في قديم الزمان، وفي ليلة حالكة قام من جبال سوس العالمة رجل نحيف الجسم طويل القامة لا يظهر عليه أثر السفر وتعرفه كثير من النخب الفكرية والسياسية خرج هذا الرجل،و صاح بأعلى صوته: أيها الحكام أيها السلاطين أيها الرعاة اتقوا الله في امة محمد بن عبد الله وأعطوا لكل ذي حق حقه، فالقبر أمامكم والبحر خلفكم وأمواجه عن أيمانكم وشمائلكم ليس لكم إلا التوبة أو الغرق... لكن ظلت جنبات الجبل صامتة هامدة إلا من صوت الراعي الذي أخرج منشورا طويلا كتب على ظهره: خذوا هذا المعتوه إلى الحظيرة ودعوه يلاعب الحمقى والمجانين، وعلقوا صاحبيه على حافة النهر الجاري بالدماء ومضت أيام وشهور زادت الضعف قوة والهوان عزة، وعلى رنات غير مسبوقة خرج الرجل النحيف من الحظيرة بعد رحيل صاحبيه عن الحافة، خرج مبعبعا غير مبال بصهيل السلطان، خرج يهدر كالموج ويقصف كالرعد ويزأر كالليث حتى انك لتحسبه في بعض ما يكتب ويقول مقاتلا في معركة لا مجادلا ولا محاورا في قضية صاح مرة ثانية: أيها العلماء أيها الحكماء أيها الفضلاء من هنا الطريق، هلموا إلى باحة السفينة وخذوا مواقعكم فأنتم السراج الوهاج في دياجي الليالي، فساد صمت رهيب حتى همس السلطان في آذن المنصة: ماذا أصابكم وأخرص ألسنتكم انتم أمناء الرسل وورثتهم أتدعون هذا المعتوه يحرض عليكم السوقة من الناس هلموا أخرجوا سيوفكم واحموا دين أجدادكم وأسلافكم فازدادت حدة الصمت وسط جموع العلماء وصاروا حيارى كالأيتام في مئذبة اللئام سيف السلطان على رقابهم وصوت الجنة في وجدانهم ومهجهم والعامة من الناس تنتظر بزوغ الفجر من حظيرتهم، ثم انتفخت أوداجهم وصاحوا على نغمة رجل واحد: من أنت أيها المعتوه حتى تنغص علينا راحتنا وتفسد علينا نعيم حياتنا، أليست هذه قلة علم وسوء أدب مع الراعي سليل الأنبياء وحفيد الأولياء لكن الرجل ظل صامدا لم تتحرك فيه شعرة هلع ولا شهوة طمع، والتفت مناديا صوب اليمين حيث القوم وسادتهم: أيها السادة الكرام والزعماء الأفاضل جمعكم جمع رحمة وصفكم فيه حكمة، هلموا إلى سفينة النجاة... ترك هذا النداء الجبهة الداخلية يموج بعضها في بعض لكن هيهات أن يصعد أحدهم السفينة، وصاحوا على نغمات وملذات الحياة: يا أخانا الكريم كيف نبحر معك ونحن جماعة وأنت واحد ونحن العلماء والحكماء نعصي ونعارض وأنت من حظيرتهم خرجت... فكيف تسوي بين الثرى والثريا على هذه النغمات التي يرد صداها الجبل وترد مداها جنبات السفينة أدرك الرجل النحيف أن الوسع صار ضيقا والأمل أصبح سرابا ولن يلج السفينة إلا دراويش القوم وبعض سادتهم، ساعتها مال الرجل برأسه وجسده إلى عامة القوم وبعض سادتهم، وصاح الرجل النحيف في هذه الجموع البشرية المجتمعة على قمة وسفح الجبل: يا سادة الكرام في أذن الجائع لا يسمع إلا صوت يبشر بالخبز وفي وعي المقهور المحقور لا يتضح إلا صوت يبشر بالحرية والرحمن يريد لنا الخبز والجنة هلموا يا قوم اصعدوا السفينة فهي ملاذ الحياري والتائهين سفينة تحملنا إلى شط العدل وإلى مقام الإحسان وما هي الا لحظات حتى صارت بعض جنبات السفينة ملأى بالرجال والنساء والأطفال ثم انطلقت السفينة في الإبحار غير مبالية بما يصدر حولها من أصوات تهول من عملية الإبحار... ومنذ تلك الفترة ورماة السلطان يقذفون السفينة بكل أنواع الأسلحة محاولين إحداث تقوبا وتغورا بها، وكان آخر هذه المحاولات ما حدث في مدينة العلم والعلماء، بحيث تسلل أحد رماة السلطان داخل السفينة لكن حراس السفينة كانوا له بالمرصاد، فلاذ بالفرار إلى حظيرة السلطان حاملا معه بعض القشور و الزعانيف... [email protected]