلك كله و يركن إلى العزلة عن الناس و شؤونهم . فهو كما يعبر ابن المقفع : " إما أن يكون مع الملوك مكرما ، و إما مع النساك متبتلا " . في المجتمعات العربية القديمة كان العلم/ المعرفة / الثقافة ميزة تميز صاحبها عن غيره . وكان العلم المطلوب عادة هو العلم الديني الذي يترتب عنه نفوذ يكتسبه الشيخعدد القراء : 144 | قراء اليوم : 2